إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها


صحة الأمة ومرضها وموتها

مرحلة وفاة الأمة : الدوران في فلك الأشياء

الأمم بشكل عام كالأفراد، تنتابها حالات الصحة والمرض والوفاة، ولها أعمار وآجال، وحين تمضي الأمم في مراحل الصحة والمرض والموت، فإنها تسير طبقا لقوانين محددة ومراحل مقدرة تحكمها (الأسباب والنتائج) وتصاحبها (الأعراض والمضاعفات) حتى تنتهي الأمة إلى أجلها ومصيرها المحتوم. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى : {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لايستاخرون ساعة ولا يستقدمون}(الأعراف : 34).

{وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم، ما تسبق من أمة أجلها وما يستاخرون}(الحجر : 4-5).

ثانيا ـ إعلان الوفاة وإجراء الدفن

وخلال الصراعات الدائرة، وتفاعل الفتن، والمضاعفات السلبية في الداخل، تعمد الفئات المهزومة، أو تلك التي فيها بقية صلاح إلى الهجرات المعاكسة، والهروب من أرض الهرج والقتل والفتن، إلى حيث الأمن والاستقرار وسيادة القانون.

أما الخردة البشرية، فتستمر في أتون الصراعات الدموية، ومستنقع الانحرافات الاجتماعية  إلى أن تتمزق الأمة وتتناثر مزقها، تمزقا سياسيا، وتفسخا أخلاقيا، وهزائم، ونكبات، ومجاعات، تصبح حديث المحافل الدولية، ووسائل الإعلام العالمية. وإلى هذا الوضع المأساوي يشير قوله تعالى :  {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق }(سبأ : 19).

وبلوغ الأمة هذه الحالة، يجعلها كالجيفة التي تنفجر أحشاؤها وينتشر نتنها، فتجذب روائحها الكريهة برابرة الشعوب، والغزاة الطامعين من خارج، ليقوموا بإعلان الوفاة وإجراءات الدفن.

وغالبا ما يمثل إعلان الوفاة بالانهيار العسكري السريع أمام الغزاة. والواقع أن ما يبدو انتصارا ساحقا وهزيمة مروعة، هو في حقيقته إعلان لوفاة الأمة، لفظت أنفاسها من قبل، ولكنها ظلت زمنا تتكئ على أجهزتها المخابراتية والأمنية، وتوهم المرعوبين من جماهيرها أنها حية قائمة كما ظلت جثة سليمان المتكئ على منسأته زمنا ترعب العاملين تحت إمرته من الإنس والجن حتى أكلت دابة الأرض تلك المنسأة ـ أي العصاة ـ فلما خرت الجثة، قالوا : لو كنا نعلم الغيب ما لبثنا زمنا في العذاب المهين.

وأما عن إجراءات الدفن، فتتمثل بحل جيش النظام الظالم، وبوليسه، ومخابراته، وإداراته، وانهيار الثقافة التي مكنت للظلم والفساد، وتوزيع الميراث الممثل باقتسام الغنائم ومناطق النفوذ. وإلى هذه النهاية يشير قوله  : (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل : أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل. لينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل : يا رسول الله، وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت)

والقرآن يدرج تداعي الأمم الغازية، وما يرافق زحفها من إعلان لوفاة الأمة الميتة، تحت اسم (الصيحة) التي تنتهي بالأمة الميتة إلى ـ نفس النهاية ـ نهاية الغثاء : {فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين } ( المؤمنون : 41 ).

و(الحق) الذي جرت الصيحة طبقا له، هو إشارة إلى السنن والأقدار، التي تحدد مسارات الأمم ومصائرها. و (الغثاء) في اللغة معناه : القذى، والوسخ، والقش.

وفي الحديث هنا، يشير إلى نفايات البشرية من بقايا الأمة الميتة، التي تنسحب من تيار الحياة البشرية لتتكلس على ضفافه. و (نزع المهابة) من صدور الأعداء، و (قذف الوهن) في قلوب المستضعفين الأذلاء، نتائج عمل سنن الله وقوانينه في الاجتماع البشري، تعبر عنها الآية المشار إليها بصيغة (فبعدا للقوم الظالمين) أي إبعادا لأنظمة الظلم، وإداراته، ومؤسساته، وقادته، ورعاياه، وجيوشه وبوليسه، وأجهزة مخابراته، وجميع ممارساته، فالأمة التي تجبنأن تقول للظالم : يا ظالم، ولا تصلح آثار الظلم، يبعث الله عليها (الصيحة)، أو هدير الغزاة وآلاتهم الحربية، ليقوموا بما وهنت الأمة عن القيام به.إنها عمليات جراحية إلهية تستهدف فك الأغلال السياسية، والآصار الاجتماعية والثقافية التي مكنت للظلم، وسمحت للظالمين بإحكام قبضتهم إحكاما لا فكاك منه.

د.عرسان الكيلاني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>