دور التربية في إخراج الأمة


يقول الله عز وجل في محكم كتابه {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ..}(آل عمران: 110). فالأمة المسلمة أخرجت للناس ولم تخرج لنفسها، وهذا يبرز بجلاء كنه رسالتها وهدفها. فسبب إخراج هذه الأمة هو هداية الناس إلى الله.

والهداية، بداية ونهاية، بيد الله عز وجل وحده، ولو شاء سبحانه لهدى الناس جميعا. وهو القائل عز من قائل :

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا …}(الرعد :31).

لكن سنته في خلقه اقتضت أن يرسل إليهم هداة. كانوا في البدء رسلا وأنبياء اجتباهم واصطفاهم، وبعدهم يحمل  الرسالة أتباع الرسول الخاتم ، الذين عرفوا أنه لا مناص لهم من أن يكونوا دعاة رساليين، لأن من مقتضيات الإتباع لرسول الله  الناتج عن الفهم الصحيح والمحبة الصادقة: الدعوة إلى الله  عملا بقول الله عز وجل : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(يوسف : 108).

وإذا كان إخراج الأمة المسلمة هدفا كبيرا، فدونه جهود كبيرة، ودونه إنجازات ضخمة وصناعات ثقيلة وبنيات تحتية أساسية يتوجب إعدادها وتهييئها.

ولا غرو أن تكون التربية أو بناء الإنسان هي أول وأهم هذه الصناعات جميعها. فهي تروم صنع وصياغة الإنسان خليفة الله في أرضه. ولا غرو أيضا أن يكون المربي قطب الرحى في العملية التربوية. فجهده غير منكور في ميدان التربية. بل إن نجاح العملية التربوية يتوقفإلى حد كبير على علمه وفنه وخبرته وتجربته.

وتربية الإنسان هي أسمى ما يبتغي، وأداؤها حق الأداء محض توفيق رباني، وكما يقول الأستاذ عبد الرحمان الباني : ” المربي الحق هو الله سبحانه وتعالى، لأنه هو خالق الفطرة، وواهب المواهب، وهو الذي سن سننا لنموها وتدرجها وتفاعلها. كما أنه شرع لتحقيق كمالها وصلاحها وسعادتها”(1).

وكما يقول الشيخ عبد الرحمان ناصر السعدي :” الرب سبحانه هو المربي جميع عباده بالتدبير وأصناف النعم، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم وأخلاقهم. ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة”(2).

وإن نظرات في فاتحة الكتاب تجعلنا نبصر ونتبصر عن كثب سر توجهنا ودعائنا لله رب العالمين. فهو رب كل شيء ومليكه.

إذن، ” إن عمل المربي تال وتابع لخلق الله و إيجاده كما أنه تابع لشرع الله ودينه وأحكامه”(3).

وقد يقول قائل إن الحديث عن دور التربية في إخراج الأمة هو محاولة ربط نتيجة بغير مقدمتها، فإخراج  الأمة هو إخراج كيان جماعي، بيد أن التربية عملية فردية تروم إنتاج الفرد كفرد، كل على حدة، والمحافظة على فطرته، ورعايتها وتنمية مواهبه واستعداداته وتوجيه هذه الفطرة وهذه المواهب نحو كمالها اللائق بها.

فكيف إذن للعملية التربوية والتي مركزها الفرد من إخراج الأمة ككيان، فنحن أمام مرحلتين اثنتين، إحداهما سابقة على الأخرى.

يقول الدكتور ماجد عرسان الكيلاني متحدثا عن تكامل بناء الفرد وإخراج الأمة :” تتكامل المرحلتان مرحلة تربية الفرد المسلم ومرحلة إخراج الأمة المسلمة بحيث تكون الأولى مقدمة للثانية، ولا تغني واحدة دون الأخرى.

ولذلك كان التركيز في المرحلة المكية على تربية الفرد المسلم، أو الإنسان الصالح المصلح، بينما كان إخراج الأمة المسلمة هو محور العملية التربوية في المرحلة المدنية”(4).

وإن المتأمل لسيرة رسول الله  يرى بأن المرحلتين ليس بينهما فاصل زمني صارم أو حاسم وذلك أمر طبيعي في الدين، هو دين الفطرة يتعامل مع الفطرة الإنسانية التعامل الذي يتناسب معها. لذلك فالقول بأن محور المرحلة الأولى هو تربية الفرد المسلم ومحور المرحلة الثانية هو إخراج الأمة المسلمة قول غير دقيق. ففي المرحلة الثانية كان مستمرا ومستصحبا الأساس الذي يشكل محور المرحلة الأولى وهو البناء التربوي للفرد المسلم.

فهناك اختلاف  إذن بين المرحلتين، لكن المحور الكبير الذي يحكمهما جميعا هو محور بناء الإنسان وصياغة الفرد المسلم الصياغة الربانية، التي تؤهله لموقع الشهادة على الناس كعنصر في جسد الأمة، حين تتشكل هذه الجسدية، وتصبح آثارها ظاهرة في واقع الناس.

ففي مرحلة بناء الفرد المسلم كان هذا الفرد يبنى على أساس أنه عضو في جسد، فالعنصر يؤدي وظيفته من خلال الجسد وفي صلبه، لا استقلالا عنه. ويضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع المثل في بيان ذلك فيقول : ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” رواه مسلم. فالعضوية في الجسد لا تعني الفردية بحال، ولا تعني التقوقع على الذات. فذات الفرد حقا تتحقق من خلال آثارها الإيجابية في دنيا الناس وفي واقع الأمة.

وقد آن الأوان -خاصة في إطار المراجعات التربوية التي أضحت تميز ساحة العمل التربوي والتي تمثل رشدا ونضجا فيه- أن تبذل الجهود، سواء من الناحية العلمية الأكاديمية أو من الناحية العملية التطبيقية لبلورة تصور يروم بناء الفرد بناء تربويا غير معزول عن مجتمعه وبيئته وفضائه الذي يعيش فيه. فالفرد المسلم لا تراد تربيته ليكون صالحا في ذاته فحسب، ولكن ليؤدي الرسالة التي انتدب لها في هذا الدين كعضو في  جسد الأمة. وهي رسالة البلاغ المبين وأمانة الشهادة على الناس أجمعين عملا واستجابة لقول الله عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..}(البقرة 143).

——

1) مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام / للأستاذ عبد الرحمان الباني / مجلة الأمة / العدد 11 – الصفحة 87.

2) شرح الأسماء الحسنى / للشيخ عبد الرحمان بن ناصر السعدي / الصفحة 45

3) الأستاذ عبد الرحمان الباني، المرجع السابق ص: 87

4) “أهداف التربية الإسلامية”.مؤسسة الريان. ص176. للدكتور ماجد عرسان الكيلاني  .

ذ. جمال المرابط

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>