في فلسفة التأدب مع القرآن وتعظيمه


{لا يمسه إلا المطهرون}

إن العلماء نظروا في قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} فاختلفوا في المراد بهذا الذي لا يمسه إلا المطهرون، أهو القرآن الذي بين أيدي الناس الآن، أم هو القرآن الذي هو المعاني التي هي في اللوح المحفوظ، واختلفوا في المس، أهو بهذه الطريقة أو بتلك، فوقع تباين واختلاف، ولكنه اختلاف تنوع  وليس اختلاف تعارض.

مس القرآن باعتباره المعاني التي هي في اللوح المحفوظ

كان مالك رحمه الله يرى أن هذه الآية تصدق على القرآن في حالة كونه محفوظا لدى السفرة الكرام البررة، مما أثبتته سورة “عبس”، وكان يقول: “إن هذا هو أحسن ما سمعه في هذا الباب. “لا يمسه إلا المطهرون”؛ أي أن القرآن محفوظ ومكنون ولا يطلع عليه إلا السفرة الكرام البررة، وبذلك يكون الحديث عن مرحلة من مراحل اكتنان القرآن وحفظه وجعله محميا بحيث لا تصل إليه الشياطين ولايصل إليه أحد غير الملائكة الموكل إليهم بهذا العمل. وهذا لا يتناول قضية مس المصحف، لأن مسألة مس المصحف مسألة أخرى، لها شواهد أخرى. هؤلاء السفرة الكرام البررة يصونون القرآن الكريم، الذي هومن وحي الله تعالى الذي لا يُسْتَوْدَعُ إنسانا؛ ولا يُؤْتَمَنُ عليه إنسان أو أي كائن، لأن ذلك معناه أنه يصير المتصرف فيه. وفي ما سبق من الكتب لم يكن هذا النوع من الحماية موجودا، فكانت هذه الكتب مودعة لدى الأشخاص؛ “والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله”؛ كانوا هم المستحفظين عليه، أما في هذه الآية التي بين أيدينا، فيرى مالك أنها تنص خاصة على أن الملائكة هم الذين يحرسون القرآن، وهم الذين يحافظون عليه، فلا يصل إليه نفث الجن ولا تدليس ولا أي نقص آخر.

مس القرآن باعتبار كونه موحى به

وقيل إن هذا القرآن لا يمسه إلا المطهرون من الذنوب وهم الرسل من الملائكة والرسل من البشر. فالقرآن ينتقل من الرسل من الملائكة الذين يحملون هذا القرآن وهم مطهرون بحكم العصمة، ثم أنزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل على قلب معصوم.. على قلب طاهر.. فالله تعالى أوحى هذا القرآن، وأمر جبريل عليه السلام، وهو مطهر، بأن يأتي به إلى قلب مطهر، فالأول معصوم بسبب الملائكية والثاني قلب طاهر معصوم بسبب الرسالية. وبهذا يعود معنى الآية أيضا إلى هذه المعاني القرآنية.. يعود إلى تقريبٍ مثل ما سبق؛ أي القرآن في حالة كونه موحىً به.

مس القرآن باعتباره المصحف الذي بين أيدي الناس

بعد هذا يأتي الحديث عن القرآن الذي بأيدي الناس؛ أي هذه المصاحف، وهذا هو المعنى الثاني، وكان المعنى الأول هو القرآن باعتباره معاني موحىً بها، بكونه بأيدي سفرة، أو بكونه متنقلا من الملائكة الرسل إلى البشر الرسل. لكن إذا قلنا إن المراد بهذا الكتاب هو هذا المصحف، فإن قول الله تعالى: “لا يمسه إلا المطهرون”، يأخذا معنى آخر ينتقل بنا إلى درجة أخرى.

