القرآن وهداية التائه الحيران


إن المرء يحلو له في كثير من أحيانه، أن يمج الكلام الذي يطرق سمعه مرات عدة، ويطلب باستمرار الجديد المستحدث من الكلام، ولكن هذا الوضع إن خفت حدته مع كلام أناس عرفوا بحسن سبك الكلام، وببعد النظر فيه، وبجمال التصوير داخله؛ فإنه يختفي تماما مع كلام عجز عن الإتيان بمثله أو ببعض مثله من أوتوا الفصاحة وفصل الخطاب، وانحنى أمامه كل من أصغى إليه ولو كان من أكفر الناس به، وأنكر البشرية له؛ إنه كلام يهجم على القلب، فيجعله رهيفا، وجلا، مهتديا، إن كان من أهل الهداية؛ وفارا ذليلا مخزيا إن كان من ذوي الغواية، إنه كلام، كم من طاعن عليه باءت محاولته بالفشل، وكم من ناقم عليه بارت نقمته وصارت ضربا من الخبل(1) ؛ إنه كلام قال عنه أحد الأئمة الجاحدين به، بعد أن انتدبه دهاة البلاغة والفصاحة ليناظر من أنزل عليه، قال : “إني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط،والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة”(2).

فأي كلام هذا الذي لم يخلق على كثرة الرد(3)، ولم يبل مع مرور  الدهر، ولا تزال عجائبه تبهر العربي الذي رضع العربية حتى بلغت نخاعه، وتسلب حجر الأعجمي الذي لم يزر الحرف العربي لبه ؟

إنه كلام رب الأرض والسماء، الذي نعته بأسنى وأسمى الأسماء، فهو “النور”(4)، وهو “الحق”(5)، وهو “أحسن الحديث”(6)، وهو “مبارك”(7).

وكتاب تلك بعض سماته ونعوته، ألا يجدر بالتائه الحيران، وبالسائر إلى سبيل الرحمن، الباحث عن النهج العاري من الهذيان، أن يتعرف على منارات الهدى فيه، من خلال بعض الأوصاف الواصفة، التي نعت بها هذا الكلام، الذي أثبت التاريخ فوز من به اهتدى، وصولة من بأسلوبه اقتدى؟ بلى وألف بلى ؛ فهيا معا نضع الأيدي المتواضعة، المصحوبة بالقلوب الخاشعة، والمستعينة بالأبصار الذارفة، والبصائر المتفتحة، على بعض من تلك الأوصاف، لنرى الهداية كيف تنبعث، والشفاء كيف يستشف، والرحمة كيف تنزل.

من أوصاف القرآن الكريم

لقد وصف الرحيم الرحمن، الكتاب الذي سماه القرآن، بأوصاف تهدي التائه اللهفان، وتثبت قدم الناسك العطشان. ومن تلك الأوصاف، وصفه  له بأنه :

1) “هــــــدى” :

لقد وُصف القرآن بهذا الوصف في أكثر من آية من آيات الكتاب المنزل ؛ ومن ذلك قوله تعالى : “ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين”(8). ومعنى “هدى” أي أنه منارة تنير الطريق لمن كان له بصر بصير ؛ ومصباح يضيء لمن صفا قلبه، وتلمس سبيل النجاة ؛ وراية إرشاد، يفرق بواسطتها بين السبيل الذي يجعل القلب مطمئنا، والجوارح خاضعة، والنفس مزكاة، والعبد منقادا، والتفكير سويا، والعمل صوابا، والقصد حسنا،  ؛ وبين السبيل الذي تملؤه الظلمة، وتستحوذ عليه الوحشة، ويخيم عليه التأفف والتأوه، ويسكنه اليأس والقنوط، ويعشش فيه الكسل والخمول، وتتنافس فيه المردة وأهلالشرور، وتتقاذف فيه الفتن وما يوغر الصدور،  قال في “مختار الصحاح” : “الهدى : الرشاد والدلالة، يذكر ويؤنث. يقال : (هديته) الطريق والبيت (هداية) عرفته ” (9).

