> هـ – الارتباط حين دراسة السيرة، بالرسالة لا بشخص الرسول :
إن هذا الضابط يعني عدم المبالغة في تعظيم رسول أو الغلو في شخصه عليه الصلاة والسلام. إنه ضابط عقدي مخالفته لوثة من لوثات النصرانية المحرفة. وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما سمع عمر ر] يقول على المنبر سمعت النبي يقول: “لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله”32.
وحين يغيب هذا المنهج عمن يتعرض لدراسة السيرة، فإنه قد يرى أن من وظيفة الرسول “أن يتصل بالأرواح التي في الأجساد، وينزع الحجب ليطلع على القلوب التي في الصدور” وأن ” الرسالة تقتضي لصاحبها…حق التصريف لكل قلب تصريفا غير محدد”33.
مع أن مقلب القلوب والذي يتصرف فيها بما يشاء هو الله وحده، ولا مشاركة لأحد، ولو كان نبيا مرسلا، له في ذلك.
والارتباط بشخص الرسول دون الرسالة قد تدفع من كانت تلك حاله إلى تنكب الصراط القويم مع الاحتفاء بشخص الرسول كما هو الحال في إحياء ذكرى المولد النبوي مثلا مع اقتراف المعاصي في نفس الوقت، بل هناك من ارتد بمجرد سماعه وفاة رسول الله اعتقادا منه أن الدين ينتهي بانتهاء حياة الرسول .
إن الارتباط بالرسالة يعني الثبات على المبادئ التي جاءت بها الرسالة ولو لم يوجد رسول ، وهو ما تجسد في موقف أبي بكر ] حين قال للناس لما توفي الرسول : “أما بعد، من كان منكم يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت” قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} إلى قوله {الشاكرين}(آل عمران: 144)34.
والارتباط بالرسالة يدفع إلى التأسي بالرسول في أمور الشرع، وترك ما هو من خصائصه عليه السلام فلا يقتفي أثره فيها، كاختصاصه عليه السلام بالزواج بأكثر من أربع، وبدون ولي ولا شهود، وكاختصاصه بإباحة القتال بمكة المكرمة والقتل بها كما حدث في غزوة الفتح، وغير ذلك…
>و- الابتعاد عن تضخيم السيرة بالخوارق والإسرائيليات:
هذا الضابط متفرع عن الضابط السابق، إذ الارتباط بشخص الرسول مدعاة لدى البعض لاختلاق أحداث ترفع من شأنه في نظرهم، مع أنه عليه السلام- وبدون تلك الأحداث المختلفة- المستحق للإجلال والتوقير.
لقد علق بالسيرة، ومنذ القديم، الكثير من المفتريات التي لا تستقيم في ميزان الحقيقة التاريخية، مثل الادعاء بسقوط إيوان كسرى يوم مولده عليه السلام، وانطفاء نار المجوس وغيض بحيرة ساوى…إلخ.
> ز- النظر في أسباب الأحداث، بدل اعتماد الغيب وحده أساساً للتحليل:
وهو درس قرآني تمدنا به الآية الكريمة: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير}(آل عمران: 165). إذترشد الآية المؤمنين، الذين تساءلوا عن سبب ما لحق بهم في غزوة أحد، إلى البحث عن مصدره في ذوات أنفسهم. حتى إذا استيقنوا هذه الحقيقة، تعود الآية كي تبين لهم أن تلك الأسباب تجري بقدر الله: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين…}(آل عمران: 166). فلا منافاة بين الأخذ بالأسباب وربطها بمسبباتها، وبين الإيمان بالقدر خيره وشره. ولذلك: لما قرر عمر بن الخطاب ] عدم دخول الشام لانتشار الطاعون بها، وقيل له: أفِراراً من قدر الله؟ قال: “نعم نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله”36.
ولابن القيم رحمه الله كلام قيم حول الأسباب يقول فيه: “ليس إسقاط الأسباب من التوحيد، بل القيام بها واعتبارها وإنزالها في منازلها التي أنزلها الله فيها هو محض التوحيد والعبودية. والقول بإسقاط الأسباب هو توحيد القدرية الجبرية أتباع الجهم بن صفوان في الجبر، فإنه كان غاليا فيه… وطردهذا المذهب مفسد للدنيا والدين، بل وسائر أديان الرسل. ولهذا لما طرده قوم أسقطوا الأسباب الدنيوية وعطلوها وجعلوا وجودها كعدمها ولم يمكنهم ذلك، فإنهم لابد أن يأكلوا ويشربوا ويباشروا من الأسباب ما يدفع عنهم الحر والبرد والألم”37.