مس القلوب للمصحف

قال العلماء: إن المراد هنا بقول الله تعالى: “لا يمسه إلا المطهرون”، هو أن من ليس طاهرا، لا يجوز له مس هذا المصحف، وهذا المعنى سأعود إليه. أما الآن فسأتناول المس بمعنى آخر وهو أن هذا القرآن لا يستطيع أن ينال بركته وفضله ونعمته إلا المُطَهَّرُ؛ فالقرآن ينزل على الناس جميعهم، لكن بعض الناس لا يصيب من هذا القرآن قليلا ولا كثيرا، وبعضهم ينال من هذا القرآن الكثير.. الكثير، وهذا أمر مرئي الآن، ونراه في حياة الناس؛ القرآن واحد ينزل وآياته تتلى، لكنك ترى من يستمع آيات القرآن في وسيلة من وسائل الإعلام، فيُعجَبُ به ويُشَدُّ إليه ويُسَرُّ به سرورا كبيرا، ويفتح الله في ذلك السماع من المعاني الشيء الكثير، فهذا قلب طاهر.. هذا من القلوب المطهرة التي تمس القرآن، فهو يتلذذ به ويتجاوب معه ويعمل به وينفذه فيالحياة. وإلى جانب هذا، تجد آخر يستمع إلى نفس القارئ وينظر إلى نفس الشاشة من نفس المجلس، فلا يرفع بذلك رأسا، وربما يتحرق وينتظر أن يغير القناة، وقد يُسَرَّ أن يتابع شيئا تافها لا قيمة له. فالذي جعل هذا يستفيد وذاك لا يستفيد هو هذه القلوب التي، كما ورد، لو صفت منا لمَا شبعت من القرآن الكريم. فإن وَجَدْتَ الإنسانَ يَمَلُّ من القرآن، فلأن قلبه لم يَطْهُرْ بعدُ، ولأن هذا الصفاء لم يصبه بعدُ. فالإنسان يقرأ القرآن ويصيب من القرآن، ويصاحب القرآن بقدر طهارة قلبه. لو أن الناس طهرت قلوبهم ما شبعوا من القرآن الكريم، ولكان أحب الأشياء إليهم. فالقلب الطاهر والنفوس المطهرة هي الاستعداد الحقيقي للاستفادة من القرآن، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا”، فإن هذا يصدق على حالة سماع القرآن. ولقد ورد أن الإنسان يطلب قلبه، بمعنى أنه يكشف عن قلبه، كما تذهب إلى الطبيب لتطلب حالتك الصحية، فيُدخلك جهازا أو يُجري عليك بعض الفحوصات وبعض التحليلات ليقول لك في نهاية المطاف: إن قلبك سليم أو غير سليم من الناحية العضوية.. من الناحية الفيزيولوجية. حينما تريد أن تعرف قلبك ومقدار شفافية هذا القلب وخفته وصفائه فاطلبه في حالة قراءة القرآن ، فإن وجدته قلبا ضجرا يمل ويتكدر حينما يقرأ القرآن فلأنه قلب أغلف أو لأنه قلب منكوس، أولأنه قلب مطموس، والعياذ بالله. وهذا أمر مهم جدا في تلقي القرآن: لا بد من الإعداد، لا بد أن يرضى الإنسان بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، ولا يكون له اعتراض في هذا الباب، ثم بعد ذلك يُقرأ عليه القرآن كله فيُسَر به. لكن الذي لا يرضى بالإسلام دينا ومنهجا، لا يرضى بمحمد مبلغا للشرع  كاملا، لا يرضى بالله ربا ويرى أن هناك أربابا آخرين يمكنهم أن يُشرِّعوا ويبينوا، فهذا حينما نعطيه القرآن، فإنه يحيله إلى مجموعة من الأسئلة والاعتراضات، لماذا يفعل القرآن..؟ لماذا أعطى القرآن النصف للمرأة وأعطى للرجل..؟ لماذا فرض الشرع..؟ ليس لأنه يريد أن يسأل، أو لأنه -كما يتصور- صاحب عقل، كلا بل هو صاحب اعتراض.. صاحب خصومة.. صاحب شك.. لم يستقر عنده في ذهنه أن الله يشرع له ما يشاء سبحانه. ويقول لك : أريد أن تقنعني..