من واجباتنا نحو القرآن


وقف رسول الله  ذات يوم خطيبا في الأمة فقال: ” ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومى هذا،  كل مال نحلته عبدا حلال.  وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم،  وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم،  وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا.  وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب.  وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء  تقرؤه نائما ويقظان”(أخرجه الإمام مسلم في صحيحه)

كان ذلك حال المجتمع الإنساني قبل نزول القرآن، شرك عام، وجهل مطبق، وانقلاب في الموازين، واضطراب في المفاهيم، وسيطرة  عامة للشياطين على ابن آدم. في هذا الجو الموبوء بما ذكر، نزل القرآن الكريم على قلب رسول الله  فقام بما يلي:

من وظائف القرآن

1-  بث الحياة الحقيقية في الإنسان، قال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الشورى:52) وقال : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام:122) وإنما الإنسان في حقيقته الكاملة روح يسري في عظام نخرة، فتشرق منه الحياة. قال تعالى : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(الحجر:29) وإنما يستمر الإنسان إنسانا باستمرار حياة  هذه الروح. وإنما تكون حياتها بهذا القرآن الذي هو كما وصفه الله في قوله : {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ}(غافر من الآيتين:15/ 16) وكان الذي نقله إلى أهل الأرض هو الروح ، كما قال تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}(الشعراء:193 – 195)

2- هداية الحائرين، وإرشاد الضالين. -وكل من لا يسترشد بالقرآن فهو حائر، وكل من لا يهتدي بهداه فهو ضال- قال الله تعالى : {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}(البقرة:1- 2) وقال : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(البقرة:1 85)  ولقد حسم القرآن  مسألة الهداية حسما قاطعا، وبين الحق فيها بيانا شافيا، فليس هناك -في منطوق القرآن ومفهومه- طريق للهداية سوى القرآن قال عز وجل : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(الإسراء: من الآية9) وقال {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}(البقرة:120) فالقرآن هدى الله  {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}(آل عمران: من الآية73) {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى }(الأنعام: من الآية71)وما عداه مما يزين للناس اليوم وقبل اليوم أهواء {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(الجاثـية:18) واتباع أهواء الذين لا يعلمون -وكل من ليس له حظ من علم القرآن فلا يعلم شيئا- يؤدي إلى الفساد العام، والضلال البعيد، قالتعالى : {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}(المؤمنون: من الآية71)وقال : {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(طـه:123- 124) وقد قال  رسول الله  : >تركت فيكم أمرين   لن تضلوا  ما مسكتم بهما : كتاب الله وسنة نبيه<(أخرجه الإمام مالك في (موطئه) 575).

3- إخراج الناس من الظلمات. فالكفر ظلمة، والشرك ظلمة أخرى، ووصف الله بما لا يليق به ظلمة، والجهل بحقائق النبوة ظلمة، والفسق ظلمة، والمعصية ظلمة، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، والمخرج منها فقط هو القرآن، والقرآن وحده. قال تعالى : {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}(النور:40) فالقرآن -كما وصفه منزله في كثير من الآيات-نور يخرج الناس من  ظلمات المشككين، و يضيئ طريق السالكين، وبصيرة تنير دروب المسترشدين، وضياء يكشف زيف الفاتنين المفتونين

{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ  يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(المائدة:  15- 16) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}(النساء:174) {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ  الْمُفْلِحُون}(لأعراف: من الآية157) {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(ابراهيم:1) {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}(الأنعام:104) {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(لأعراف: من الآية203) {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(الجاثـية:20)

4- شفاء للناس من الأدواء المختلفة. ودواء لهم من الأمراض الظاهرة والباطنة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءَتْكُم ْمَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}(يونس:57) {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}(الاسراء:82) {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}(فصلت: من الآية44) وعن عبد الرحمن بن غنم، أن أبا مالك الأشعري حدثه عن رسول الله   قال : “إسباغ الوضوء شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، والتسبيح والتكبير يملآن السموات والأرض، والصلاة نور، والصوم برهان، والصبر ضياء، والقرآن   شفاء  حجة لك أو عليك. كل إنسان بائع نفسه “. أخرجه أبو عوانة في (مسنده)، وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص ،عن عبد الله ] قال : قال رسول الله  : >إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين ، وهو الشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه<. ذكره  الحافظ ابن كثير في (تفسيره) 1/  390.

