لقد نبهناك منذ البداية أن الموضوع يخص الأميين فقط ، لكن ما دمت قد بدأت في قراءة الموضوع فتابع معنا حتى النهاية .. فقد تجد ما لم تكن ترجوه أو حتى تنتظره .. لتجد نفسك في الأخير أميا وعضوا عاملا في حزب الأميين .. قد نتفق وقد نختلف لكن الاختلاف لا يفسد للود قضية، فتابع :
تصنيفات ومعايير يعتمد عليها الدارسون الاجتماعيون لإطلاق أو إلصاق صفة الأمية .. لكن المتفق عليه بالإجماع كون الأمية من أعظم المصائب، لم تنج منها كثير من الأمم، وانتشر الداء بين الفقراء والأغنياء، والضعفاء والأقوياء ـ اللهم لا شماتة ـ وتوسعت خريطته شرقا وغربا، وكان لأمة “اقرأ” حظ وافر، بل حظ الأسد ..
الأمية مراتب ومنازل متعددة ومختلفة ومتفرقة، أعلاها غافل عن أميته لا يدرك أنه أمي، لو اطلعت على حياته لرأيت عجبا ولنكست رأسك حياء مما ترى وتسمع، ولهذا قيل قديما “تكلم حتى أراك”، لو ناقشته لوجدته أعجاز نخل خاوية أو خشبا مسندة من تحتها رماد تذروه الرياح، يشد ربطة عنقه حتى تنتفخ أوداجه من الغضب لو قلت له ـ ولو عرضا ـ أنه أمي، يحتاج إلى علاج ودواء من صيدلية من “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”. إنه في روض من رياض الأمية يزهو، وفي غفلة من ذاته يتلهى .. هم العدو فاحذر أن تكون من شيعتهم أو على شاكلتهم.
وأدنى منازل الأمية الإحساس بها وتمني صاحبها زوالها دون الفعل لإزالة الغشاوة على بصيرته، منتظرا الغد يأتي بجديد، حياته تمتد بين التسويف طولا والإرجاء عرضا، تشغله عوارض يتخبط فيها، وتصرفه صوارف لا أول لها ولا آخر، فيقعد وهو الطاعم الكاسي، ويجد للأمية حلاوة وطلاوة ويشد عليها بالنواجذ، مثله كمثل الذي يعتريه نقص جلي فيجعله زيادة في الجمال ودليلا على المجد، ثم لا يرضى فيجعل ذلك فخراً ويشهره في الآفاق .. وبين المنزلتين والدرجتين درجات لا يعلمهنكثير من الناس. فلا تكن من الأولين ولا من الآخرين فتهلك ..
أنت حين لا تقرأ القرآن ولا تصغي للقرآن ولا تجالس أهل القرآن، فاسمح لي أن أقولها لك “بالفم المملوء” أنت أمي.
نعم أنت أمي تحتاج إلى توبة نصوح، وإلا فاختر لنفسك على أي شق من الأمية تموت. أنت حين لا تتعامل مع القرآن بقوة : فهما وحفظا وتعليما وتعلما يصدق فيك قول القائل ” بقرة واحدة سمينة ولا سبع عجاف”، كن طبيبا، طيارا، معلما أو موظفا ساميا، تبقى صفة الأمية بك لصيقة ما دمت متخذا هذا القرآن مهجورا، ولم تعرف له مكانة وقدرا.
هذه هي الأمية الحقيقية، فهل ترضاها لنفسك وهل ترضاها لأهلك وأبنائك وهل ترضاها لأمتك؟ اللهم لا.
قال أحدهم وهو يناقش الفكرة، الرسول محمد ، كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وجاء بالمعجزة الكبرى .. قلت ـ في نفسي ـ هذا في أعلى منازل الأمية، بل كله أمية من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه. ثم قلت بصوت يشوبهانفعال، فهل تأتي أنت بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لماذا لا تقرأ هذه المعجزة ؟ فسكت، وبهت الأمي ..
إن أبناءنا وبناتنا وهم بناة المستقبل، يعرفون فلاناً المطرب وفلاناً الممثل وفلانة البطلة، ولا يعرفون ـ للأسف ـ علماء وعظماء هذه الأمة. ولأن أعداءنا علموا مصدر قوتنا فهم يحاولون جادين صرفنا وإبعادنا عن القرآن الكريم بكل الوسائل والحيل ما علمنا منه وما لم نعلم ..
جميل جدا حين تخرج من بيتك في الصباح الباكر، تمر على الدكاكين والمقاهي فتسمع القرآن يتلى ويرتل، لكن القلوب لاهية بالتحدث إلى الزبناء، أو الحديث عن سلعة جديدة تعرف الإقبال في السوق وتترك سلعة الله بائرة ..
لقد قرر الله تعالى أن هذا القرآن ” نور” وأنه “هدى” وأنه “مبين” وأنه ” شفاء” .. وأنه تبيان لكل شيء، وأنه ذكر من أفضل الأذكار، وأنه عاصم لمن اعتصم به من الزلل في شؤون الحياة كلها، وأنه لا يفهم بوعي النفس المنفصل عن عقل الروح ، بل لا بد فيه من التدبر والتذكر والتفقه والتعقل، وتلك آليات الفهم، استعمالها واجب حتى يؤتي القرآن الكريم ثماره الموجودة في باطن المؤمن وظاهره وفي سائر شؤون حياته .. ويكون بذلك قد تخلص نهائيا من براثن الأمية، ودفنها من غير رجعة، ويصير سويا مستويا على عوده يعجب القراء ويوقظ غيرتهم، فيكون لهم دعوة إلى الحرية والانعتاق من كل القيود والحدود، إلا حدود الله تعالى ، فقد عرفها ووقف عندها بإجلال وتعظيم.
فهل تكون ذلك المرء الذي نور الله قلبه وتستقيل من حزب الأميين، وتصاحب القرآن الكريم وتلزم غِرْزَ الصادقين؟ .
أزدى موحى