وقد حكم الذي يتحكم في رقاب العباد، ويتصرف في الكون ورفع سماءه بلا عماد، بأن المهتدي بهذا “الهدى” لن يتيه في دار التيه، ولن يحرم من النعيم في دار النعيم؛ وإنما هو في دار الدنيا آمن من “الضلالة”، وفي دار الآخرة، سالم من “الشقاوة”. وأما المعرض عن هذا “الهدى”، فسوف لن يهدأ باله، ولن تطمئن نفسه، ولن يبصر مسلك النجاة، ولن يسعد بعد الممات؛ ولو ملك ما يظن أنه ضامن للسعادة، ومحقق للأمل والراحة؛ وإنما هو في الدار الدنية، يعيش “معيشة ضنكا”، وفي الدار الباقية، يحشر أعمى، قال رب العباد : “فمن اتبع هداي، فلا يضل ولا يشقى؛ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تنسى”(10).

و”الهداية” نوعان : هداية يقصد بها الإرشاد والتوضيح والبيان، وهداية يراد بها التوفيق والتمكين والتثبيت على الإيمان ؛ أما النوع الأول، فمن أهم وظائف القرآن العظيم، ومن أبرز مهام النبي الكريم، محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ؛ يقول منزل الكتاب، عن أعظم كتاب : “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”(11). ويقول عمن أنزل عليه ذلك الكتاب : “وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم”(12).

أما النوع الثاني من أنواع “الهداية”، وهي هداية التمكين والتثبيت على الإيمان، فهي من خصائص الذي يملك القلوب ويقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى ؛ فقد قال عز أمره، عن نبيه وعبده محمد بن عبد الله  : “إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء”(13). فأثبت له الهداية مرة، ونفاها عنه أخرى؛ وما ذلك، إلا لأن المعنى مختلف، واللفظ ليس من نوع المترادف.

وبناء على التقسيم السابق، نجد الكتاب العزيز، لا يكون هداية إلا لمن عرف بصدق طويته، وصفاء قلبه، وطهر نيته ؛ أما المصر على الغواية، المعرض عن الهداية، فهيهات أن يُهدى ويُرشد، أو أن يوفق ويسدد ؛ فقد بين رب العباد، أن ما في الكتاب من الهداية والسداد، إنما هو للموصوفين “بالتقوى”، المتحرين للحق بكل سبب هو أشد وأقوى، فقال سبحانه : “هدى للمتقين”، وقال عن بعض آي الكتاب العزيز، وكيف يكون موقف المتلقين لها حين تنزل : “وإذا ما أنزلت سورة، فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون”(14). والسبب في ذلك، هو أن “من يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه” ـ كما ثبت في الحديث الصحيح عن البشير النذير، (15).

2) “شفـــــــاء” :

لقد قال في الكتاب العزيز، من أنزله ولم يجعل له عوجا : {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}(16). ومعنى شفاء، أنه دواء ناجع، وعلاج ناجح، لكل الأدواء التي ملأت الدنيا وفتكت بالعباد، سواء على مستوى الأفكار والتصورات، أو على مستوى الأفعال والتصرفات؛ ذلك أن الأمراض المعنوية جميعها، ترجع إلى مرضين رئيسين هما : مرض الشبهة، ومرض الشهوة؛ فالأول يتعلق وتنبثق عنه كل الأمراض التي تبنى على التأويل والتحريف، والحيل والتضليل، والمكر والخداع، والمراوغة والمناورة، والكيد والتعلل؛ إذ ما من متخل عن واجب، أو تارك لصاحب، أو غارق في لعب؛ إلا وتجده قد ابتلي بواحدة أو بأكثر من تلك الأمراض المذكورة، أو من غيرها مما هو على منوالها؛ آفته ـ مع ذلك وفي النهاية ـ شبهة ذهنية عرضت له فلجأ إلى واحد من الأوجه المذكورة، ليبرر أو يمرر ما علق بذهنه واشتبه عليه أمره.

أما الثاني وهو مرض الشهوة، فيتعلق وتنبثق عنه كل العلل التي ترتبط بالجانب الغريزي في الإنسان، من شره وفسوق، ومن بطش وسوء خلق، ومن اعتداء على الحرمات، وانتهاك للأعراض ووقوع في الشبهات.

