نظرات في توظيف مصطلح التأويل عند العلمانيين
نعتبر أُسًّا منهجيا، تحليل البُنى المعرفية لتوظيف مصطلح التأويل، باعتبار هذا التوظيف خطابا معرفيا، له مجاله الذي تلوح من أماراته : التصور، والأداة الإجرائية، والسَّنَنُ (le code)، والمقصد، والشبكة المفاهيمية.
وتيسيرا لمطلب الوقوف على البنى المعرفية لتوظيف ذلك المصطلح، فإننا اجتبينا على مستوى البنية السطحية كتاب رشيد بن زين(lصislam de penseurs nouveaux les) الصادر في طبعة فرنسية ومغربية سنة 2004(1).
ولم نعتمد اختيار هذه البنية المرجعية بسبب الإشهار الإعلامي الفريد الذي رافق صدور الكتاب في فرنسا والمغرب، بل لأن مدار التجديد في الإسلام عند العينة التي اختارها رشيد بن زين، على ركوب مطية منهجية ثابتة قِوامها : مصطلح التأويل.
والأسماء المجددة حسب رأي رشيد بن زين هي :
- عبد الكريم سُروش الإيراني(2).
- محمد أركون(3).
- فضل الرحمان الباكستاني (ت1988)(4).
- أمين الخولي (ت 1966) ومحمد خلف الله(5).
- نصر حامد أبو زيد(6).
- عبد المجيد شرفي التونسي(7).
- فريد الساق من جنوب إفريقيا(8).
وليس من نافلة التذكير بأن رشيد بن زين يعتبر نفسه باحثا في (التأويل القرآني المعاصر)
(contemporaine coranique lصherméneutique)(9).
وقد اخترنا التوقف للقراءة التي خص بها الأستاذ رشيد بن زين كتابات محمد أركون لأنني خبرت الرجل في رحاب جامعة باريس(السوربون الجديدة)، ولمست عن كثب مِلاك مشروعه الفكري مضافا إلى ما كتبه أصلا بالفرنسية، ولأنه الأقرب إلى المتلقي المغربي.
وتيسيرا لهذا المقصد، فإننا سنخص هذه المساهمة بالمطالب الآتية :
أسئلة مسؤولة حول تاريخية مصطلح (lصherméneutique) الهرميوطيقا
إن هناك التباسا يصاحب توظيف هذا المصطلح الغربي في مجالنا الثقافي العربي، فهو دال في منطقه على تأويل النص المقدس، والنص المدنس، إذ اشتق من النص اليوناني : (HERMENEUO) الذي يفيد : الترجمة والتفسير.
وقد بلغ هذا المصطلح الغربي عنفوانه مع البروتستانتي الألماني (schleiermacher friedrich)، (ت. 1834م)، إذ نقله من مستوى تأويل النص المقدس أو النص المدنس، إلى مستوى تقنية في الفهم.
وقد التقط الدكتور نصر حامد أبو زيد ذلك في دراسته الموسومة بـ : (الهيرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص)، المنشورة في العدد الثالث من المجلد الأول من مجلة (فصول) القاهرية، الصادر في أبريل 1981. وعنانُ الأمر عنده هو تفسير النص بشكل عام، سواء أكان تاريخيا، أم دينيا.
وما اعتبره عناناً، هو قولٌ مثنىً ومكرر، لما نظَّر له الألماني (schleiermacher) في تواليفه الآتية :
- “religion la sur discours” الصادر سنة 1799
- “monologues” الصادر سنة 1800.
- “chrétienne foi la de exposition” الصادر سنة 1821. وقد عرض فيه تصوفا ما فوق طبيعي، يجعل من الإحساس بالتبعية تجاه الأبدي، قاعدة في الإحساس الديني(10).
النسق المعرفي المركزي للتأويل
في كتابات محمد أركون
يمكن تجزيء هذا النسق المعرفي المركزي إلى تصورات ثلاثة :
1) التصور الأول : ما يعقل ويكون واردا (pensable).
2) التصور الثاني : ما لا يعقل ولا يكون واردا (impensable).
3) التصور الثالث : ما لا يفكر فيه (impensé).
