الأسرة في ظلال القرآن الكريم


مــدخــل

إن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيميَّة مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، قال جل وعلا : {يا أيها الذين  آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون}(الأنفال:24)، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله وللرسول ظاهرا وباطنا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان..ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول ، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول عليه الصلاة والسلام.. و(لما يحييكم) هنا تعني للحق، وهو هذا القرآن ففيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة والفوز بالجنة دار الحيوان التي فيها الحياة الدائمة الطيبة ورضوان المولى تبارك اسمه (1).. “فلا حياة لابن آدم إلا بالوحي، فهذه الملايير الموجودة الآن على وجه الكرة الأرضية في منطق القرآن، مادام لم يَحُلَّ فيها القرآن فهي ركام من الأموات”(2).. وقد جمع سبحانه لمن استجاب له ولرسوله بين النور والحياة، ولمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة، قال تعالى: {أَوَمَنْ كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}(الأنعام:122]..

والأسرة كيان جماعي للإنسان يحدث فيها القرآن الكريم تأثيرا كتأثير الروح في الجسد، فعندما تعيش في ظلاله وتحل فيها روحه أي في مكوناتها من الأفراد: الأب والأم والأبناء…  تتحول من حيث الطاقة و من حيث الفعالية ومن حيث التأثير إلى خلق آخر..وما ذلك إلا أن لهذا الكتاب طريقة خاصة وأسلوب تربوي فريد في تحويل الإنسان وتغييره وجعلِه في صورة التكريم التي أرادها الله جل ذكره لهذا المخلوق حين جعله خليفة في الأرض..

الآثار التربوية للقرآن على حياة الإنسان

لو تتبعنا الآيات التي وصفت القرآن لوجدنا فيها بعض الأوصاف التي تدل على أهمية هذا  الكتاب التربوية:

< التربية على الحياة المستقيمة: قال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين}(الإسراء:9]. “فالقرآن يربي الإنسان على الحياة المستقيمة، والأخلاق القويمة، لما فيه من العبر والحكم والتشريع العظيم، وكفى به أنه من لدن حكيم عليم : حكيم يضع التشاريع والعبر في مواضعها، عليم بطباع الناس وما يصلحهم”(3)، والإيمان بأن القرآن من عند الله هو الذي يجعله لحياة الفرد والمجتمع، قال تعالى: {قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون}(الزمر:28)، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}(النساء:82).

< تربية الفكر:كقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟}(محمد:24)، وقوله جل ذكره: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}(الزخرف:3).. و هذا المعنى تكرر عشرات المرات، وهو المطالبة بالعقل والتدبر والتفكير، وفي هذا تربية الإنسان على إعمال عقله، وتربية ذهنه على التأمل والاستنتاج والقياس والاستقراء، كما أنه يربي الفكر على عدم قبول شيء بغير حجة أو برهان أو علم. قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله}(الحج:8 – 9)، وقال: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}(البقرة:111، والنمل:64)..وقال سبحانه: {أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم}(الأبياء:24).

< تربية العواطف الربانية : كقوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء}(الزمر:23)، فيه تربية العواطف الربانية من خوف وخشوع ورغبة ورهبة، وترقيق للقلب والمشاعر”..فالقرآن ما يزال دائما يوقظ هذه العواطف، وقد وصف آثاره عند من يتلونه حق تلاوته بأنه يرقق قلوبهم.. ولا يكتفي القرآن بتربية العواطف المنظمة، بل يربي أيضا العواطف المرغبة التي تربي الأمل والإقبال على العمل الصالح، وتربية العقل على حسن التفكير وتأمل آثار عظمة الله، ومحبة الله تعالى.. {والذين آمنوا أشد حبا لله}(البقرة:167]”(4)

< تربية السلوك : فقد علمنا ذلك رسول الله ، فكان له أذكار وأدعية من القرآن، يتلو بعضها في مناسبات معينة، فإذا استيقظ من نومه نظر في السماء وتلا قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل النهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}(آل عمران:190 – 191)، وإذا آوى إلى فراشه تذكر قوله تعالى : {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى}(الزمر:42) ثم يدعو بهذا الدعاء : ((اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما حفظت عبادك الصالحين))..في القرآن الكريم آداب سلوكية عظيمة تعلمنا غض البصر، والغض من الصوت والقصد في المشي، وبرَّ الوالدين، والتواضع للمسلمين، وعدم انتهار الأيتام، وإخفاء الصدقات، وعدم إبطالها  بالمن والأذى، وكثيرا مما لا يحصى في هذا المقام..