وقد أشار الذي برأ البشر، وعرف ويعرف ما أسر وما نشر، إلى المرضين الرئيسين في آيتين اثنتين؛ حيث قال عن المرض الأول وهو مرض الشبهة، أثناء حديثه عن المنافقين وما تنطوي عليه قلوبهم، قال : {في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا}(17). وقال عن المرض الثاني، لحظة حديثه عن العنصر الذي استغل من طرف الراغبين في إفساد البلاد والعباد، الساعين إلى زعزعة القيم وكل انقياد؛ قال مخاطبا العنصر النسوي من بني الإنسان : “{ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض}(18).

يقول ابن تيمية : “والقرآن شفاء لما في الصدور، ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات؛ ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب، فيرغب القلب فيما ينفعه، ويرغبه عما يضره؛ فيبقى القلب محبا للرشاد، فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، حتى يصلح القلب فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها”(19).

3) “رحمـــــــة” :

قال الموصوف بالرحمان الرحيم : {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمومنين}(20). فالرب الخالق سبحانه، وُصِفَ بالرحمة في آيات وبصيغ كثيرة، ومنها قوله تعالى : {إن الله بالناس لرؤوف رحيم}(21). كما وصف نبيه الخاتم بأنه “رحمة”، وذلك في مثل قول من وسعت رحمته كل شيء : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(22). فالكتاب المنزل رحمة، ومنزله رحمة، والمنزل عليه رحمة،فهي رحمات، لا يشعر بها إلا من فتح قلبه لهذا الكتاب الرحمة، وكان قصده حسنا، وتوجهه نحوه كليا، وتعامله معه تعامل المربى مع المربي، والمريض مع الطبيب؛ التسليم سمته، والوقار رداؤه، والتدبر سلاحه، والاتباع مرامه، والاهتداء مطلبه، والمداومة دأبه، ونفي الضرائر سعيه، وعلاج الحال شأنه، وطرد الوسواس الخناس أمله، ورضاء رب العباد غايته ؛ لا يمل منه وإن غمزه الغامزون، ولا يفارقه وإن أغراه الغاوون ؛ لأنه وجد قلبه قد اطمأن في زمان، القلوب فيه محترقة، ولأنه شعر بالسعادة في وقت، السعادة فيه أشلاء ممزقة، ولأنه أحس بالسكينة في لحظة، السكينة أشبه ما تكون بالأرض المحروقة.

يقول ابن كثير ـ عقب قول علام الغيوب : {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمومنين} ـ يقول : “يقول تعالى مخبرا عن كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، إنه “شفاء ورحمة للمؤمنين”، أي يذهب ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل؛ فالقرآن يشفي من ذلك كله. وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير، والرغبة فيه؛ وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة”(23).

4) “موعظـــــة ” :

قال العليم الخبير، الذي لا يخفى عليه شيء وهو السميع البصير : {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين}(24).

وما إخال لفظ “موعظة” إلا مشعر ومؤد وظيفة الإيقاظ والتنبيه؛ فإن الوعظ -كما في “مختار الصحاح”- يعني : “النصح والتذكير بالعواقب”(25). والقرآن العظيم، أحداثه كلها، وقضاياه أجمعها، وآياته أكتعها، ما هو ـ في مجموع ذلك ـ إلا دق للطبول، وتنبيه للثكلى وما هم فيه من الكسل والخمول؛  فهو يخاطب العقل أحيانا، فيدعوه إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وقد رفع منها من رفع بلا عمد، وقد خفض منها من خفض بلا وتد؛ كما يدعو إلى تأمل أحوال من سبق، وكيف نجا الذي سلك سبيل الهدى، وهلك الذي اختار طريق الغواية والردى؛ فيقول مثلا : {قل انظروا ماذا في السموات والأرض}(26)، ويقول : {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها}(27)،ويقول: {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفه فإذا هو خصيم مبين، وضرب لنا مثلا ونسي خلقه، قال من يحي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون، أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم، بلى وهو الخلاق العليم}(28).

فأي إيقاظ للعقل وتنبيه له عن الغفلة التي قد تنسيه ما حوله وما فوقه وما تحته، من سماء ذات أبراج، ومن أرض ذات فجاج  من هذا المنطق القرآني العجيب ؟

كما أن القرآن الكريم، يخاطب العاطفة الجياشة، والغيرة الفياضة؛ وذلك في مثل حديثه عن الواجب على الأبناء تجاه آبائهم، وفي مثل حديثه عن علاقات الأزواج مع أزواجهم، وأمثال ذلك ونظائره كثيرة. وتأمل قول اللطيف الخبير وهو يقول : {إما يَبْلُغَنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}(29).