، نعم سوف أقنعك في ما يمكنك أن تصل فيه إلى الاقتناع، ولكن في أشياء كثيرة يكون التشريع بعيدا جدا، أكبر منا بكثير. فقد يبدو لك أن ما أنت فيه هو الوجاهة، هو المعقول. وفي هذا الإطار سألني شخص فقال: قرأت في جريدة أن رجلا كان يعيش في أوروبا وطلق زوجته، ووجدت المرأة بعد الطلاق أنها حامل، ثم وضعت حملها، وأنكر هو الحمل، فاحتكما إلى الطب.. إلى التحليل الوراثي، فانتهى الطب إلى أن هذا الطفل ليس ولده. لكن لما رفعت المرأة الأمر إلى القضاء في بلد إسلامي، قضت المحكمة بانتساب الولد إليه، لأن القضاء لم يأخذ بالتحليل الوراثي. فمن نتبع؟ إذ يبدو وجيها أن يقول الجميع إن البصمات الوراثية هي المعتمدة، هذا علم، ونحن مع العلم، ولسنا ضده. أجبت هذا الشخص على سؤاله، ولكن هذه حالة جزئية، ندعها لنوسع الدائرة، ولنقل إن الأمر أصبح عند عامة الناس يفعلون ذلك، أي كلما ولد لإنسان طفل، أو كلما شاء أحد أن يسأل ، ساق زوجته إلى التحليل الوراثي ليختبر. وقد يكون الرجل متزوجا وعمره سبعون عاما، له أولاد وأحفاد، فيختارُ أن يسأل عن البصمات، ويكتشف في نهاية المطاف أن الأمر لم يكن كما يظن، وأن أبناءه لم يكونوا أبناءه وأن أحفاده لم يكونوا أحفاده، وأن.. وأن.. أشياءً كثيرة، هذه ستكون مفاجأة، وقد تقع ولا شك. هذه واحدة، ومن جهة ثانية، حينما يفْجُرُ رجل بامرأة ويفسق معها وتَحْمِلُ منه، ستأتي المرأة لتقول في نهاية المطاف، وهي متأكدة  من أن هذا الجنين من هذا الرجل، وهي تتهمه بأنه ولده، ثم يُرفع الأمر إلى الطبيب، ثم يحلل الطبيب فيجد فعلا أن هذا الجنين من ذاك الرجل، ولكن في أية علاقة؟ في أي إطار؟ هل كانت زوجته؟ هل كانت في فراش شرعي؟ لا.. كانت في سفاح. ولكن العلم قال إنه ولده، نعم هو متولد منه زنىً وسفاحاً، في شريعتنا الإسلامية، لو جاء الزاني بنفسه يقول إنه ولده، زنى بأمه، قال له الشرع: “الولد للفراش وللعاهر الحجر”، الشرع لا يقر هذا النوع من التناسل، هو تناسل بيولوجي، نعم، ولكن ليس ولادة شرعية، والفرق بين الولادة البيولوجية والولادة الشرعية فرق واسع. إن اعتماد هذه الوسيلة، إذا ظهر لكم من جهة أنها تنفع لمثل الحالة التي ذُُكِرَتْ في السؤال، فإنها تضر في حالات كثيرة جدا. عندنا في الشريعة الإسلامية: الزَّوْجُ إذا وُلِد له في عقدة وكانت الزوجة في عصمته، فإن الولد ولده، وإذا وقع له الشك والارتياب وتأكد من أن زوجته ربما تخونه، فإن الحل الشرعي هو اللعان، واللعان يُلاعنها وتلاعنه ويفترقان، لا نعرف من منهما المحق.. ومن الكاذب، وينفصل الزوج عن الزوجة، والأبناء لا يعرفون إن كان قول أبيهم صحيحا أم لا. أما عندما تصبح عملية التحليل الوراثي قاعدة وقانونا في المجتمع فإنه يصير تشهيرا وفضيحة وإشاعة في مثل الحالة الأولى وما يشبهها، وفي حالات أخرى فإنها تثبت كل أبناء الزنا بأنهم شرعيون. وبذلك تذهب الأسرة وتندثر ويصبح مفهومها مبنيا على أساس التولُّد، وأن هذا التولد هو الذي يجعل الإنسان مطمئنا إلى أن هذا ولده فيعطي أساس ذلك التضحيات التي يعطيها. ويتبين من هذا المثل أن ليس كل ما يبدو لنا أنه صواب أو حق هو حق، لذلك فإننا مطالبون بأن نذعن لما ثبت أنه أحكام الشريعة الإسلامية.

