حوار مع د. فريد الأنصاري 


القرآن العظيم خلاص الأمة وأساس بعثتها الجديدة!

العالم الإسلامي :

تعددت الأشكال والموت واحد!!

> نُشِرَ لكم كلام في بعض المجلات، وكذا ضمن بعض كتبكم؛ حول ضرورة تجديد الحركات الإسلامية لنفسها.. ماذا تقصدون بذلك؟ وما مسوغ ذلك التجديد؟ خاصة والحركات الإسلامية هي بذاتها حركات تجديد في الأمة؟!

>> لقد تقارب الزمان اليوم لينكشف عن شيء! والعالم يتهيأ له بدول تتوحد وتتكتل، وأخرى تتمزق وتتفرق! وبرموز تقوم وأخرى تنهار! فانطلاقا من سقوط الاتحاد السوفياتي، وسقوط سور برلين بدلالاته السيميائية العميقة، حتى أحداث الحادي عشر من شتنبر: 2001 بأمريكا؛ كانت موجة أخرى من تاريخ التدافع الحضاري تتجمع؛ لتنطلق بأول عملية احتلال عسكري في القرن الخامس عشر الهجري (الحادي والعشرين الميلادي)! وتدخل أمريكا العالم الإسلامي غازية بلا قناع سياسي! تدخل بخلفيتها الشموليةالمتطرفة، الجامعة بين المطامع الاقتصادية، والأيديولوجيات العقدية (الإنجيلية الصهيونية)؛ فتكون العراق أول قنطرة للعبور إلى غزو عالمي جديد للأمة الإسلامية. بتجليات متعددة، قد تختلف مظاهرها من قطر إلى قطر؛ ولكن مآلها واحد: هو الهيمنة العولمية الحديدية على العالم الإسلامي! وههنا: تعددت الأشكال والموت واحد!

إن الغزو الأمريكي للعالم الإسلامي في صورته الجديدة، الحاصلة اليوم؛ لهو صفعة قوية في وجه الأمة! ليس – فقط – من حيث هي أنظمة سياسية؛ ولكن أيضا من حيث هي مشاريع نهضوية فكرية، وقومية، ووطنية، بل حتى إسلامية أيضا! ولم لا؟

لقد انتهى زمن وكالة الأنظمة العربية في كثير من الدول العربية! فالآن أمريكا هي التي تشتغل، وهي التي  تقتحم البيوتَ وتَعْتَقِلُ! وهي التي تحاكِم! وهي التي تصادِر! تلقي القبض على من تشاء كما تشاء، ومتى تشاء! فأيما مفكر حر، أو خطيب، أو داعية -أو ربماحتى عابر- أزعجها بكلمة؛ أصدرت أمرها باعتقاله! ولم تعد تبالي! ولا حتى بحرج النظام العربي! الذي يعيش ذلك المطلوب في حوزته وتحت سلطانه! وتلقي القبض عليه هي بنفسها، هنا أو هناك، في أي مكان من خريطة العالم الإسلامي!

ثم بعد هذا وذاك؛ من ذا قدير على نقض مقولة الحقيقة المرة: أن المسلمين اليوم يعتصمون بآخر القلاع الحضارية لوجودهم؟

وينتصب السؤال المرير: أين الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي؟ أين أكثر من قرن من الزمان، مضى في بناء التنظيمات والجماعات؟ أين الخطط والبرامج والاستعدادات؟

ألم يئن الأوان بعد للمراجعة، والمساءلة لحركات الدعوة الإسلامية هنا وهناك؟

إلى متى ونحن متشبثون بخطط خرقها الغرب واخترقها أكثر من سبعين مرة؟ ثم أتت عولمة النظام العالمي الجديد على آخر ما بقي منها! فلم يعد لها غير عجيج المظاهرات، وصراخ المهاترات؟! إلى متى ونحن متشبثون بوهم (إنناقادمون!) ونحن نعني بذلك ذواتنا لا ذات الأمة! تماما كما تشبث نظام العراق الهالك؛ بوهم (خططٍ للسحق والتقطيع)؛ لم تلبث أن دكتها الدبابة الأمريكية، ولَمَّا تنقطع أصداء كلماتها الرنانة في الفضائيات!