وانظر إلى التعبير الدقيق اللطيف، والأسلوب الحصيف الظريف، في مثل قول من سبقت رحمته غضبه : {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}(30) وقوله سبحانه : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}(31)، فهل هناك تعبير ألطف، أو تصريح أظرف، من هذا الذي جعل أحد الزوجين للآخر رداء لمرتديه ساترا، وثوبا لصاحبه مدثرا؛ السكون كأنما خيط معه، والرحمة كأنها كانت سدى له ؟  فسبحان من قال عن نفسه : {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}(32).

5) “حبـــــل الله” :

من الأوصاف التي قد تحمل نوعا من الغرابة، وإن كانت في حد ذاتها تمثل ضربا عاليا من أضرب البلاغة والفصاحة، ما وصف به أحكم الحاكمين، كتابه الذي أنزله بلسان عربي مبين، حيث قال عنه “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”. فقد فسر “حبل الله” فيالآية السالفة بأنه “القرآن العظيم”؛ ثبت ذلك عمن أنزل عليه الكتاب ، وثبت عمن أخذ عنه علم الكتاب وهم صحابته رضي الله عنهم، وثبت عمن جاء بعدهم ممن اتخذ ذلك الكتاب جليسه وأنيسه، وجعل خدمته وجهته وسبيله. فقد ثبت في جامع الترمذي ومسند الإمام أحمد أن إمام المعتصمين بحبل الله  قال: “كتاب الله، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض”(33)، وقال ابن مسعود ] : ” فاعتصموا بحبل الله، فإن حبل الله القرآن”(34). وقال الشاطبي في “حرز الأماني”(35) :

“وبعد فحبل الله فينا كتابه

فجاهد به حبل العدا متحبلا”

إن “الحبل” من وظائفه العامة، رفع طرف معين إلى الأعلى، وصون الأطراف المتفقة أو المختلفة، من التفكك والتفرق؛ وهي وظائف مثلها القرآن العظيم أحسن تمثيل؛ فإن من السعي الحثيث الذي سعى إليه، رفع الإنسان إلى مستوى تكون الفضيلة فيه هي السائدة، والقيم النبيلة هي المهيمنة، والسكينة هي المخيمة، وعبودية الفرد الصمد هي القائدة؛ وتكون الرذيلة فيه هي الذليلة، والأخلاق الساقطة هي الخائفة المتخفية، والرؤوس المتمردة هي المنكسة المنزوية.

كما أن من المرام الذي رام تحقيقه، أن يكون المؤمنون الصادقون بعيدين عن كل فرقة أو نزاع، حريصين على تجنب كل ما يلحق بصفوفهم التشقق أو حتى الصداع ؛ فكم من حرب شنها على المتفرقين، وكم من نذير أنذره الذين هم بأوضاعهم غير معتبرين.

اسمع إلى الباري عز أمره وهو يقول عن الهدف من خلق الإنسان : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(36). وأصغ إليه وهو يبين سبب اختلاف الناس شعوبا وقبائل : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}(37). وتأمل دعوته إليهم في أن يتعاونوا على الخير لا على الشر : {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان}(38). واستحضر ما ذكره عن الفرقة والنزاع، حيث قال : {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}(39). وقال : {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}(40). وقال : {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}(41).

6) “الفــرقــــــان” :

يقول من له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا : {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعاملين نذيرا}(42).

فالقرآن العظيم فرق الله به بين الحق والباطل، وبين الزور والبهتان، وبين سبيل الهدى والرشاد، وطريق الغواية والعناد؛ فالإيمان جعل له أمارات تهدي إليه، والإحسان رسم له خطوطا تدل عليه، والمعروف وضع له قواعد تضبط سير الآخذ به، وتصون القائم على شأنه،  كما أنه بين عاقبة الذين هم بكل ذلك آخذون، ونهاية الذين هم عنه راغبون، ولأدبارهم له مولون؛ فإن من لم يهتد غوى، ومن لم يرشد هوى، ومن تخلى عن المعروف، استحوذ عليه المنكر، ومن أعرض عن الإحسان، لم يكن له من الإساءة مفر، يقول ابن كثير : ” سماه هاهنا الفرقان، لأنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام”(43).