وهذه التصورات وسيلة لإدراك هدفين مجتمعين، فأما الهدف الأول؛ فهو إغناء تاريخ الفكر الإسلامي بتوضيح الرهانات الإدراكية والفكرية. وأما الهدف الثاني؛ فهو تحريك الفكر الإسلامي المعاصر بلفت الانتباه إلى الإشكالات التي أُقصيت، وإلى المقدسات التي نُصِّبَت، وإلى الحدود التي رُسمت، وإلى الآفاق التي توقَّف النظر إليها، أو مُنِعَ النظر إليها، وكل ذلك باسم الحقيقة الواحدة(11).
ومن تبعات ذلك أن هناك ثلاثية مفاهيمية للتأويل عند محمد أركون، نختزلها في المستويات الآتية :
>أ – المخالفة والانتهاك والخرق (transgression) : أي إعادة صياغة المعرفة الدينية من أجل دراستها دراسة نقدية، وكشف الحجاب عن طابعها الإيديولوجي والأنتروبولوجي، ثم لتقويم الطبقة الدلالية بتوظيف الأدوات المعارة من العلوم الإنسانية، مثل اللسانيات والتاريخ والانتروبولوجيا والهرمنيوطيقا وعلم النفس، فبذلك فقط تُحلُّ أقفال النقلي(12).
>ب -الانتقال والتغير(déplacement): تشيدت أركان النقلي بجملة من الأوهام لانغلاقها في البعد الديني الأحادي القطبي. ومن ثم وَجَبَ نقل البُنَى النقلية نحو مساحات أخرى للمقاربة غير الدينية(13).
>ت- التجاوز (dépassement) : أي تجاوز الخطابات الامتثالية (ولست في حاجة إلى تنبيه المتلقي إلى أن مصطلح الامتثالية (conformisme) متعلق بالامتثال والالتزام في فضاء الأنكليكانية) والخطابات الأسطورية التي توجه الإطارات الفكرية والثقافية للمعرفة الدينية.
فالدين يلعب دور الرقابة الإبيستمولوجية ضد الثقافة، وهو ما يفرض تحقيق هدم معرفي من أجل إبيستمولوجيا جديدة للخطاب الديني(14).
وتحيل هذه الثلاثية المفاهيمية للتأويل، على ثلاثة مستويات للدلالة الدينية وما يتعلق بها من وظائف :
> الدين -القوة : فالنص القرآني لا يفرض حلولا نهائية للمشاكل العملية للوجود الإنساني، بل يكتفي بإثارة نظرٍ معينٍ للإنسان حول ذاته(15).
> الدين -الشكل : اختزال التفسير والتطبيقات الجمالية والفقهية والسياسية للنص النقلي في تعريفات ومعايير قطعية.
ومن شأن المعرفة التاريخية والاجتماعية أن تعاين مستويات عتبات القطيعة بين (الدين -القوة)، وبين الأشكال التاريخية التي أُضفيت عليها قدسية استعلائية مثل : الخلافة/ الشريعة/ الأمة(16).
> الدين الذاتي : وهو ما يتصل بالحياة الداخلية للإنسان في علاقته بالإرشاد الديني، ولكن العائق الرئيس هو أن الضوابط التي أخذت شكل المعرفة مثل الإجماع، تحد من الحرية الشخصية(17).
وفي ضوء ما سبق يوظف محمد أركون مصطلح (التأويل) فيرسم للنص القرآني العلامات الآتية :
> العلامة الأولى : ليس الوحي خطابا معياريا سماويا، يفرض على الإنسان إعادة إنتاج نفس طقوس الطاعة والعمل إلى ما لا نهاية له، فالقراءة الدلالية للوجود متحولة، وقابلة للتغيير، والحجة على ذلك الناسخ والمنسوخ في القرآن(18).
> العلامة الثانية : يرسم الوحي فاعلين رئيسيين : الله مرسِلا، والنبي مرسَلا إليه أولا، والصحابة مرسَلا إليه ثانيا(19).
> العلامة الثالثة : الانتقال من الرواية إلى النص المكتوب، هو انتقال من المدنس إلى المقدس(20).