هذه إطلالة وجيزة عن الآثار التربوية للقرآن الكريم عندما يتفاعل معه الإنسان وتسري روح آياته في كيانه، وعندما تحتمي الأسرة بهديه ونوره، فيتجلى ذلك في صورة الإنسان الذي يحيى الحياة الطيبة داخل أسرة صالحة مصلحة..

بناء الأسرة في الإسلام

الأسرة كيان مقدَّس في نظر الإسلام، وهي اللَّبِنَة الصالحة الأساسية في بناء المجتمع.. فقد قرر القرآن الكريم -دستور الإسلام الشامل- المبادئ والقواعد التي تؤسس عليها الأسرة، والتي تكفل لها حياة فاضلة تقوم على معاني المودة والرحمة والسكن والوئام والسلام، قال الله تعالى : {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكم من أنفسِكُمُ أزواجاً لتسكُنُوا إليها وجَعَل بينَكُمْ مودَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون}(الروم:21).

تعتبر هذه الآية من الآيات الجامعة لمفهوم الأسرة من حيث تعريفها وغاية وجودها ورسالتها، ويمكن أن نقبس من نورها قبسات، ونتفيأ من ظلالها نفحات:

<  أن الله تعالى جعل للرجل والمرأة دورين متكاملين يتمِّم أحدهما الآخر، ولا يطمئن أحدهما إلا بالآخر، ولا يزالان في قلق واضطراب حتَّى يلتقيا ويدخلا معاً مجتمع السكينة والطمأنينة. وطبقاً لهذه العلاقة التكاملية يمكن للبيوت أن تشاد، وللأسر أن تزدهر، وللمجتمعات السعيدة أن تؤسَّس، قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا}(النساء:19).

<  أن الأسرة تَجمُّع مقدَّس له غايات سامية، طالما حرص الإسلام على إبقائه قوياً متماسكاً، يحقِّق أهدافه ويصمد أمام الطوارئ والأحداث..قال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصّالحا بينهما صلحا والصلح خير}(النساء:128)، فإن عجزا بعث ولي الأمر من أهلهما من يصلح بينهما، قال تعالى: {وإن خفتم شقاقَ بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها،إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}(النساء:35).. فإن لم يجد ذلك في إصلاح ذات بينهما فقد تبين  أن لا مصلحة للأسرة ولا للأمة في هذا الارتباط، ومن ثم شرع الله الطلاق في أضيق الحدود دفعا للمضار التي تنشأ من اجتماع الزوجين على بغض وكراهية..

< أن الغاية من بناء الأسرة إنجاب النسل الصالح، وحصول السَّكَنِ النفسي بين الزوجين، وانسجام أفراد الأسرة في ظلال شرع الله الذي ينظم الحقوق والواجبات في الأسرة.. (..حيث يحافظ الإسلام على الحقوق المتبادلة بين الزوجين، ويربِّي كلاً منهما على احترام حقوق الآخر، والاكتفاء بالحقوق الشرعية الَّتي منحها له شرع الله، قال تعالى : {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم}(النساء:34)، وقال جل ذكره :  {ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة}(البقرة:228)، وهي درجة القوامة الرئاسة البيتية الناشئة عن عهد الزوجية، وضرورة الاجتماع، وقد كلفها الرجل لأنه أقدر على القيام بها بسبب ما أودع الله فيه من قوة في البدن والعزم والعمل..وهي ليست محاباة للرجل أو إلغاء لشخصية المرأة، وإنما تعني توزيع المسؤولية لصيانة الأسرة وتمكينها من تحقيق رسالتها الكونية..)(5)