إذا كان ذلك الكتاب، يتضمن سامي تلك المعاني والألقاب، وغيرها مما يعجز عن حصره العد والحساب؛ فإن من أنزل عليه ، قام داعيا مخلصا، وحاثا محرضا، على الاهتمام بالقرآن العظيم، وعلى النهل من معينه الصافي، والشرب من حوضه الشافي، وعلى الإكثار من قراءته وتدبره، والتوجه نحوه بالكلية ؛ فإن من فعل ذلك، حظي بكل مزية، فمحمد الخاتم ، تكلم عن هذا الكتاب العزيز وأهله بكلمات كلها بشرى ونور، وجميعها شرح لما في الصدور، فهو : (كمنزل عليه القرآن المتخلق به الداعي إليه المتعلق قلبه به فانظر كيف كانت صلته بهذا القرآن).

الرسول  والقرآن

1) يحصر الخيرية فيمن أفنى عمره في تعلم وتعليم ذلك الكتاب، وقضى وقته في تدبره ونشر هديه بين العباد، فيقول  : “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”(44).

2) يرجع رفعة من رفعت أخلاقه، وسمت نفسه وأفعاله، ورقي في مدارج السالكين، وكان في الطهر على نهج المطهرين الأولين، إلى العناية والاستنارة بهذا الكتاب العجيب. كما يرجع فشل من فشل من ذوي القيم السافلة، والمبادئ والتصورات والممارسات الهابطة، إلى الجهل والإعراض عن هدي هذا الكتاب العزيز ؛ فيقول  : “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين”(45).

3) يجعل أهل الله وخاصته، والمقربين منه وأحبابه، هم الذين كان القرآن لهم مصاحبا، وكان الواحد منهم على الاتصال به مداوما، يقول  : “إن لله أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته”(46).

4) يبشر الذين جاهدوا واجتهدوا حتى ضبطوا متشابه هذا الكتاب، المحكم في جمهرته، المتشابه في جمل من آياته، فأتقنوا حروفه، وعظموا حدوده، يبشرهم بأن جزاءهم لا يدانيه جزاء، وحالتهم سوف تحظى بما لا قبل لهم به، من رفعة في الدرجة، ومزيد عطاء في المثوبة؛ بل إن من كان منهم ضعيفا متعثرا، ولتعلم القرآن وقراءته الأمر عليه شاق معسر، يضاعف له العطاء، جزاء لاهتمامه به في السر والخفاء، يقول نبي الهدى  : “الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران”(47). ويقول “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول : “ألم” حرف، ولكن : ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف”(48).

5) يزف البشرى لمن كانت عنايته بالقرآن العظيم زائدة، وحالته في الاهتمام به رائدة، ويخبره بأنه سيحظى يوم الدين بشفاعة هذا الكتاب المبجل ؛ يقول  : “اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه”(49). ويقول أيضا : يقال لصاحب القرآن : “اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”(50).

كيف تعيش مع القرآن

فيا من تاهت به المسالك، ووقع في مهاوي المهالك، وهو يبحث بلهف وشوق، عن منارات الهدى، ومصابيح الدجى، وعن شفاء العليل، ودواء يروي الغليل؛ وعن مجال فسيح كله رحمة، وفرقان لا تختلط فيه النقمة بالنعمة،  اعمد إلى ذلك الكتاب، الذي لا منجاة إلا لصاحبه يوم الحساب، وانهج معه النهج الآتي :

1) داوم على قراءته بقلب شاهد حاضر، وبفكر للحق الذي جاء به موثر، وبعقل لوعده ووعيده ذاكر، وببصيرة تستخلص العبر والعظات، ممن رفعه ذلك الكتاب إلى أعلى الدرجات، أو حطه فصار في أدنى الدركات.

2) احرص على قراءته قراءة المرتل لحروفه، المتفهم لداله ومدلوله، الحريص على مراعاة مضامينه وحدوده، الساعي إلى تحقيق مراده ومقصوده.

3) اجعل لنفسك منه وردا لا تفتر عنه مهما ادلهمت بك الخطوب، ولا تغفل عنه ولو ملئت جوانبك بالضجيج المختلف الأنواع والضروب.