أين الحركات الإسلامية من الإسلام؟ وإلى أي حد هي فعلا (تجتهد) – بالمعنى الحقيقي للكلمة – من داخل بنية النص الشرعي، ومنظومته الاستدلالية؛ للتمكين لهذا الدين؟ أين هي الاستراتيجيات الدعوية، والإصلاحية؟ وأين موازين نقدها وتمحيصها؟

أليس قد آن الأوان فعلا؛ لتجديد النظر في الأساليب التربوية، والمنهجيات الدعوية؟ في زمن لم تعد فيها موازين القوى كما كانت، ولا مظاهر العدوان كما كانت؟ وصار العدو -عن كثب – يراقب برامج التعليم، وخطب المساجد، والعلاقات الزوجية، ويحصي دور القرآن، والمعاهد الدينية، ونِسَبَ الولادات؟ أليس قد آن الأوان لبعثة جديدة؟ تجدد أول ما تجدد هذه (الحركات الإسلامية) نفسها! التي تقادم لديها مفهوم (التجديد)؛ فلم تعد قادرة على إعطاء ما لا تملك؟ إلى متى ونحن صامتون؟ مترددون في وضع الإصبع على مواطن آلامنا وأدوائنا؟ وقد امتدت يد الآخر إليها قبل يدنا؛ لتعالجها -ولكن مع الأسف – بدوائه لا بدوائنا وبطريقته، لا بطريقتنا!

في معنى البعث والتجديد

> إذن؛ بناء على ذلك؛ كيف تتصورون تنـزيل مفهوم (البعث) في واقع الأمة اليوم؟ وكيف تتصورون عملية (التجديد)؟

>> أحسب أولا أن مفهوم (البعث) يرد في القرآن والسنة بمعنيين اثنين: الأول هو بمعنى إحياء الموات، كما في قوله عز وجل: {فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}(البقرة:259) وقوله سبحانه : {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ. بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(النحل:38) وقوله أيضا: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ}(الحج:7) إلخ.  فالبعث هنا فعل قدري تكويني يرجع إلى إرادة الله جل وعلا بإحياء الميت، وتجديد الحياة فيه؛ ليخرج من عالم الفناء إلى عالم البقاء، أو من دائرة العدم إلى دائرة الوجود.

ولا يكون البعث – بهذا المعنى – إلا بعد حياة سابقة يعقبها موت؛ لما لمعنى (البعث) من دلالة على إعادة الحياة إلى من فقدها، وليس بمعنى نفخ الحياة ابتداءً. فهذا إنما هو (خلق). وأما البعث فهو: (إعادة خلق)، كما هو مفهوم من النصوص السابقة، وفي قول الله أيضا، في حق عيسى \ : {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}(مريم:15).

وأما المعنى الثاني لمفهوم (البعث) فيرجع إلى معنى (الإرسال). وهو: تكليف الرسل بوظيفة البلاغ. كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}(القصص:59)، وقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(الإسراء:15)، وقوله جل وعلا: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِه}(الأعراف:103). ونحو هذا وذاك في القرآن كثير.

فالبعث: هنا يرجع إلى معنى تكليفي، وأمر تشريعي تعبدي. بينما هو في الأول راجع إلى  أمر قَدَرِي تكويني. إلا أن هذا المعنى الثاني يستصحب المعنى الأول من الناحية السيميائية، فلا يمكن تجريد اللفظ من إيحاءاته ببعثة الرسل، فكأنما ورود المبعوث على الأمة الضالة نوع من الغيث يحيي منها الموات، ويبعث فيها الحياة! ومن هنا كان قول النبي  : >إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها<(1)؛ تعبيرا جامعا لكل تلك المعاني، فهو دال بالأصالة على تجديد البعثة بالمعنى الإرسالي، أعني إرسال العلماء لا الأنبياء. وليس هو ابتداء وحي، وإنما هو تعليم وحي إعادةً وتجديداً. وهو دال بالتبع على معنى الإحياء. فبعْثُ المجددين إنما هو إحياء للأمة، ونفخٌ لروح القرآن فيها من جديد، حتى تعود إليها الحياة، وتنخرط من جديد في صناعة التاريخ! ومن هنا كان (العلماء ورثة الأنبياء}(2) كما صح في الحديث. هذا المعنى العظيم تؤكده بصائر القرآن العظيم، وبشائر السنة النبوية، وحركة التاريخ!

