تفسيــــر  سـورة الفاتحة


التربية الإلهية مبدؤها الرحمة

{رب العالمين}

- العالمين : كل ما سوى واجب الوجود.

والعالم قسمان :

* عالم علوي “والمراد به ما ارتفع من الفلكيات من سماوات وكواكب وغيرها”(1).

* عالم سفلي : “والمراد به كل ما نزل من الفلكيات كالهواء والسحاب والأرض  وما فيها كالمعادن والبحار والسحاب والنبات وغير ذلك”(2).

- رب : قال الراغب الأصفهاني : ” الرب في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام. يقال رَبَّهُ وَرَبّاهُ وَرَبَّبَهُ… فالرب مصدر مستعار للفاعل ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات”(3).

فالله عز وجل ” بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيها على الاستحقاق الذاتي، عقب بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقا به أيضا لأن وصف المتعلَّق متعلَّق  أيضا، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال {يوم يقوم الناس لربالعالمين} ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضا للحمد كما استحقه بذاته”(4).

وصفة الربوبية تعني التنشئة والمتابعة والتربية طورا بعد طور، والله عز وجل مرب لكل العوالم لأنه عز وجل هو منشئها وموجدها، فكيف يكون قادرا على إيجادها وغير قادر على متابعتها بالإمداد المبقي على وجودها؟

“لنتأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات، فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوانات، ولم يخلق فيها حركات تنبعث بها ولا آلات توصل إليها غذاءها، جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتجذب الماء من الأرض، فتتغذى بها أصولها وما علا منها من الأغصان والأوراق والثمار، فصارت الأرض كالأم المربية لها، وصارت أصولها وعروقها كالأفواه الملتقمة لها، وكأنها ترضع لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان من أمهاتها”(5).

ثم إن هذه الأشجار والنباتات لا شك أنها كانت، قبل أن تصبح على ما هي عليه، عبارة عن بذور ضعيفة مَهِينَة زوَّدها الله عز وجل بمناعة وقوة خاصتين تخضعان لأسباب خاصة ليصل بها الأمر إلى نباتات ضخمة لها منافع أضخم بالنسبة للإنسان. قال الإمام الغزالي : “ثم تأمل خلق الحَب والنوى وما أودع فيه من قوة وعجائب كالمودع في الماء الذي يخلق منه الحيوان وهو سر لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه”(6).

فلنتأمل كيف تصبح البذرة بعد أن توضع في التراب وتبلل بالماء منتفخة صالحة لأن يخرج منها شيء من جهة ما، لكن الله عز وجل وبتربيته لهذا النوع من الكائنات لا يقبل إلا أن يخرج من هذه البذرة نوعان من العروق؛ إحداهما صالحة لأن تغوص في الأرض وترِق وتدِق كلما غاصت حتى تصبح في آخرها كأنها ماء متجمد، والأخرى تخرج من على سطح التراب ليتكون منها غصن جذع غليظ تستوي عليه أغصان متفرعة مغطاة بأنواع من الورق والثمر.. ثم ينمو ذلك كلما توفرت الأسباب الكونية خاصة ما يتعلق بوجود الماء. وإذ ذاك تظهرعظمة الله في التربية للنبات، والأعجب من هذا أن الجنس الواحد من البذرة يعطينا أنواعا من الألوان والثمار والأحجام وغير هذا مما يظهر من عجائب النباتات مع اختلاف أنواعها. “انظر كيف رتب البارئ الأشجار والثمار والأزهار وجعلها مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح، فأشكالها ما بين طويل وقصير وجليل وحقير، وألوانها ما بين أحمر وأبيض وأصفر وأخضر…”(7).

فالتربية الإلهية متصلة بكل أنواع الكائنات في اختلاف العوالم “من حال النقص إلى حال الكمال وغايات التمام، فهو الذي يتعهد النبات بالتغذية والإنماء، وهكذا الحيوان والإنسان، وكذا العوالم العلوية، وهذه هي التربية التي كان مبدؤها الرحمة”(8).