>ج-رفض منطق التسويغ والتبرير عند التعامل مع أحداث السيرة:
في غمرة الانبهار بالغرب وأفكاره، وما تلا ذلك من انهزام نفسي، بدأ بعض المسلمين يقبلون على دراسة سيرة النبي في محاولة للملاءمة بين بعض ما جاء فيها وبين ما يؤمن به الغرب من قيم. حتى إذا عجزوا عن تحقيق تلك الملاءمة، بذلوا قصارى جهدهم في توهين الرواية التي أعجزتهم وتضعيفها. ولقد رأينا سابقا مثال موقف هيكل من حادثة شق الصدر، مع أنها صحيحة كما مر. ومن الأمثلة أيضا اعتبار بعض الدارسين الجهاد حركة دفاع فقط عن الدولة الإسلامية الناشئة. وحيث لا اعتداء فلا جهاد!! مع أن الرسول قال مباشرةبعد انصراف المشركين من غزوة الخندق: “الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم”38. وهذا ما فعله عليه السلام في غزوة خيبر مثلا، وقد “بدأها رسول الله وأغار بها فجأة على اليهود الذين استوطنوا بقاع خيبر، دون أن يبدأوا المسلمين بأي محاربة أو قتال”39.
ومما نفاه البعض أيضا قتل مقاتلي بني قريظة -على الرغم من صحتها40- لعدم توصلهم إلى مخرج لتسويغ حكم سعد ابن معاذ] في اليهود: “… فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم”41.
>ط- معالجة مشكلات الواقع المعيش من خلال السيرة:
اعتاد كثير من الدارسين أن يقبلوا على دراسة السيرة النبوية بطريقة تقريرية جافة لا تحرك عاطفة ولا تثير عقلا، في حين هي تاريخ للمهمة الملقاة على عاتق المسلم فردا، وللرسالة التي يجب أن تحملها الأمة جماعة.
والأكثر من هذا أن سيرة محمد هي شريعة إسلامية يجب الالتزام بها وتكييف الحياة بمقتضاها، إلا ما قام الدليل على أنه ليس من التشريع كما سيأتي.
ومن ثمة فإن دراسة السيرة لا ينبغي أن تتم بعيدا عن طرح أسئلة واقعنا المعيش عليها، ولا عن العمل على الاستفادة منها في إيجاد حلول لمشكلات حياتنا.
إن غزوات مثل غزوات بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة مثلا تمدنا بأسس لفهم الطبيعة الغادرة والنفسية الحقود لليهود الذين لا يفتأون يدنسون أرض فلسطين.
وإن حدثا مثل الإسراء والمعراج لا ينبغي أن يمر ذكره دون العمل على التأكيد على الارتباط الشديد للمسلم بأرض الأقصى.
وحينما أضحى موضوع المرأة الأثير لدى العلمانيين لإعلان الحرب على الإسلام والمسلمين، لم يعد ممكنا، مثلا، الكلام عن أول من آمن بهذا الدين، وهو امرأة (خديجة رضي الله عنها)، وعن أول من استشهد لأجله، وهو أيضا لإمرأة (سمية بنت خباط رضي الله عنها)، من غير إثارة ارتباط الإسلام -دون غيره من النحل والمذاهب- ومنذ بداياته الأولى، بالانتصار لحقوق المرأة وكرامتها…
إن الدراسة المطلوبة للسيرة أن ندرسها على أنها سنن ربانية يمكن أن تتكرر كلما تكررت ظروفها”42. فانتصار المسلمين مثلا في غزوة بدر لم يكن “حادثا فرديا، إنما كان سنة، سنة قابلة للتكرار، وإن لم يكن بنفس الصورة التي وقعت في بدر. وهذا هو الدرس الذي ينبغي أن نأخذه من هذه الواقعة التاريخية…”43 وأن نستلهمه في حروبنا مع قوى الاستكبار والطغيان، فتصبح السيرة حية ملازمة لنا في شؤون حياتنا كلها، لا مجرد أقاصيص تردد لنمتع بها أسماعنا، أو حكايات جدات تُنوِّم بها أحفادها كما هو الشأن لدى الكثيرين اليوم.
> ي- الربط بين أحداث السيرة لا تجزيئها :
السيرة النبوية حلقات مترابطة لا يمكن عزل حلقة عن أخرى. فحياته ( تجسيد حي لمنهج متكامل. وعليه فدراستها تقتضي الإحاطة الشاملة بالأحداث لا إخضاعها للتقطيع والتجزيء، ومن ثمة الاقتصار على دلالة حدث معين، بالزعم أنها تعبر عما استقر عليه أمر الإسلام أخيراً من حِكم أو أحكام. ومرة أخرى نشير إلى ترديد البعض لأزمة الحرب الدفاعية تعريفا للجهاد في الإسلام، اعتمادا على غزوات دارت أحداثها قبل صلح الحديبية مثلا، وهو ترديد لكلام يحذف جزءا كبيرا من حياة الرسول . ولقد تمت الإشارة إلى غزوة خيبر وبدئه لليهود بالقتال، وقوله ، عقب غزوة الخندق: “الآن نغزوهم ولا يغزوننا”44.