ولا تكون البعثة – بناء على ذلك – إلا عملية جذرية شاملة وعامة، سواء رجعت في البدء إلى شخص واحد، أو إلى عدة أشخاص، على الخلاف في تأويل معنى لفظ (مَن) الوارد في الحديث: (من يجدد لها دينها)، أهو دال على المفرد أم على الجمع؟  قلت: هو في جميع الأحوال آئل إلى الجمع، حتى ولو حملناه على المفرد. أعني حتى ولو كان المنطلق التجديدي فردا. ألا ترى أن أصل البعثة النبوية في هذه الأمة إنما هو رسول الله  نبي واحد خاتم، ولكن مظاهر بعثته  تجذرت في جيلكامل من الصحابة رضي الله عنهم. تلك هي الموجة الأولى من البعثة الأولى،  حملت دفعة الوحي قوية، تحيي الموات في الأرض.

تحرير الانسان قبل تحرير السلطان وتحرير الوجدان قبل تحرير الأوطان

< هل لكم أن توضحوا بعض معالم هذا التصور من الناحية العملية؟

>> نعم؛ فمن الملحوظ أن الأمة اليوم على أبواب تحولات جديدة، هي في تاريخ العالم قد بدأت بالفعل. لكن من الملحوظ أيضا أن هناك عجزا لدى الحركات الإسلامية في العالم -غالبا – عن مواكبة التحولات العالمية الجديدة، وإصرارها على المنهج التقليدي في النقد والاحتجاج، هذا المنهج الذي ورثت أغلب تقنياته التنظيمية والحركية؛ عن الأحزاب السياسية العلمانية البائدة، التي نشأت في ظل (الاستعمار) وبُعَيْدَه، ولم يبق لها اليوم في واقع الناس إلا ظلال باهتة، هي أشبه ما تكون بأطلال الماضي!لم تستطع الحركات الإسلامية في الغالب أن تخرج من جبة الحزب السياسي، ونموذجه النضالي الدخيل! وإن ادعت أنها تفارقه وترفضه، فإنما هي صورة تقليدية له، إما بصورة اجتماعية، أو – في بعض الأحيان – بصورة حرفية!

تعلقت الحركات الإسلامية العتيقة بعقدة الأنظمة الحاكمة، ومشكلة الديمقراطية في العالم الإسلامي، وضخمتها إلى درجة التقديس العَقَدِي! كما تعلقت بقضية النُّظُم السياسية، والاقتصادية، والإعلامية… إلخ.

وأحسب أن التاريخ الجديد بمعطياته الحاضرة، وبملامحه المستقبلية؛ قد تجاوز هذه المشكلات جميعا! لقد امتدت الآلة الإعلامية والثقافية والاقتصادية؛ لتستعمر الإنسان المسلم، في أخص خصائصه الوجدانية والعقدية والاستهلاكية؛ ليعيش على النمط الأمريكي، أو يسعى إلى ذلك. حتى صار على استعداد للتضحية بكل مقدساته من أجل ذلك! هذا هو اليوم – مع الأسف – شأن كثير من البلاد الإسلامية! والكتلة  الأمريكية/الصهيونية المتطرفة منهمكة في حرب شاملة؛ لتذويب الباقي والشارد من الشعوب الإسلامية؛ في هالوك العولمة! هذه أشياء نشاهدها اليوم على مرأى ومسمع من العالم.

لقد تمكن الاستعمار القديم من الأوطان، فقامت عليه بعثة تجديد مجاهدة، مناسبة لفجوره وبجوره! فحاربت وجوده العسكري والإيديولوجي بعد ذلك بشتى الوسائل. بيد أن الاستعمار الجديد تمكن من الإنسان قبل أن يتمكن من الأوطان! فاقتحم جسور البلاد بالشهوات قبل أن يقتحمها بالمدرعات والدبابات! ففقدت الشعوب الإسلامية قوتها على الصمود أمام الإغراء العولمي، وفقدت نمط عيشها وطرائق استهلاكها، واحتوتها الفلسفة الأمريكية المتمردة على الفطرة احتواء كليا إلا قليلا!

ومن هنا فإن بعثة التجديد المقبلة مدعوة إلى تحرير  الإنسان قبل تحرير السلطان! وإلى تحرير الوجدان قبل تحرير الأوطان! ولقد رأينا كيف أن أحزاب المقاومة للاستعمار القديم في كثير من البلاد العربية والإسلامية، لما تخلصت من هيمنته العسكرية والإدارية المباشرة؛ خلفته في شعوبها بكل ألوان الفسوق والعصيان، وإعلان التمرد على شريعة الرحمن!