علينا إذن أن ننطلق من الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، حينئذ تكون القراءة قراءة نافعة. والذين ينطلقون من هذا الأساس هم الذين يمسون القرآن، {لا يمسه إلا المطهرون}. وتتبين لنا من هذا الصورة الحقيقية لهؤلاء الذين ينتقدون القرآن؛ فلو طهرت أنفسهم، لو رُبوا تربية إيمانية، لو رُبوا تربية مستقيمة، لو ربوا تربية واضحة، لو كان لهم ثقة في التشريع الإسلامي، لو كان لهم ثقة في علم الله، لو كان لهم ثقة في بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتجاوزنا كثيرا من الأشياء وكثيرا من العقبات. أما أن نَعْرِضَ القرآن ليكون موضوع  الأخذ والرد والنقاش الذي لا ينتهي، فهذا لا يخرج بنا إلى نتيجة حقيقية لأن القرآن ليس مائدة للحوار والنقاش الدائم، بل هو شيء معروض للتطبيق والتنفيذ. ومتى نطبق القرآن إذا كنا قد استغرقنا كل وقتنا في الحوار والنقاش، في الإقناع والاقتناع، والاقتناع الذي لا يتم؟

هذا مَلْحَظٌ ذكره بعض العلماء في معرض قوله تعالى “لا يمسه إلا المطهرون”، وقالوا إن المس هنا عبارة عن الاستفادة منه، وعن الأخذ من نوره، وعن الأخذ من بركته. وهذا يحتاج إلى أن تكون النفوس طاهرة “فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون”، “وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون”؛ هناك إذن من يؤمن وهناك من يزداد نكوصا وإعراضا وتراجعا. ويبقى علينا إعداد النفوس لتتقبل القرآن، والقاعدة الأساس في ذلك، وهي قاعدة دعوية وقاعدة تربوية، هي:  قبل أن تعلم الناس القرآن، علمهم العقيدة، علمهم مفهوم الانتماء إلى هذا الدين، علمهم ما هي حقوق هذا الدين عليهم، علمهم ما معنى أن يقولوا: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وحينما يخضعون، وحينما يتواضعون لله، وحينما يُقْبِلون على الله، حين ذك تُقرؤهم القرآن فيستفيدون، وتُعلمهم فيتعلمون؛ أما حينما لا يكون الأمر كذلك، فإنها تكون مضيعة للجهد ومضيعة للعمل. هذا أسلوب يجب أن يعتمده الجميع؛ دعاة وخطباء وموجهون، لأن القرآن هو الذي يوجهك إلى طريقة تعامل النفوس مع هذا القرآن.

شروط مس المصحف وحمله

يبقى السؤال الذي يطرح هو حول مس القرآن، ومس المصحف لمن ليس طاهرا. أي هل يمس القرآن من ليس طاهرا، وهل يستطيع من ليس طاهرا أن يمسه سواء كان هذا الذي ليس طاهرا محدثا حدثا أصغر أي غير متوضئ، أو محدثا حدثا أكبر أي جنبا، أو كان حائضا أو نفساء، وهذه أمور تختلف. وقد أجمع جمهور علماء الأمة على أن هذا المصحف مكرم لا يمسه إلا طاهر، لأنه ورد في ذلك نصوص ومنها رسالة رسول الله  إلى شرحبيل بن عبد كلال أن لا يمس المصحف إلا طاهر وفي حديث يرويه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى “وألا تمس المصحف- القرآن إلا وأنت طاهر”، وفي قصة إسلام عمر بن الخطاب حين دخل على أخته وهي تقرأ بعض الصحف، وأراد أن يقرأ الصحيفة قالت: “إنك امرؤ نجس، وإنه طاهر”، فلم تسمح له بأن يقرأ من الصحيفة إلا بعد أن اغتسل، على كل حال؛ ولو أن اغتساله وهو على الشرك ليس نافعا له، لأن الاغتسال يكون أصلا لمن آمن ولكنها ألزمته على طريقة المسلمين في التعامل مع الكتاب. هذه حجج ساقها العلماء في بيان أن هذا المصحف لا يمسه أحد إلا إذا كان على طهارة. هذا القرآن لا يمسه الإنسان سواء كان محدثا حدثا كبيرا أو صغيرا، وسواء كان هذا المس مباشرا أو كان بمعلاق أو محمل، كأن يكون المصحف على وسادة فيحمل الوسادة، أو شيء من هذا القبيل، لا يجوز له ذلك وهو غير طاهر.

ولا يحمله ولو كان معه شيء آخر غير مقصود بالحمل؛ كأن يحمل المصحف ويحمل معه الخشبة التي يوضع عليها المصحف، والنظارات، ويكون المقصود بالحمل في الأصل هو المصحف، بينما ما حمله معه ليس مقصودا بالحمل، و إنما هو إضافات. وفي مقابل ذلك قال الفقهاء: يجوز لغير الطاهر أن يحمل المصحف إن كان غيره هو المقصود بالحمل، كأن يحملمثلا صندوقا فيه كتب معها مصحف، فالمصحف ليس محمولا لنفسه،و ليس مقصودا بالحمل إنما هو محمول ضمن أشياء أخرى.