< أن الأسرة الَّتي تُبنى على قواعد الإسلام الحقيقية، هي أسرة باقية مدى العمر لا تنفصم عراها ولا تنحل أوصالها، ويضاف إلى هذا أن عقد الزواج في الإسلام الذي هو بداية تأسيس الأسرة يمتاز على سواه من العقود بأن موضوعه الإنسان أكرم المخلوقات، (..ومن ثم كان هذا العقد من أهم العقود وأكرمها، ويتجلى ذلك في قيامه على التأبيد والدوام، فلا يعرف التأقيت أو التحديد، وهو أمر يتلاءم مع وظيفة الأسرة في المجتمع ورسالتها المقدسة في الحياة..ولا تناقض بين جواز التفريق بين الزوجين في الإسلام مع قيام عقد الزوجية على الدوام، لأن الإسلام يريد لهذا العقد أن يكون تعبيرا عن علاقة زوجية تفيض بمعاني الاستقرار والسكن والمودة والرحمة، فإذا اضطرب جو الأسرة وساءت العلاقة بين الزوجين إساءة بالغة، وباءت كل محاولات الإصلاح والتوفيق بالبوار، فإن الإسلام يبيح انفصام هذا العقد تحت ضغط الضرورة الملجئة)(6)..فلا يُلجأ إلى الطلاق إلا في الحالات النادرة، وعندما تصبح الحياة بين الزوجين عقيمة لا تحقِّق غايتها، عندها يأذن الشرع بإيقاع الطلاق؛ لتجد الزوجة رجلاً آخر تتعاون معه على تحقيق أهداف الإسلام من الزواج، وليجد الرجل امرأة يتعاون معها على بناء أسرة سليمة.

إذن الأسرة كيان مقدَّس في نظر الإسلام، وهي اللَّبِنَة الصالحة الأساسية في بناء المجتمع الإنساني السليم، ولهذا أَوْلَى الإسلام بناءها عناية فائقة، وأحاط إنشاءها بأحكام وآداب تكفل أن يكون البناء متماسكاً قويّاً، يحقِّق الغاية الكبرى من وجوده. إن الزواج الإسلامي هو بداية الطريق، فالحياة الزوجية في الإسلام علاقة شرعية مقدسة، قَلَّ من يلتزم شرع الله فيها، ويراعي حقوقها وواجباتها؛ نتيجة للجهل بأحكامها وآدابها أو تجاهل ذلك، لذا فإن كثيراً من المشكلات والأزمات تحدث بين الزوجين، فتتعرض الأسرة إلى هزَّات عنيفة، قد تؤدِّي إلى زعزعة أركانها وانفصام عراها. ونحن بإزاء هذه الآية الكريمة التي تُشِعُّ نوراً وتنطق حكمة، فهي تقرِّر أن المرأة آية من آيات الله تعالى، خلقها من جنس الرجل لأن المجانسة من دواعي التآلف، والمخالفة من أسباب التباعد والتنافر، ولقد خلقها الله تعالى لتكون زوجةً له وسكناً لقلبه، والسكن أمر نفساني، وسر وجداني يجد فيه المرء سعادة تشمل جميع أجزاء حياته، وهذا من الضرورات المعنوية الَّتي لا يجدها الرجل إلا في ظل المرأة. ولا يخفى أن ما يجده الرجل في المرأة تجد المرأة نظيره في الرجل، وما لم يكن هناك سكن ومودَّة ورحمة بين الزوجين، فإن الخلل يصيب الحياة الزوجية، ولابدَّ من إصلاحه؛ لتعود تلك الحياة إلى المنهج الإلهي، فتعود إليهما المكافأة الربانيَّة العاجلة من الألفة والمحبَّة، والتفاهم والتعاون على النهوض بأعباء المسؤولية الزوجية. وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن معنى((مودَّة ورحمة))، فقال: (هي التنازل عن حقوقك)، فهذا إشارة إلى خفض الجناح والتجاوز عن المحبوب، فأنت عندما تحبُّ إنسانا تتغاضى عن هفواته وعثراته..ذلك هو سر استمرار هذا العقد الذي سماه الله تعالى ميثاق، قال تعالى : {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}(النساء:21).

