المصحف العثماني في الغرب الإسلامي


للمصحف العثماني قصة طريفة في الغرب الإسلامي، ورحلة فريدة مع التاريخ، وقد تنبه المؤرخون إلى مكانة هذا المصحف لدى المغاربة والأندلسيين، فتتبعوا حركته وتنقلاته من دولة لأخرى، إلى أن انقطع خبره، وتحدثوا أيضا عن المصحف العقباني الذي حل محله لدى المغاربة، وهذا له قصة حافلة أيضا قد نعود إليها مستقبلا في نفحة من النفحات القادمة بإذن الله عز وجل.

وأما المصحف العثماني فنستعيد مشاهده من حركته في الغرب الإسلامي، اعتمادا على ما كتبه أبو العباس المقري في كتابه (نفح الطيب) نقلا عن مصادره المتعددة التي يصرح بعناوينها أو يذكر مؤلفيها، وقد تحدث المقري عن هذا المصحف في الأندلس أولا، ثم تتبع حركته في المغرب، مواكبا تداوله من جيل لآخر، ومن دولة لأخرى، في عدة مواضع من كتابه المذكور، لعل أهمها وأكثرها تفصيلا ما تضمنه الجزء الأول من نفحه، فقال عن المصحف العثماني : وهو متداول بين أهل الأندلس، قالوا ثم آل أمره إلى الموحدين، ثم بني مرين، قال الخطيب ابن مرزوق في كتابه “المسند الصحيح الحسن” ما ملخصه : وكان السلطان أبو الحسن لا يسافر إلا ومعه المصحف الكريم العثماني، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم، ومقام كبير، وكيف لا؟ قال ابن بَشْكُوال : أُخْرِجَ هذا المصحف من قرطبة وغُرِّبَ منها وكان بجامعها الأعظم، ليلة السبت حادي عشر شوال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في أيام أبي محمد عبد المؤمن بن علي وبأمره، وهذا أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها عثمان ] إلى الأمصار : مكة والبصرة والكوفة والشام. وما قيل إن فيه دم عثمان هو بعيد، وإن يكن أحدها فلعلّه الشامي، قاله ابن عبد الملك.

قال أبو القاسم التجيبي السبتي : أما الشامي فهو باق بمقصورة جامع بني أمية بدمشق المحروسة، عاينته هناك سنة 657، كما عاينت المكي بقبة اليهودية، وهي في قبةالتراب، قلت : عاينتهما مع الذي بالمدينة سنة 735 وقرأت فيها، قال النخعي : لعله الكوفي أو البصري. وأقول : اختبرت الذي في المدينة والذي نقل من الأندلس فألفيت خطَّهما سواء، وما توهموا أنه خطه بيمينه فليس بصحيح، فلم يخط عثمان واحدا منها، وإنما جمع عليها بعضا من الصحابة كما هو مكتوب على ظهر المدني، ونص ما على ظهره : هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله ، منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وذكر العدد الذي جمعه عثمان ] من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كتب المصحف، انتهى.

واعتنى به عبد المؤمن بن علي، ولم يزل الموحدون يحملونه في أسفارهم متبركين به، إلى أن حمله المعتضد، وهو السعيد علي بن المأمون أبي العلاء إدريس بن المنصور، حين توجه لتلمسان، وقُدِّمَ ابنه إبراهيم، ثم قتل، ووقع النهب في الخزائن، واستولت العرب وغيرهم على معظم العسكر،ونهب المصحفولم يُعْلَم مستقره، وقيل : إنه في خزانة ملوك تلمسان، قلت : لم يزل هذا المصحف في الخزانة إلى أن افتتحها إمامنا أبو الحسن أواخر شهر رمضان سنة 737، فظفر به وحصل عنده إلى أن أصيب في وقعة طريف، وحصل في بلاد البرتقال، وأعمل الحيلة في استخلاصه، ووصل إلى فاس سنة 745 على يد أحد تجار أزمور، واستمر بقاؤه في الخزانة) انتهى باختصار.

واعتنى به ملوك الموحدين غاية الاعتناء، كما ذكره ابن رُشَيْد في رحلته، ولا بأس أن أذكر كلامه بجملته، والرسالة في شأن المصحف لما فيها من الفائدة، ونص محل الحاجة منه : …وعلى ذكر هذا المصحف الكريم فلنذكر كيفية الأمر في وصوله إلى الخليفة أمير المؤمنين عبد المؤمن، وما أبدى في ذلك من الأمور الغريبة التي لم يُسمع بمثلها في سالف الدهر، حسبما أطرفنا به الوزير الأجل أبو زكريا يحيى بن أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي حفظه الله تعالى وشكره، مما استفاده وأفاده لنا مما لم نسمع به قبل، عن كتاب جده الوزير أبي بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل المذكور، مما تضمنه من وصف قصة المصحف، فقال : وصل إليهم أدام الله سبحانه تأييدهم قَمَرَ الأندلس النيران، وأميراها المتخيران، السيدان الأجلان  أبو سعيد وأبو يعقوب أيدهما الله، وفي صحبتهما مصحف عثمان بن عفان ]، وهو الإمام الذي لم يختلف فيه مختلف، وما زال ينقله خلف عن سلف، قد حفظ شخصه على كثرة المتناولين، وذخره الله لخليفته المخصوص بمن سخر لخدمته من المتداولين، وله غرائب الأنباء ومتقدم الإشعار بما آل إليه أمره من الإيماء ما ملئت به الطروس، وتحفظه من أهل الأندلس الرائس والمرؤوس، فتُلُقِّيَ عند وصوله بالإجلال والإعظام، وبودر إليه بما يجب من التبجيل والإكرام، وعُكف عليه أطول العكوف والتُزم أشد الالتزام، وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبر لألي الألباب، وبلاغ في الإغراب والإعجاب، وذلك أن سيدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين أدام الله له التمكين، كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطره الكريم، وحرَّكته إليه دواعي خُلقه العظيم، وتراءى مع نفسه المطمئنة المرضية، وسجاياه الحسنة الرضية، في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم، ووطنه الموصل بحرمته للتقديم، فتوقع أن يتأذى أهل ذلك القطر بفراقه، ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه، فتوقف عن ذلك لما جُبِل عليه من رحمته وإشفاقه، فأوصله الله إليه تحفة سنية، وهدية هنية، وتحية من عنده مباركة زكية، دون أن يكدرها من البشر اكتساب، أو يتقدمها استدعاء أو استجلاب، بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقه، والتبرع به على القائم إلى الله تعالى بحقه، ما اطلع بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه، وعضدت مخايل بَرْقه سواكبوَدْقه، وكان ذلك من كرامات سيدنا ومولانا الخليفة معدودا، وإلى أمره الذي هو أمر الله مردودا، وجمع عند ذلك بحضرة مراكش ـ حرسها الله تعالى ـ سائر الأبناء الكرام، والسادة الأعلام، بُدُورَ الآفاق، وكواكب الإشراق، وأهل الاستئهال للمقامات الرفيعة وذوو الاستحقاق…

د.علي لغزيوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>