أما في ما يخص ما يكتب لا على أساس أن يكون مصحفا، وهذه مسألة مهمة جدا- وإنما للتبرك، كأن يَكْتُب جزءا من آية أو آية في ورقة أو في صفحة أو شيء يعلق، فهي تُكتب على أساس التبرك، فقال الفقهاء: يمكن أن تحمل وتمس، لأن الحديث جاء على الكتاب المكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون أما هذه فهي آية واحدة، هي جزء وليست مصحفا، وإنما اقتبست ووضعت على الورق أو على اللوح. ويسري هذا الحكم على ما نجده في الخواتيم، أن يكتب الإنسان على خاتمه مثلا “والله خير حفظا”، فيجعلها جزءا مما يختم به وثائقه، فهذه أيضا ليست مصحفا وإنما هي جزء، فيجوز أن تحمل ولو لم يكن حاملها طاهرا. وهذا يسري كذلك على النقود التي توضع عليها آيات أو أجزاء من آيات، ففي بعض النقود المغربية نجد الآية: “ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون”، هذه النقود قد تبقى في جيب الإنسان. في جميع هذه الحالات قال الفقهاء بجواز حملها ولو لم يكن حاملها طاهرا.

مس المصحف في مجال التعليم

وقال العلماء: إن الذي يتعامل مع القرآن تعاملا عاديا، لا يمسه، بل قالوا لا يكتبه، ولا يكتب القليل ولا الكثير منه، إلا أن يكون متوضئا. واستثنوا حالة يكون الإنسان مشتغلا بالتعلم أو التعليم؛ فيجوز للمعلم والمتعلم حمل لوحه وحمل المصحف وحمل ما يتصل بالمصحف من أوراق فيها قرآن أو غيرها، يحمل ذلك كله سواء كان متوضئا أو كان جنبا، يحمله لأن له علاقة أخرى مع المصحف وهي علاقة التعليم. وقال مالك رحمه الله ما معناه: لا بأس في حمل المعلم للمصحف ولو لم يكن على طهارة، إن كان ذلك خفيفا، أي أن الأصل أن يكون المعلم متوضئا ولكن إذا كان ذلك يأتي مرة بعد مرة، فلا بأس. ومعلم القرآن من الأحسن ومن الأدب مع القرآن أن يكون متوضئا.

والكتب التي تضم القرآن وغيره، وهي كتب التفسير، لا تعتبر مندرجة في هذا الحكم، فإذا وجد كتاب تفسير، قد يكون فيه قرآن على هامشه أو معه، فإنه يحمله لأن ذلك ليس مصحفا، وإنما هو تفسير. وهذا الحكم أولى وأحرى في ترجمات معاني القرآن إلى الفرنسية وغيرها من اللغات، فهي ترجمات وليست قرآنا، وليس لها حكم القرآن، وما هي إلا كلام البشر، ولذلك لا يمكن أن يقال فيها بأنها لا تمس بغير الطاهر. ويدخل في هذا الباب كتب النحو وكتب الأدب وغيرها من الكتب التي تأتي فيها شواهد من القرآن.

مس المصحف وقراءة القرآن

ويتصل بذلك (أي مما لا يجوز إلا لطاهر) قراءة القرآن، فقد تحدث فيها الفقه أيضا، فيمنع قراءة القرآن على الرجل الجنب والمرأة الجنب. وأجاز العلماء ما يمكن أن يستعمل في أبواب الاستفتاح أو التعوذ أو الاستدلال وما أشبه ذلك،  فمثلا إذا أراد أن يستشهد، يجادل صاحبه فيقول: “أحل الله البيع وحرم الربا” وهو جنب، يجوز له ذلك لأنه يسوقه مساق الاستشهاد. أو في باب الابتداء في الشيء، كأن يقول: “رب أنزلني منزلا مباركا”، أو أن يقول حين يركب سيارته: “الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين”، وفي الاستغفار، وقد يكون جنبا فيموت له قريب، ويقول “إنا لله وإنا إليه راجعون”، فمثل هذه الآيات التي يستعملها الناس لحالات خاصة  تتلى في هذه الحدود. وقال الحنابلة يجوز القراءة ما لم يصل إلى آية، أي أقل من آية، لأن التحدي إنما وقع بالآية، فما لم يصل إلى آية تُقرأ ولو تكرر. ويقول المالكية: إن الذي يقرأ ما يقرأ للرقية كأن يدعو، فيقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص، أو الآيات والسور التي تستعمل للرقية  فيجوز له أن يرقي بها نفسه، أو غيره، ويدخل في ذلك التعوذ والبسملة أو ما أشبه ذلك، فيجوز للإنسان أن يقرأ في هذه الحالات ولو لم يكن علىطهارة. وقال المالكية: إن المرأة الحائض يجوز لها أن تكرر القرآن أو تقرأه، لا أن تمسه، بل تكرره عن ظهر قلب، فإذا انقطع الحيض عنها يحرم عليها أن تقرأ القرآن حتى تغتسل. لماذا؟ قالوا (وهذا أصبح كثير من الفقهاء يقول به): إن الجنب غير الحائض، وإذْ ضيق عليه في ذلك فمن أجل أن يدفع إلى أن يغتسل ويتطهر، ولذلك لا يجوز له أن يقرأ القرآن إلا في الحالات التي ذكرت سابقا، لكن المرأة الحائض ليس لها أن تغتسل لأن الحيض يمسكها. الحيض في الفقه الإسلامي قد يدوم 15 يوما، لأن أقصى أمد للحيض 15 يوما عند بعض الفقهاء، وبعض الفقهاء يقول أكثر من 18 يوما، بعضهم يرى أنه أكثر من 15 يوما، ولكن البعض يقول 15 يوما بالضبط لقول النبي صلى الله عليه وسلم :”تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم” والشطر هو النصف، ونصف الشهر هو 15 يوما. إذن فالحيض طويل، وإذا صارت المرأة لا تقرأ القرآن لمدة 15 يوما،فقد يضيع قرآنها وقد.. وقد.. إذن فالمرأة الحائض تقرأ القرآن، لكن عندما ينقطع الحيض عنها تصبح مثل الجنب، فعليها أن تتطهر لتقرأ. (أنظر إلى اجتهاد الفقهاء، يبدو في البداية الأمر غير معقول، ولكن عندما تقرأ العلة تعرف بأنه كان معقولا)، فالذي يطاق إذن هو الاغتسال من الجنابة، ولذلك لا يقرأ الجنب القرآن، إلا أن يسارع إلى ذلك، في الحالات النادرة التي ذكرت من قبل، أو في حالة ما إذا كان الإنسان يخاف أن يتفلت منه القرآن، حينئذ، يقرأه لأنه يعتبر من أصحاب الأعذار.