5- موعظة بليغة، تحرك السواكن، وتثير الكوامن. وكيف لا؟ وهو من عند العالم بخفيات النفوس، المطلع على أسرار القلوب. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}(يونس:57)، ولذلك أمر الله نبيه سيدنا محمدا  بوعظ الناس بالقرآن. وإنذارهم به، وجهادهم  بآياته، وتلاوته عليهم آناء الليل وأطراف النهار.قال تعالى : {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}(النساء: من الآية63) وقال : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}(الأنعام من الآية19) وقال : {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْ هُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}(الفرقان:52)  قال الإمام الطبري في معناه : ” … ولكن جاهد هم بهذا القرآن جهادا كبيرا ، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله،  ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها “. وقال عز وجل : {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ َ}(النمل: من الآيتين91/92)

6- ذكر وذكرى.  فهو ذكر ترفع  أقدار المؤمنين به، وتعلو منازل العاملين بأحكامه، وتسمو مراتب الداعين إلى آياته. أخرج الإمام مسلم في (صحيحه) عن عمر بن الخطاب ] أن رسول الله  قال : ” إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين”. وهو ذكرى ، تذكرنا بماضينا السحيق، إذ لم نكن شيئا مذكورا، {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً}(الانسان :1) وتذكرنا بالغاية من وجودنا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذريات:56) تذكرنا بمصيرنا ومنقلبنا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(البقرة:28) {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}(الانشقاق:6)  قال تعالى : {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}(يوسف:104) وقال : {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}(الانبياء:2)وقال : {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}(الانبياء : 9) {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}(يّـس:69) وقال : {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}(الأنعام: من الآية90) وقال :  {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}(قّ:45).

إن القرآن الكريم هو محور حياة هذه الأمة، -أو ذلك ما يجب أن يكون- فهو الكفيل  بحل معضلاتها، والقمن بفك مقفلات مشكلاتها.. إذ هو المجيب عن كل سؤال، الموضح لكل إشكال، المهيمن على كل مقال قال عز وجل : {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِك لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(العنكبوت:51) وقال سبحانه : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةًوَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(المائدة:48) .( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}(الأنعام من الآية114) {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(النحل: من الآية89)

من واجباتنا نحو القرآن الكريم

إن الطريق القاصد لبلوغ تلك الغايات، والوصول إلى تلك الدرجات، هو القيام بواجبنا في التعامل مع القرآن الكريم، وإن ذلك ليتلخص في الآتي :

1- تلاوته حق التلاوة، بمعرفة أنه كلام الله، ومنه صدر، وعنه يتلقى.. وبالالتزام بآداب التلاوة المبسوطة  في الكتب المتخصصة، ك( التبيان في آداب حملة القرآن) للإمام النووي -رحمه الله-.قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:121) قال الإمام القرطبي في (جامعه )2 /95- 96 : “واختلف في معنى (يتلونه حق تلاوته) فقيل : يتبعونه حق إتباعه،  باتباع الأمر والنهى، فيحللون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بما تضمنه قاله عكرمة وقيل:  يقرءونه حق قراءته. قلت:  وهذا فيه بعد، إلا أن يكون المعنى : يرتلون الفاظه ويفهمون معانيه، فإن بفهم المعاني يكون الاتباع لمن وفق “. وقال: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}(النمل:6) وقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}(المزمل: من الآية4)

2- الاستماع إلى القرآن، والانصات عند تلاوته. قال عز وجل :  {وإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(لأعراف:204) وقال سبحانه : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(قّ:37)

3- حفظه حفظ استظهار واستحضار. قال عز وجل : {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}(العنكبوت:49) وحفظ القرآن في الصدور قبل السطور، فرض على الأمة في الجملة، أو بتعبير الأصوليين فرض كفاية. تحقيقا لوعد الله الصادق في قوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر:9) وقد أشارت جملة من الأحاديث  النبوية الشريفة إلى هذا المعنى ، مثل حديث : ” الماهر   بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران”. أخرجه غير واحد، وهذا لفظ مسلم في ( صحيحه  باب فضيلة حافظ القرآن ). وحديث :” يقال لصاحب القرآن: اقرأ   وارتق،  ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند خر آية تقرأ بها”.أخرجه غير واحد، منهم الترمذي،  وقال: ” هذا حديث حسن صحيح “.