خصائص الأسرة التي تعيش في ظلال القرآن

إن العائلة المسلمة التي تريد أن تطبق قوانين الإسلام في الأسرة يجب أن تسودها الأمور التالية وبشكل جيّد :

> تبادل المحبة :ونقصد به، تبادل الحُب والعطف بين الزوجين من ناحية، وبينهما وبين الأولاد من ناحية أخرى.فإن الأسرة إذا غادرها الحب، وهجرها العطف، لا بُدَّ أن تتفاعل فيها عوامل الانهيار والهدم، فتُهدِّد مصير الأسرة. ولا بُدَّ أن كل دقيقة تَمرُّ عَبْر حياة هذه الأسرة تنذر بأن تكون هي تلك الدقيقة التي تتحول فيها إلى ركام من أنقاض ورماد، لأنها تكون دائماً على مسرح خطر معرَّض لِلَهِيب النار، ولَفَحات البركان..إن الحب المتبادل يجب أن يرقد في قلب كل واحد من أفراد الأسرة، حتى يكون قنديلاً يضيء له دروب الحياة، ونبراساً لمسيرته نحو روافد السعادة وينابيع الازدهار، ومنابع الخير والنعيم، ومن ثَمَّ يكون مشعل الحياة الفُضلَى في دَرب الحياة الكبير.إن الحب المتبادل هو العامل الفَعَّال الذي يدفع كل واحد من أفراد الأسرة إلى أن يتحمَّــــل مسؤولياته بِرَحَابة صَدْر، فكل واحد يشعر بأنه سعيد لأنه يتمتع بعطف الآخرين، وحُبهم العميق، ولهذا فإن الإسلام يركّز كثيراً على هذه النقطة..يقول علي كرم الله وجهه : (إِنَّ الله عزَّ وجلَّ لَيرحم الرَّجل لِشِدَّة حُبِّه لولده). كما يؤكد الرسول الأعظم  ذلك بقوله  : (أحِبُّوا الصبيان وارحَمُوهم)..لأن الحُبَّ والرحمة عاملان أساسيان في توطيد العلاقات العائلية..

> التعاون المشترك : يجب أن يسود التعاون المشترك في المجالات المختلفة بين أفراد العائلة، لكي لا تُشَلُّ الأسرة عن حيويتها ونشاطها بصورة مستمرة،فإن التعاون يكنس الإرهاق، ويذيب التذمر من تحمل المسؤوليات، وكذلك يوطد علاقات أفراد الأسرة بعضهم مع بعض، ولا يدع مجالاً لأن يتسرب التفكك إلى ربوع العائلة المسلمة، التي تلتزم بمبدأ التعاون، والتكافل الإجتماعيين..كما أن التعاون بين أفراد العائلة لا بُدَّ وأن يقود سفينة الحياة نحو مرافئ السعادة، ونحو موانئ الرفاه، والهناء، والدفء. التعاون لا بُدَّ أن يحقِّق كل الآمال التي يعيشها جميع أفراد العائلة، ويترجمها على حلبة الواقع العملي. التعاون لا بُدَّ أن يجسد كل الأماني التي تدور في سراب الأفكار، فيمثلها مجسمة نابضة بالحياة.

> الاحترام المتبادل :  تبادل الاحترام، والتوقير، والإحسان، سواءً من جانب الصغير للكبير، أو من جانب الكبير للصغير، يزرع بذور الشعور بالشخصية، ويغرس أوتاداً توطد العلاقات الأُسَرِيَّة بين الأفراد..فعلى الوالدين أن يرحما الأولاد، لكي يحترمهما الأولاد من جانبهم، وكذلك على الأبناء أن يحترموا الآباء، ويحترم أحدهم الآخر..ويؤكد الرسول الأعظم  على هذه الناحية بقوله: (وَقِّروا كِباركم، وارحَموا صِغاركم).

فالإسلام يبني علاقات الأسرة على أساس من الإحسان المتبادل بين الزوج والزوجة، والزوج والأولاد، والزوجة والزوج، والزوجة والأولاد..ويحدّد القرآن الحكيم طرقاً من هذه العلاقة النبيلة، حيث يخط ضمن آية من آياته : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}(البقرة 83)،وهو يرفض – حينما يرسم العلاقات الأسرية – أن ينشأ التنافر والتضجر بين أفـراد العائلــة، أو ينبت التذمر والابتعاد، فيحرص دائماً أن يقيم الأولاد علاقاتهم على أســاس العطف، والحنان، والاحترام، والإحسان..فقال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}(الإسراء 23).