وأمر الطهارة كله تهيئ للنفس للتعامل مع القرآن، فحينما يتوضأ الإنسان، يستعد استعدادا نفسيا، وحينما يصلى الإنسان ركعتين قبل القراءة، ويستقبل القبلة، فهو يستعد ويتهيأ.

كيف نتأدب مع القرآن؟؟

على العموم هذه أحكام تتعلق بقراءة القرآن، وهي أحكام توشك أن تشترك فيها المذاهب كلها؛ وكلها تريد أن تقول للناس: هذا القرآن لا تتعاملوا معه على أساس أنه كتاب عادي. إن الإنسان مطلوب منه أن يتأدب مع كتاب الله، هذه  من حرمات الله، هذه من شعائر الله، والذي يعظم حرمات الله وشعائر الله فإنها من تقوى القلوب. فأنت لا تنال الأجر فقط لأنك تفتح القرآن، أنت تنال الأجر أيضا لأنك تتأدب حينما تقرأ القرآن. لكن الناس أصبحت تضيع منهم هذه.. وأصبح الناس يتجرؤون على القرآن الكريم. لا بد أن يبقى للقرآن في ضمائر الناس ونفوسهم احترام كبير جدا. لا بد أن نُعَلم الناس هذا، فعلماء المسلمين كانوا يعلمونه.