إننا اليوم في حاجة إلى تنـزيل جديد للقرآن؛ لكن هذه المرة ليس وحيا من السماء، فمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قد ختم بعثة الرسل. وإنما التنـزيل الجديد: هو قدحٌ لحركة التداول الاجتماعي للقرآن! وذلك بأن يتحرك أهل البعثة التجديدية بآياته وحقائقه في المجتمع؛ تبصراً وتبصيراً، وتدبرا وتدبيرا.

البعثة الجديدة :

حركة إسلام وليس حركة إسلامية

> كيف إذن تتصورون عملية الإصلاح والتجديد بالقرآن؛ وها هو ذا كتاب الله اليوم يتلى ويسمع في كل مكان؟

>> إن المشكلة الأساس هي في منهج التعامل مع القرآن! ومدى ثقتنا بحقائقه الإيمانية ومفاهيمه الربانية! لقد كان الرسول الخاتم ( في اللحظات الأولى من نزول القرآن عليه؛ في حاجة إلى الإيمان بنفسه أولا، وهذه قضية مهمة سنحتاج إليها قريبا،ألم تر أنه خوطب – كما في الحديث المتفق عليه -  بقوله تعالى : (اقرأ)! فكان جوابه مكررا بتكرار الأمر: (ما أنا بقارئ) حتى قال – في سياق قصة هذا الحديث نفسه- لزوجه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: (أي خديجة! ما لي؟ لقد خشيت على نفسي!) فجعلت تواسيه وتطمئنه حتى ذهب عنه الروع، ثم ذهبت به إلى ورقة بن نوفل وكان عليما بالإنجيل، يستفسرانه عن حاله( وطبيعة ما يراه عليه الصلاة والسلام؟ وقد ورد في الصحيحين أيضا أنه  قال : (بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه)، وفي رواية أخرى للشيخين أيضا: (فجُئثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض! فرجعت فقلت: زَملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر – إلى قوله – والرجز فاهجر}، فحمي الوحي وتتابع)(3).

وشيئا فشيئا بدأ الإيمان يترسخ في قلب رسول الله، الإيمان بنفسه نبيا ورسولا من رب العالمين، حتى استيقن أنه أحد المرسلين، بل هو خاتم المرسلين والنبيئين.

ومن هنا كان  هو أول مؤمن في الإسلام. قال الله عز وجل في محكم القرآن: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون}(البقرة:285). فهو أول مؤمن قبل أن يدعو إليه أحداً من العالمين حتى أقرب الناس إليه، آمن هو أولا! وهذا أمر بَدَهي، لكنه قضية منهجية، تحتل أهمية كبرى في فقه الدعوة الإسلامية.

فهل آمنت الحركات الإسلامية بنفسها؟ أم أنها على شك من أمرها مريب؟ إلى أي حد هي واعية؛ بل مؤمنة بوظيفتها الربانية؟ أم أنها تشتغل بمجرد (وعي المشاركة) في تطوير بنية مجتمع حديث؟ مجتمع هيكله الاستعمار الجديد وفق نظام حياة دخيل، ونمط عيش مستورد، فكان بذلك يخضع في خصائصه التنظيمية لنمط غير إسلامي! وما المجتمع إن لم يكن نسيجا من العلاقات، ونسقا من المؤسسات؟ ماذا يمكن أن تعطي قراءة للحداثة من خلال بنيتها غير الحداثة نفسها؟

فإذن؛ البعثة بمعناها التجديدي إنما هي (حركة الإسلام)، أكثر مما هي (حركة إسلامية). إنها ليست حركة ترهن نفسها بمشروع (أسلمة) لواقع هجين. مشروع لا يعدو أن يكون مجرد (مباركة) لمجموع مفاهيمه؛ بشواهد قرآنية ونصوص حديثية، مبتورة من سياقها، مجردة عن مقاصدها الشرعية، مفرغة من آثارها التربوية في النفس وفي المجتمع! إن (بعثة التجديد) هي حركة كلية تعيد إنتاج التنزيل القرآني بمنهجيته التربوية الربانية الشاملة، بوعي علمي راشد، قوامه (الفقه في الدين) بمعناه الكلي، يؤمه جيل من العلماء الحكماء، ينطلقون مرة أخرى بالمعلوم من الدين بالضرورة، فيجددون الأصول العقدية والعملية، بمعنى تجديد الغرس والتربية والتكوين.