> طاعة رَبّ العائلة : إن إطاعة الأب من قبل جميع أفراد العائلة يمثل النقطة المركزية في الأسرة، لأنــه أعـرف – بحكم تجاربه وثقافته- بالمصـالح الفرديـة، والاجتماعية، لكل واحد منهم. وطبيعي أن الإسلام يقرّر الطاعة للأب في حدود طاعة الخالق، فلو تمرَّد الوالد على مُقرَّرات النظام العام، وشذَّ عن حدود العقيدة، وراحت أوامره تنغمس في رافد مصلحي شخصي، فلا يجوز للأولاد أو الزوجة إطاعته في الأمور العقائدية والدينية، لأن أوامره لا تحمل حينذاك أية وقاية تقيها من الظلم، والعصيان والتمرد..وقد وصرَّح بذلك القرآن الحكيم في قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}(لقمان 15)..فهنا تنقطع العلاقات العقائدية، والعملية بينهما، أمَّا علاقات الحب، والعطف، والوِدّ، والإحسان، فيجب وصلها مع الأب حتى المنحرف فكرياً، لئلا تنهار الأسرة.

> أداء الأب للنفقة : لا بُدَّ للأب من الإنفاق على العائلة، وتجهيز الملبس والمسكن للزوجة، والأولاد، في مقابل قَيْمومَتِه عليهم..فإن كل هذه الأسُس توطد علاقات أفراد العائلة، وتربطهم الواحد بالآخر أكثر فأكثر، وتجعل منهم جسداً واحداً.

> أداء حقوق الأب : عندما يقرّر الإسلام حقوق الأب باعتباره سيد الأسرة، لا ينسى أن يضع بين يديه قائمة عن الحقوق المفروضة عليه تجاه أفراد العائلة، من الأولاد، والزوجة، على حد سواء، لكي تتوطَّد العلاقات الزوجية، والروابط العائلية، وتبنى على أساس العدالة والمساواة. فالأب إنما هو كموظف وَكَّلت إليه إدارة ( مؤسسة العائلة ) ضمن حقوق، وواجبات معينة، فعليه مسؤولية تشغيل وإصلاح هذه المؤسسة البشرية في إطار تلك الحقوق والواجبات.. يرسم أحد المربين الأوائل للأب واجباته، وحقوق الآخرين، حينما يقول: (وَأمَّا حَقّ ولدك، فتعلَّم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وإنك مسؤول عما ولَّيته، من حُسن الأدب، والدلالة على ربه، والمعونة له علـى طاعتـه فيك، وفي نفسـه، فمثـاب علـى ذلك ومعاقب..فاعمل في أمره عمل المتزيِّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذّر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه، ولا قوَّة إلا بالله )..

وهكذا يقيم الإسلام علاقات الأسرة على أساس وطيد، ويرسم لها قوانين ومناهج تلتقي على خط المساواة والعدالة، لكي تغمر السعادة حياتها، ولكي تسير نحو ينابيع الهناء والسلامة. ولا يمكن أن تنعم الأسرة بهذه المزايا ما لم تكن تعيش في ظلال القرآن الكريم، فالدساتير الأُسَريَّة المادية لا تستطيع أن تعمل على توطيد العلاقات الزوجية، لأنها لا تستطيع أن تجيب على كل متطلبات الأسرة، سواءً منها ما يرتبط بعلاقـات أفـــراد العائلة، أو ما يرتبط بالزواج وحده، والزوجة وحدها..

إن الإسلام لا يترك الأسرة تسير حسب الأهواء، وتنجرف مع تيار العواطف، وإنما يرسم لها خطّاً واضحاً في كل مجال من مجالاتها، خطّاً يحافظ على توازن البناء الأسري، خطاً يوثِّق علاقات الحب، والعطف، والحنان، فيما بين أفراد العائلة.

ويبقى القرآن الكريم للإنسان المسلم وللأسرة المسلمة هدى ورحمة ووعيا للحياة في كل ساحاتها ومنطلقاتها وقضاياها الكبيرة والصغيرة.. حيث تنطلق منه الأسرة وإليه تعود، تتحرك في كل اتجاه وفي كل مرحلة وفي كل موقع لتحرك آياته في كل الدروب التي تعيش فيها..

————–

(1) القرآن والحياة، أنظر الفوائد لابن القيم ص72

(2) القرآن الكريم روح الأمة، الرسالة2 من رسائل الهدى للدكتور الشاهد البوشيخي ص19

(3) أصول التربية الإسلامية وأساليبها ص90

(4) نفس المصدر السابق ص93

(5) التفكك الأسري الأسباب..والحلول المقترحة:كتاب الأمة 83، ص49

(6) نفس المصدر السابق ص 47 و48

ذ.محمد بوهو

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>