والغريب أن الذين يجزئون السيرة ويلتقطون حدثا هنا وحدثا هناك لا يطردون هذا التجزيء مع حادث صلاة الرسول “قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا” كما في الحديث45 إذ من شأن اطراد ذلك التجزيء اعتبار الصلاة إلى بيت المقدس لازالت جائزة إلى اليوم!!
>ك- التأكد من مدلولات الألفاظ:
من الثابت المعلوم أن اللغة تعرف ما يعرف بظاهرة تغير المجال الدلالي الذي يؤدي إلى نقل لفظ من معناه الأصلي إلى معنى آخر عن طريق استعماله في غير ما وضع له.
حتى إذا ما أطلق اللفظ انصرف الذهن إلى ذلك المعنى الحادث. هذا التغير الدلالي يخضع لقوانين لغوية منها:
1- وجود علاقة المشابهة بين المعنيين.
2- أن يكون اللفظ موضوعا في الأصل لمعنى كلي يشمل عدة جزئيات، فيغلب استعماله في جزئية من تلك الجزئيات.
3- عكس ما سبق، وهو أن يكون اللفظ موضوعا في الأصل لمعنى خاص، فيغلب استعماله في معنى عام، مثل كلمة “البأس” التي كانت تستعمل أصلا في الحرب، فأصبحت تطلق على كل شدة.
4- أن يطلق اللفظ على معنى اصطلاحي علمي أو مدني بعد نقله من معناه الأصلي. إن هذا يعني أن اللغة تتطور عن طريق تغير الدلالات مثلا، مما يفرض على الدارس مراعاة دلالات ألفاظ الحديث كما كانت على عهد السلف الصالح، وعدم تنزيلها على المعنى الحادث. من أمثلة ذلك لفظ “العصابة” المذكور في عدة أحاديث وفي نصوص السيرة، ومن ذلك:
< أخرج البخاري رحمه الله عن أبي إدريس عائذ بن عبد الله أن عبادة بن الصامت ] -وكان شهد بدرا، وأحد النقباء ليلة العقبة- أن رسول الله قال وحوله عصابة من أصحابه: “بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا… الحديث”46.
< وأخرج مسلم رحمه الله عن سماك الحنفي قال: ” سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا. فاستقبل نبي الله القبلة. ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض”47.
إن هذا اللفظ، لفظ “العصابة” أصبح له الآن معنى قدحي يعادل الإجرام، فلا يمكن إذن تنزيل اللفظ في الأحاديث ونصوص السيرة على هذا المعنى القدحي، على أن العصابة كانت تطلق آنذاك على المجموعة من الناس. ففي “الصحاح” للجوهري أن العصابة “هي الجماعة من الناس والخيل والطير”48، وفي “لسان العرب” هي “جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين… قال الأخفش: والعصبة والعصابة جماعة ليس لها واحد… ومنه قول النابغة:
“عصابة طير تهتدي بعصائب”49.
———-
32 – البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله:”واذكر في الكتاب مريم…” حديث 3445.
33 – الشيخ علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، تحقيق ودراسة محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط 1/1972 ص 156.
34 – البخاري في المغازي، باب مرض النبي ووفاته، حديث 4454.
35 – من بردة البوصيرين، أنظر: ديوان البوصيري، شرح وتقديم أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت. ط1/1416-1995 ص 168/169.
36 – من حديث أخرجه بتمامه البخاري في الطب، باب ما يذكر في الطاعون، حديث 5729.
37 – ابن قيم الجوزية رحمه الله : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الفكر – بيروت. ص: 3/495 – 469.
38 – من حديث أخرجه البخاري عن سليمان بن صرد رضي الله عنه في المغازي، باب غزوة الخندق، حديث 4110.
39 – محمد سعيد رمضان البوطي، فقه السيرة، دار الفكر، بيروت، ط. 7، 1398 – 1978 ص: 259.
40 – كما في: البخاري في المغازي، باب مرجع النبي (ص) من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، حديث 4121، ومسلم في الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز، حديث 1766.
41 – البخاري، نفس الموضع السابق، حديث 4122.
42 – محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، دار الوطن للنشر، الرياض طبعة رجب 1412، ص: 81.
43 – نفسه بنفس الصفحة.
44 – سبق تخريجه.
45 – من حديث أخرجه البخاري في الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، حديث 40.
46 – كتاب الإيمان، باب بدون ترجمة، حديث 18.
47 – كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، حديث 58.
48 – الصحاح للجوهري، مادة “عصب”.
49 – لسان العرب لابن منظور، مادة “عصب”.
إعداد : ذ. حسن لمعنقش