وقد يقول قائل: هذا شيء مظهري، نعم هو أمر شكلي، لكنه يؤدي في نهاية المطاف إلى العمق. حينما تكون الكتب لديك، ومن بينها مصحف، فمن الأدب أن لا تجعل الكتب الأخرى فوق المصحف، هو لا يتضرر.. هو لا يتألم.. لكن هذه مسألة معنوية، يجب وضع القرآن فوق الكتب الأخرى. في العالم اليوم إذا أخذت عَلَمَ دولة من الدول ورميته على الأرض فجاء أحد ووطئه برجله أو بدراجته أو بسيارته أو غير ذلك، ماذا سيكون رد فعلهم؟ فالعلم لم يقع له شيء، وحتى ما أصابه من وسخ فإننا ننظفه فيعود كما كان. كلا، فالعَلَمُ أصبح رمزا، وعاد من حقهم أن يدافعوا عن رمزهم. والقرآن عند المسلمين رمز، فلا يمكنك أن تضع المصحف عند رجلك أو بجانب جواربك، بل تعيده إلى مكانه الذي يليق بمقامه عند المسلمين. الأصل هو هذه الشعائر.. هو هذه المعاملة. والذي يضع المصحف عند رجليه أو في المقام الذي لا يليق به لديه بلادة في الإحساس وقلة في الإحساس، وهو إنسان غير متحضر، كتاب تقوم عليه الدنيا ، كتاب يصلح للبشر، يجب أن لا يمتهن بهذه الطرق. بل لا بد أن يُعامل هذا الكتاب معاملة خاصة في الظاهر، تمهيدا للتعامل معه وتقديره وترفيعه أيضا في أمور أخرى. وبعض الناس يسيء إلى القرآن بطرق أخرى؛ يطلق القرآن في الصومعة في رمضان، والناس ليسوا في مجال الاستماعإلى القرآن، ناس يفطرون، أحد خرج إلى الخلاء، آخر مع زوجته، وكل له شغل، فأنت في هذه الحالة تضايق الناس بهذا المصحف.. بالقرآن، تُدخله عليهم في بيوتهم، يقول: أريد أن أُسمِعَهم القرآن، كلا يجب ألا تُسمعهم القرآن في ذلك الحين، هم لم يطلبوا ذلك. ولذلك ورد أيضا أن الاستماع، حتى الاستماع للقرآن، إنما يجب على من استأذن، كأن يأتي قارئ فضولي ويبدأ بالتجويد بين الناس، عليك أن تمنعه، حتى يستأذن من حوله إن كانوا مستعدين لسماع القرآن، أما إن كانت قلوبهم شاردة، وليس عندهم الاستعداد لسماع القرآن وهم منشغلون بأمور دنياهم فلا يقرأ عليهم القرآن. وقد يقرأ إنسان القرآن ليطفئ الشجار القائم بين متخاصمين، لا! القرآن ليس أداة إطفاء، ودع للقرآن وقاره. لذلك قال العلماء: يجب الإنصات بعد الاستئذان، أي إذا جاء قارئ واستأذن في القراءة، أو طلب منه الحاضرون أن يقرأ، فيقرأ وينصت الحاضرون، لأنالاستئذان أو الطلب جعلنا نستعد للإنصات.  وقد يكون الناس في وليمة وعندما يقومون للخروج يبدأ قارئ بقراءة سورة يوسف كاملة بغرض استبقائهم، والناس بين نائم وباحث عن حذائه وناظر في ساعته، هذا ليس جوا للقراءة، يجب أن يقرأ الناس القرآن أو يستمعوا إليه منصتين، لا أن تنزله عليهم. فهناك في كل المصاحف باب يسمى باب من قال للقارئ حسبك، حين أوقف الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي كان يقرأ: {فإذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال: حسبك.. حسبك. وفي حالات أخرى في وليمة أو تجمع  يكون القرآن يتلى، ويشتغل الناس بصب الشاي، هذا من سوء الأدب مع القرآن. وهذه الأمور ليس من البعيد وليس من الصعب أن نزيلها من تجمعاتنا، وليس من الضروري أن يكون العالم حاضرا ولكن أي شخص يمكنه أن ينبه الذي يصب الشاي لينتظر حتى يشتغل الناس بشيء غير القرآن مثل الأناشيد، أو غيرها فهذه ليست لها هذه الحرمة. وفي حالات أخرى يأتي بعض القراء فيتنافسون في قراءة القرآن، يقرأ هذا ويسكت هذا، كل يريد أن يقرأ حظه، نحن لسنا بصدد مسابقة، فنحن نقرأ نشاطنا، ونصلي نشاطنا، الرسول  يقول: “ليقم أحدكم نشاطه”؛ أي مادمت مستعدا وما دمت مستوعبا، ولكن في حالات كثيرة أنت لا تكون مستعدا ولا مستوعبا.  على كل حال هي آداب كثيرة ذكرها أهل العلم القدماء، وعليكم الأخذ بها. فهذه المرحلة تتسم بالمواجهة ضد الإسلام، فيجب علينا أن نواجه بالتشبث بآداب الإسلام. كنا نرى المعلم يعلم الصبيان أن اللوح الذي يكتبون عليه القرآن لا يبقى في الشارع، وإنما يوضع له مكان خاص، ويجب على المعلم اليوم إذا كان يعلم الأبناء في المدرسة، أن يعلمهم أن أحسن ما يُحْتَفَظُ عليه هو القرآن الكريم، هو المصحف. يأتي التلاميذ بمصاحفهم الصغيرة فيعلمهم الأستاذ، أكثر مما يعلمهم شيئا آخر، يعلمهم توقير القرآن، وأنهليس كتابا عاديا، وأنه يجب ألا يتعاملوا معه مثل كتاب آخر. فلو أن الأبناء أو التلاميذ، وهم يتشربون بالأخلاق، يرون أن أستاذهم أو معلمهم يأخذ المصحف ويعتني به ويتأدب معه، هذا يكفي، لأن يعرفوا أن هذا الكتاب ليس عاديا. هذه أمور يجب أن نعود إليها ونحن نرى أنها غابت تقريبا من الذوق، ذوق التعامل مع المصحف، مع القرآن، لم تعد حاضرة، أصبح الناس يفعلون كل شيء، وأصبح المصحف أو القرآن هو الشيء الذي لا يُقبل الناس عليه بشغف، كل شيء الآن ينافس القرآن، الأناشيد الدينية، أناشيد الأمداح، هذه أشياء جميلة، ولكنها مجرد كلام للتحميض، ولا يستحق أن تبقى الليل كاملا وأنت تنشد النشيد تلو النشيد، ولكن، اقرأ القرآن، هذه الأمة نشأت على كتاب الله وسنة رسول الله . الكلام الآخر فيه المقبول وفيه المردود، فيه الحسن وفيه القبيح، وهو على كل حال يستعان به، ويجوز منه ما كان من الأدب الذي يطلق الجو ويمكن أن يُستَراح به، ولكن العماد الذي تقوم عليه الأمة التربية والتربية إنما تقوم على كتاب الله، أن نجول مع القرآن يوميا، إذا اجتمع الناس يقرؤون القرآن، فإذا قرؤوا القرآن استنارت قلوبهم وارتبطت. أما أن نجعل القرآن للافتتاح فنقرأ سورة أو نصف السورة لنفتتح بها، وبعد ذلك نتكلم في كل شيء فقط بكلام البشر، كأننا استحيينا من القرآن فقط، فلا.. القرآن هو الذي يجب أن تدور عليه حياتنا، قراءة وفهما وتفسيرا واجتهادا ونظرا وتطبيقا وتنزيلا، حياتنا هي القرآن.