إنها إذن؛ تجديد (المشاهدة) للحقائق الإيمانية، وتجديد التَّمْسِيك الاجتماعي بالكتاب وإقام الصلاة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}(الأعراف:170).

العلماء مفتاح التجديد

> فما مفتاح هذا الأمر إذن؟ من هو القادر على ممارسته أهليةً ومسؤوليةً؟

>> المفتاح لدى العلماء! بل العالِم هو المفتاح لكل خير في هذه الأمة! إن حديث النبي  ( يحدد (مفتاحية) بعثة التجديد، وينص عليها بصورة واضحة، لا غَبَش فيها ولا إبهام. وذلك قوله : (إِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ. وإنّ الأنبِيَاءَ لَمْ يُوَرّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنّمَا وَرّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ}(4). بيد أن (الوراثة) ههنا تقتضي إرث العلم بكل وظائفه الدعوية والتربوية. لا مجرد العلم الخالي من كل عمل، ومن أي رسالة! فذلك علم مدَّعَى غير موروث! فالعلماء الورثة: هم أهل الرسالة، وحُمَّالُ البلاغ القرآني. ولقد أصل أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله (ت: 790هـ) ذلك. وهو رحمه الله أحد أئمة التجديد في الأندلس. فوصف العالم المتصدر للتربية والتجديد؛ بـ(الوارث)، و(المُنْتَصِب)، كما وصفه بالرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم، والفقيه، والعاقل. في نصوص جديرة بأن تشد إليها الرحال! وهي اصطلاحات كلها دالة عنده على (إرث) النبوة في منهج التربية والتعليم والتزكية للأمة. (فالانتصاب) إنما هو تجرد لمهمة البلاغ. تماما كما تنتصب الجبال بين الصحارى والبطاح؛ أعلاما للضالين عن الطريق، فيراها كل العابرين، وتكون بذلك مثارات اتباع واقتداء. قال رحمه الله: (إن المنتصب للناس، في بيان الدين مُنْتَصِبٌ لهم بقوله، وفعله! فإنه وارثُ النبي! والنبي كان مبينا بقوله، وفعله. فكذلك الوارثُ لابد أن يقوم مقام الموروث، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة! ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله، وأفعاله، وإقراراته. وسكوته، وجميع أحواله. فكذلك الوارث، فإن كان في التحفظ في الفعل؛ كما في التحفظ فى القول؛ فهو ذلك! وصار من اتبعه على هدى. وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى! لكن بسببه!)(5) وقال في منهج اقتداء الصحابة برسول الله  : (وكانوا يبحثون عن أفعاله، كما يبحثون عن أقواله. وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب!)(6)

ذلك هو عالِم البعثة إذن؛ داعية رباني حكيم، مجدِّد ومجتهد، منتصب للناس بعلمه وورعه؛ مُعَلِّماً، وداعيا، وهاديا، ومربيا.

وملاحظة السيرة النبوية تفضي إلى أن النبي  قد كوَّن عددا كبيرا من علماء الصحابة. كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم كثير! جيل من العلماء الأئمة، كانوا فقهاء، وحكماء ربانيين، ولم يكونوا مجرد نقلة. بل أسهموا في بناءحضارة الأمة، ونهضتها الأولى.

وبعثة التجديد لن تكون إلا بمثلهم، منهجيا. أي بقيادة علمية متميزة كما وكيفا. فلا بد من عدد وفير من أهل العلم. من الذين يحملون الرسالة، ويشتغلون بالقرآن؛ تعليماً، وتزكيةً، وتفقيها في الدين. وإنما أولئك هم العلماء الربانيون -كما سبق قول أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله- (الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره)، كما جاء في بعض تراجم الإمام البخاري رحمه الله(7). والذين لا تفتنهم آحاد الجزيئات عن ملاحظة الكليات، ويراعون المآلات قبل الجواب عن السؤالات! إنهم قوم يحملون أخلاق النبوة علما وحِلْماً!

والله الموفق للخير والهادي إليه، وصلى الله على محمد وسلم.

———–

1- رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في المعرفة، عن أبي هريرة مرفوعا. وصححه الألباني، رقم 1874 في صحيح الجامعù.

2- جزء حديث أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6297

3- متفق عليه.

4- جزء حديث رواه أحمد والأربعة، وابن حبان. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم: 6297.

5- الموافقات: 3/317

6- الموافقات: 4/250

7- ن. صحيح البخاري، كتاب العلم، (باب العلم قبل القول والعمل).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>