التربية الالهية هدفها فلاح الانسان والعطاء قبل السؤال

ثم إن التربية الإلهية في مقصدها العميق مختلفة عن تربية الكائنات المخلوقة : فالله عز وجل يربي لِيَربح المخلوق الذي يربيه، وأما الكائن المخلوق فإنه يربي ليربح هو على ذلك، بمعنى أن الله عز وجل يربي كائناته خاصة ما يتعلق بالبشر ولا يقبل إلا الرضا والبذل والمزيد من طلبه، وأما الإنسان فإنه إذ يربي فإنه قد يرجو ويتمنى لو أن ولده الذي يربيه مثلا يفارقه أو يخفف عليه من الطلب، ولذلك ورد : “إن الله يحب العبد الملحاح” كما ورد كذلك : “خلقتك لتربح عليَّ لا لأربح عليك”. ومن هنا يبقى على العبد المعترف حق الاعتراف بربوبيته سبحانه وتعالى التضرع والخشوع.

إن من ميزات التربية الإلهية كذلك أنه سبحانه وتعالى يُعطي قبل أن يُسأل ومن ذلك أنه سبحانه وتعالى يوجِد الكائن دون أن يطلب منه ذلك، ولو شاء لتركه في العدم، وهذه هي نعمة الإيجاد، كما أنه سبحانه وتعالى يعطي ويُمد مع الاستحقاق أو دون ذلك : بمعنى أنه سبحانه يمد كائناته خصوصا البشر بنعم عظيمة سواء كان ذلك عن استحقاق أو غير استحقاق، فهو يُمد الكافر والملحد بنعمشتى، كما يُمد الصالح المتقي بنعم كثيرة، وكما يُمد كذلك الكائنات الأخرى على اختلافها بإمدادات عظيمة … وهذا من رحمته سبحانه، ولذلك فإن من الحياء معه سبحانه سؤاله.

جهل حقيقة الربوبية

في حياتنا اليومية

إن كثيرا من المسلمين يرفضون شرع الله عملا نتيجة سوء فهمهم لحقيقة الربوبية : فقد نرى في حياتنا اليومية أن الناس يتصرفون تصرفات منافية للشرع الإسلامي الذي هو دستور البشرية كافة والمسلمين خاصة، كل ذلك ناتج عن تغافلهم عن الربوبية، فلو أن الإنسان فكر في نعم الله عليه وعلى الكائنات الأخرى وما في ذلك من عظيم الفضل الإلهي لاسْتَحْيَى من إتيان الحرام بترك الشرع.

وقد سُئل الحسن البصري عن سر زهده فقال : “علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به سِوَايَ فاشتغلت به، وعلمت أن الله مُطَّلِعٌ علي فاستحييت أن يراني على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي”.

إن مسألة الربوبية واجب استيعابها بالنسبة للمسلمين لما لها من علاقة كبيرة بفهم حقيقة الله عز وجل ومدى عظمة قدرته في الكون كله وفي البشرية خاصة.ثم إن الحمد لله عز وجل على ما أنعم به على الإنسان خصوصا، سواء تعلق الأمر به ذاتيا، أو بالكائنات الأخرى وما تلعبه من دور في الإحسان إليه كما يريد الله عز وجل، إن حمد الله واجب، وكما أنه واجب من جهة كون الإنسان غارقا في نعمه سبحانه، شعر أم لم يشعر، فإنه واجب كذلك لأن كل أسباب الثناء والحمد موجودة فيه سبحانه، وهي أسباب واردة في مقاطع من هذه السورة المباركة “الفاتحة”؛ فقوله تعالى {رب العالمين} مرتبط بسبب الكمال، وقوله تعالى {ملك يوم الدين} مرتبط بسبب البطش والقهر، وقوله تعالى {الرحمان الرحيم} مرتبط بسبب الإحسان وتوقع الإحسان.