لماذا يحمي الله هذا القرآن، لماذا يجعله في كتاب مكنون، لماذا يعطي كل هذه الآداب؟؟ لماذا ينهى الرسول   أن يمس القرآن غير الطاهر؟ حتى لا تنزل مكانة القرآن، فالقرآن له مكانة ومكانة كبرى، هي في هذا التعامل معه، ومكانته في أن يهتم به  ومكانته في أن يقرأ وتتلى حروفه، إن كل حرف بعشر حسنات؛ إذا كان الإنسان على هذه الصلة، فهو المطلوب. هناك أمر بالغ الأهمية: ليس هناك من يمكنه من الخلق أن يشهد لك بالصلاح والسداد ولا أن يبشرك بالجنة، إنما الشهادة الكبرى هي مدى  العلاقة بالقرآن.. الشهادة الحقيقية هي أن تكون مع القرآن، صباح مساء، تتلوه وتنظر فيه وتستنير به، وتتأدب معه وتتعلم أحكامه، وإذا أردت أن تعلم فانظر كم تقرأ في كتب التفسير، كم تفهم من هذا المعنى القرآني، كم تتطور في معرفتك بالقرآن، كم تتألق في اتصالك بالقرآن ، كم تحب أن تسمع القرآن، كم تحب أن ترى الناس يقرؤون القرآن، كم تحب أن ترى هذه الأمة متعلقة بالقرآن؟ إذا كان هذا فهو الشهادة والضمان لك أنك على هدى وعلى خير.

والأمة المغربية، والحمد لله، كان فيها قدر كبير من تعظيم القرآن الكريم، والناس الذين كانوا أميين، كانوا يعظمون القرآن، وكان عندهم بمنزلة كبيرة، وقد أقسم جيش البخاري على البخاري لأن الناس لم يكونوا يجرؤون على أن يقسمواعلى المصحف. أما اليوم يلتقي الناس في ميدان السياسة مثلا، فيخافون من الغش والخداع بينهم، فيأتون بالمصحف فيحلفون عليه، فيصبح القرآن وسيلة للدنيا التي مثلها رسول الله  بالجيفة، يُستعمل القرآن بقيمته وعظمته وحجمه من أجل نيل عضوية أو رئاسة، هذا نوع من الهبوط، ثم بعد ذلك.. وبعد الحلف، تأتي الخيانة، وعندما يسأل عن عهده وحلفه، يتحجج بأن قد بدا له رأي آخر، فيبين هذا على نزول مخيف في مستوى الإيمان، وهو كارثة من الكوارث.

وفي بعض الشعوب الإسلامية، قد يكون الرجل جالسا فيأتي آخر وراءه، ويبدأ في قراءة القرآن، فإذا سمعه استدار إليه، ولا يعطيه ظهره، فيقول: لا يمكن أن أولي القرآن ظهري، هذه آداب تتعلمها الأمة، وتتفاعل مع القرآن وتربى عليه، وهذه الآداب هي التي تجعلنا إن شاء الله على علاقة جيدة مع كتاب الله.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>