4- تعليمه والعكوف على تلقينه ، إذ ذلك هو سبيل حفظه في الأمة، ونشره بين طبقاتها المختلفة. وقد وردت  بمعنى ما ذكر أحاديث نبوية شريفة مثل حديث : ” خيركم   من تعلم القرآن  وعلمه”. أخرجه غير واحد. وهذا لفظ البخاري في (صحيحه) ووجوب حفظه وتعلمه، من الأمور الواضحات، ولذلك أكتفي بذكر نص جامع في مصدر جامع، إذ المسألة محل اتفاق بين الأئمة.قال القنوجي في كتابه (أبجد العلوم ) 2 / 504 :” اعلم ان   حفظ القرآن فرض  كفاية على الامة لئلا ينقطع عدد التواتر فيه. وتعليمه ايضا فرض كفاية وهو من افضل القرب. وأوجه التحمل في القرآن السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه والسماع عليه بقراءة غيره”. و قال الإمام النووي -رحمه الله- وهو يشرح قوله في الحديث :” لا يغسله الماء” .. فمعناه محفوظ فى الصدور، لا يتطرق اليهالذهاب بل يبقى على مر الأزمان “. انظر : (شرح النووي على مسلم) 17/198.

5- وجوب الإنفاق على تحفيظه وتعليمه، ووجوب هذا متفرع عن الواجبين قبله، إذ كان ذلك متوقفا عليه، لقاعدة ” ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” وقد تقرر أن حفظه وتعلمه واجب، فكان الإنفاق على ذلك _أيضا- واجبا في الجملة. وفي الحديث الصحيح : ” لا حسد إلا في اثنتين:  رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار. ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ” أخرجه البخاري في الصحيح. وتأمل هذا الربط العجيب بين القيام بالقرآن، والإنفاق للمال.. ولذلك أجاز فقهاؤنا تعليم القرآن بأجرة، لئلا يتعطل ذلك،  قال العلامة النفراوي في شرح قول الشيخ ابن أبي زيد في ( الرسالة) :” ولا بأس بتعليم  المتعلم القرآن على الحذاق “. أي على الحفظ للقرآن أو شىء منه، والمعنى أنه يجوز الإجارة على حفظ القرآن كلهأو بعضه، وهو المراد بالحذاق. … والدليل على جواز ذلك قوله  :” إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله”. وإجماع أهل المدينة على ذلك. ولذلك قال مالك ] :”لم يبلغني أن أحدا كره تعليم القرآن والكتابة بأجرة”.، : (الفواكه الدواني في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني)2/114. ون : -أيضا- ( كفاية الطالب الرباني .. ) لأبي الحسن المنوفي. 2/255.

> 6- تدبر آياته، والتفكر في معانيه، لأن ذلك هو سبيل الاستفادة منه، والاتعاظ بمواعظه البليغة.  قال الله تعالى : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الحشر:21) وقال عز وجل : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.}(الزمر:23) وقال سبحانه  في بيان مقصد من مقاصد إنزال القرآن: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}(صّ:29) وقد ; نعى القرآن الكريم على أقوام لا يتدبرون القرآن، وأنكر على آخرين لا يتذكرون بآياته، فقال : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(محمد:24) وقال : {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}(القمر:17). وإنما يحصل التدبر للقرآن، ويؤتي التفكر في آياته ومعانيه ثماره. ب:

> 7- مدارسته في المجالس الخاصة والعامة، في المساجد والمنازل،  وفي المراكز والمدارس، وأن تكو ن تلك المدارسة ديدن المجتمع: خاصته وعامته، رجاله ونسائه، شيبه وشبابه. وإنما حصل للمجتمع الإسلامي الأول ما حصل له من صلاح  واستقامة، ورقي وتقدم وازدهار ، بتلك المدارسة للقرآن، من هنا نفهم عمق مدلول  ما قاله ابن عباس ]  :”كان رسول الله   أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. فلرسول الله    أجود بالخير  من الريح المرسلة”. أخرجه البخاري في (صحيحه) كما نفهم -أيضا- سر ترغيب رسول الله  في عقد مجالس مدارسة القرآن.. فيما رواه عنه أبو هريرة ] قال :”…. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ،  يتلون كتاب الله  ويتدارسونه بينهم،  إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه “. أخرجه الإمام مسلم في (صحيحه) وبهذا المنهج الواضح تحصل للأمة أفرادا وجماعات : منزلة الربانية المشار إليها في قوله nتعالى- : {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}(آل عمران:79) .وقد قريء -تواترا-( تعلمون)و(تعلمون) و(تعلمون)فأفاد: التعلم والتعليم والعلم. وتلك هي غاية المدارسة.