يُرحم المجتمع بقدر اتصاله بالله

{الرحمان الرحيم}

لقد سبقت الإشارة عند شرح “الرحمان الرحيم” من البسملة إلى أن اللفظين مشتقان من الرحمة، وأن بين الصيغتين فرق : فالرحمان دالة على الرحمة العامة والرحيم دالة على الرحمة الخاصة، وهذا ما عبر عنه الإمام محمد عبده : “وأنا لا أُجيز للمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى مستقل”(9).

إن مما انتبه إليه بعض المفسرين قديما (ابن القيم) وحديثا (محمد عبده والشيخ رشيد رضا)، في هذه الصيغ التي جاءت في هذه الآية أن صيغة الرحمان تدل على الوصف العارض الذي لا يثبت مما يدل على أن موصوفه متصف بصفة دالة على الزوال، بمعنى أن الرحمة في صيغة الرحمان منقطعة، وأما في صيغة {الرحيم} فإن الرحمة ثابتة وملتصقة بالموصوف. وكأن الرحمان دالة على الرحمة لحظة بعد لحظة، وجاءت {الرحيم} لتثبت تلك الرحمة، وفي هذا الشأن يقول الإمام محمد عبده :”إن صيغةفعلان تدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة كفعال، وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغضبان، وأما صيغة فعيل فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس كعليم وحكيم وحليم وجميل”(10).

وكيفما يكون الأمر فإن هذا لا يلغي أن رحمة الله عز وجل فيها العامة والخاصة، وأن المجتمعات الإسلامية ترحم بقدر ما تتصل بالله عز وجل، مع أن الرحمة العامة شاملة تخص المتصلين بالله وغير المتصلين به، وأما الخاصة فإنها مرتبطة بالمؤمنين الصالحين بحسب ما يتصلون بالله عز وجل.

ومن طريف ما أشار إليه الإمام أبو حامد الغزالي في قوله تعالى {الرحمان الرحيم} قوله : ” الرحمان الرحيم إشارة إلى الصفة مرة وأخرى، ولا تظن أنه مكرر، تَكرُّر في القرآن، إذ حَدُّ المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة، وذكر الرحمة بعد ذكر العالمين وقبل ذكر مالك يوم الدين ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفضيل مجاري الرحمة؛ إحداهما تلتفت إلى خلق رب العالمين ، فإنه خلق كل واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها وآتاه كل ما يحتاج إليه… وثانيها تعلقها بقوله : مالك يوم الدين، تشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد في مقابلة كلمة (المراد بالكلمة، كلمة التوحيد) وعباده … والمقصود أنه لا مكرَّرَ في القرآن، فإن رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر فانظر في سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته”(11).

فالإمام الغزالي يُؤكد أمرين : أولهما أن كلمتي الرحمان الرحيم ليس فيها تكرار، وإنما هو (كما سماه الإمام الطاهر بن عاشور “تعداد” ج 27 ص : 246) أو كما سماه الأصوليون “التأسيس” وهو إيراد الجملة للإشارة الأولى، وهو مقدم على التأكيد، وقد قالوا إن تكرير قوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} تعود فيه الآلاء إلى المذكور قبلها حتى ينصرف الكلام إلى التأسيس لا إلى مجرد تكرير آلاء الأولى”(12).

——–

1- الجوهرة : ص 62

2- الجوهرة : ص 62

3- المعجم : ص 188.

4- التحرير والتنوير : ج.1 ص: 166.

5- الحكمة في مخلوقات الله عز وجل / أبو حامد الغزالي : ص : 69.

6- الحكمة : ص : 70.

7- الحكمة : ص : 71.

8- الجواهر في تفسير القرآن الحكيم/ الشيخ طنطاوي : ج 1 ص : 8- 9

9- دروس من القرآن / محمد عبده : ص : 33.

10- دروس من القرآن / محمد عبده : ص : 34

11- جواهر القرآن : ص: 64 وما بعدها.

12- نشر البنود ص: 133 / عن إمام الأصوليين في دراسة صلة اللفظ بالمعنى : مصطفى بن حمزة : ص: 25.

د.مصطفى بنحمزة

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>