توظيف مصطلح (التأويل) باعتباره خطابا معرفيا
يمكن أن نعطي لهذا التوظيف بهذا الاعتبار صورة وتصورا؛ فأما الصورة ـ وكما ذهب إلى ذلك الشريف الجرجاني(ت.618هـ) ـ فهي ما به يحصل الإدراك، وأما التصور فهو حصول صورة ذلك الإدراك في عقل المتلقي(21).
واللافت للنظر في توظيف مصطلح التأويل، هو أن الخطاب العلماني قسيم الخطاب الشرعي في التوظيف. فهو يندرج معه في المرحلة الأولى وهي الأساس، وثم يحدث الاشتباه في المرحلة الثانية، ثم يقابله ويعارضه في المرحلة الثالثة.
والفيصل بين الخطابين، هو أن الخطاب العلماني يعطي مصطلح التأويل ـ الذي يعد ابتداءا مكونا من مكونات الخطاب الشرعي ـ حمولة دلالية ومفاهيمية تطابق وتناسب بُنَاهُ. ولعل الأحق هو لفت الانتباه إلى أن ما يُدير دفة إعطاء الحمولة الدلالية والمفاهيمية، هو التغليب الكلي للتعريفات والحدود التي تناقض كلية ما هو ثابت في الخطاب الشرعي.
إن الخطاب الآخر هو خطاب معارضة، وخطاب مقابلة على سبيل الممانعة. ونقصد بذلك إلى استعماله المصطلح الشرعي من باب إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليلَ عليه الخطاب الشرعي.
فكأن الخطاب العلماني يصبغ مصطلح التأويل بصبغة المغالطة.
وتَعقُّبا لأي وهم معرفي، فإننا نقصد بالمغالطة إلى ما كان مركبا من مقدمات شبيهة بالحق، ولا تكون حقا.
وحَسْبُ المتلقي العناية بتأصيل مصطلح (التأويل)، فهو عند جمهور العلماء : صرف الآية القرآنية الكريمة عن المعنى الظاهر، إلى معنى يُحتمل، إذا كان المحتمل الذي يُرى موافقا للكتاب العزيز، والسنة النبوية المطهرة. مثل قول الله تعالى : {يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّت}. إن أردنا به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإن أردنا إخراج المؤمن من الكافر، أو العالم من الجاهل كان تأويلا(22).
ولعل توظيف مصطلح (التأويل) في الخطاب العلماني مُحيلٌ على قاعدة؛ (التحول) بغض النظر عن امتداداتها مثل : (إعادة قراءة القرآن)، و(تجديد الإسلام وتحديثه)، و(تفادي تقسيم الأدلة الشرعية إلى أدلة نقلية وأدلة عقلية، لأن ذلك ليس إلا إسقاطا ميكانيكيا لمنطق التقابل عند أرسطو: الجواز / الضرورة).
وجوهر كل ذلك هو أن يكون عقل المُرسَل إليه تاريخيا، تجاوزاً للعقل غير التاريخي الذي تحده حدود الغيب، أو الإيمان، أو الشهادة، وهلم جرا. إذ المقصد في المثاب هو بلوغ كيان إنساني حداثي بدون إيمان يحرك دواليبه تاريخ معفى من الوحي.
————
1 -2004 , casablanca, tarik, E.d . paris, michelalbin E.d , liislam de penseurs nouveaux les : benzine rachid.
2 -op . cit. p : 57 // 3 -op . cit. p : 87
4 -op . cit. p : 119
5 -op . cit. p : 147
6 -op . cit. p : 179
7-op . cit. p : 213
8 -op . cit. p : 245
9 -final e principale couverture.
10 – 1886. p. 1997 juin paris rey lain propres noms des robert petit le.
11 – 89. p , liislam de penseurs nouveaux les.
12 – op. cit. p : 98
13 – op. cit. p : 98 -99
14 – op. cit. p : 99
15 – op. cit. p : 100
16 -op . cit. pp : 100- 101
17 -op . cit. p : 101
18 -op . cit. p : 106
19 -op . cit. p : 107
20 -op . cit. pp : 108 -109 – 110 – 112 – 116.
21 – كتاب التعريفات للشريف الجرجاني. مكتبة لبنان. بيروت/ 1990 : ص 37
22 – نفسه : ص 52.
د.بدر المقري