8- امتلاك أدوات المدارسة من العلوم المساعدة، وعلى رأس ذلك، وفي مقدمته : تعلم اللغة العربية، إفرادا وتركيبا، بيانا وإعرابا. لأن القرآن عربي الألفاظ، عربي الأسلوب، قال تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(يوسف:2)ولا يمكن فهمه على الحقيقة إلا بتعلم تلك اللغة، وفهم مدلولات خطابها،

إن من  الأخطاء الثقافية القاتلة : ابتعاد الناس عن تعلم لغة الضاد، وصرف جهودهم واهتماماتهم في تعلم رطانة الأعاجم والتنافس في ذلك. وقد ظن أقوام منا أن ذلك العهد قد ولى مع رحيل المحتلين عن ديارنا، فإذا بالناس يصابون بسعار تعلم اللغات الأجنبية، وإذا بالمدارس العامة بله الخاصة، تتنافس في ذلك بشراسة غريبة، وتجعلها واللغة العربية على قدم المساواة في مراحل التعليم الأولى، ناهيك عن مراحله الأخيرة، أضف إلى ذلك : تلك المراكز المتخصصة في تعليم تلك اللغات، و قد انتشرت في مدننا وقرانا انتشار النار في الهشيم. كل ذلك على حساب تعلم اللغة العربية، لغة القرآن الكريم.

هذا، وليعلم، أني لا أقصد ذم تعلم اللغات بإطلاق، وأنى لي ذلك؟  ورسول الله  قد أرسل زيد بن ثابت ليتعلم اللغة العبرية.. وإنما المقصود هنا التنبيه على خطأ هجران اللغة العربية التي هي جزء من الدين، باعتبار أن كتاب الإسلام نزل بها. فأنى لذوي الألسن الأعجمية، الذين لا يفرقون بين الذال والدال، و.. أن يفقهوا أسرار العربية، ويدركوا مرامي الخطاب القرآني ؟! وقد عرف بعض العلماء علم التفسير  بأنه ” فهم النظم الجليل بقدر الطاقة البشرية”.

9- العمل بالقرآن، ونشر ه بين الناس سلوكا وأخلاقا، لا أفكارا مجردة وأقوالا. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155) {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}(لأعراف:3)  وقد حذرنا الله تعالى من هجر القرآن فقال : {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}(الفرقان:30)

قال العلامة  القرطبي  في (جامعه)ج: 13 ص: 27  :” و قال أنس قال النبي  من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده  ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني وبينه ذكره الثعلبي”.  وقال ابن كثير  في تفسيره : ج: 3 ص: 318 :”وترك الإيمان وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريق مأخوذة من غيره من هجرانه”.

إن العمل بالقرآن يعني الانطلاق منه والرجوع إليه في تعرفنا على الله  وتعريفنا به،  وفي عبادتنا له وفي معاملاتنا المختلفة , وفي علاقاتنا مع بعضنا ومع غيرنا من الأمم و الشعوب , وفي رسم منطلقاتنا الفكرية والثقافية والعمرانية وو… وقد كان ذلك دأب المسلمين الأوائل , فبلغوا من الحضارة واتساع العمران  وتنوع الثقافات ما يشهد به الأعداء قبل الأصدقاء .. وإن إلقاء نظرة عابرة على مؤلفات المسلمين في شتى العلوم , وجميع التخصصات ، لتنبئك بذلك،  حيث كانوا يفتتحون مؤلفاتهم بآية قرآنية،  تكون هي محور الموضوع المدروس في التاريخ أو الجغرافية أو الطب أو … فهلموا -أيها المسلمون- إلى القرآن، هيا أقبلوا إلىمأدبة الرحمن، فقد اتضح السبيل، وحصحص الحق، وأسفر الصبح للمبصرين:

الله أكبر إن دين محمد

وكتابه أقوى وأقوم قيلا

لا تذكر الكتب السوالف عنده

طلع الصباح فأطفئ القنديلا

ولله در أبي إسحاق الشاطبي إذ يقول عن القرآن : ” إن الكتاب قد تقرر أنه   كلية الشريعة  وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر وأنه لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره ولا تمسك بشيء يخالفه وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا لا اقتصارا على أحدهما فيوشك أن يفوز بالبغية وأن يظفر بالطلبة ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول “. ن:  الموافقات ج: 3 ص: 346

ذ.محمد العمراوي السجلماسي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>