4) اتخذ خليلا أو أخلاء يشدون عضدك، ويطردون عنك وسواس الكسل والخمول، ويدفعون عنك خناس الملل والأفول؛ فإن إمام الموسوسين، وقائد الخانسين، إلى الواحد أقرب من الاثنين، وهو إلى الاثنين أقرب من الثلاثة،  وهكذا.

5) أخلص النية معه، وصحح القصد تجاهه ؛ فإن من جرب قال :

إذ الفتى حسب اعتقاده رفع

وكل من لم يعتقد لم ينتفع!

6) اجتهد في جعله أنيسك في الوحشة، ومرجعك في الفتوى، وقائدك في المسير، ولهج لسانك في الذكر، ونورك في المخالطة والعشرة؛ واحذر أن تتركه وتلجأ إلى ضرائره، أو تغفل عنه وتسبح بحمد غيره، أو تهمله وتستفتي من يفتي بغير أمره؛ فإنه الجواب الكافي، لمن سأل عن الدواء الشافي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تأمل ما ذكره مصطفى صادق الرافعي في كتابه “إعجاز القرآن”، أثناء عرضه لمعارضي القرآن الكريم، عبر مراحل تاريخ القرآن.

(2) مختصر تفسير ابن كثير، ج.3، ص. 291 (هاني الحاج).

(3)  يقول الشاطبي صاحب “حرز الأماني” عن القرآن الكريم :

وأخلق به إذ ليس يخلق جدة ***  جديدا مواليه على الجد مقبلا

(4)  قال تعالى : “فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا “، التغابن، آية 8.

(5)  قال تعالى : “والذي أنزل إليك من ربك الحق”، الرعد، آية 1.

(6)  قال تعالى : “الله نزل أحسن الحديث “، الزمر، آية 23.

(7)  قال تعالى : “وهذا كتاب أنزلناه إليك مبارك “، الأنعام، آية 155.

(8)  البقرة، آية، 1.

(9)  مختار الصحاح، مادة : ه،د،ي.

(10)  طه، الآيات : 120 ـ 121 ـ 122.

(11)  الإسراء، آية 9.

(12)  الشورى، آية 52.

(13)  القصص، آية 56.

(14)  التوبة، الآيتان : 124 ـ 125.

(15)  سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم 2450.

(16)  فصلت، آية 44.

(17)  البقرة، آية 9.

(18)  الأحزاب، آية 32.

(19)  أمراض القلوب وشفاؤها، ص. 10 ـ 11، ط. 2، 1412 هـ.

(20)  الإسراء، آية 82.

(21)  البقرة، آية 143.

(22)  الأنبياء، آية 107.

(23)  مختصر تفسير ابن كثير، ج. 2، ص. 484، (هاني الحاج).

(24)  يونس، آية 57.

(25)  مختار الصحاح، مادة : و،ع،ظ.

(26)  يونس، آية 101.

(27)  الرعد، آية 2.

(28)  يس، الآيات : 76 ـ 77 ـ 78 ـ 79 ـ 80.

(29)  الإسراء، آية 24.

(30)  البقرة، آية 187.

(31)  الروم، آية 21.

(32)  الملك، آية 14.

(33)  ورواه ابن أبي شيبة وابن جرير كما في “صحيح الجامع الصغير”، حديث رقم 4473.

(34)  مختصر تفسير ابن كثير، ج. 1، ص. 373، (هاني الحاج.).

(35)  ص. 3.

(36)  الذاريات، آية 56.

(37)  الحجرات، آية 13.

(38)  المائدة، آية 3.

(39)  الأنفال، آية 47.

(40)  الأنعام، آية 160.

(41)  آل عمران، الآيات : 103 ـ 104 ـ 105.

(42)  الفرقان، آية 1.

(43)  مختصر تفسير ابن كثير، ج. 2، ص. 757، (هاني الحاج).

(44)  صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، حديث رقم : 5027.

(45)  صحيح مسلم، كتاب المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، حديث رقم 817.

(46)  رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم، كما في “صحيح الجامع الصغير”، حديث رقم : 2165.

(47)  صحيح مسلم، كتاب المسافرين، باب فضل الماهر بالقرآن، حديث رقم 798. و”صحيح البخاري”، كتاب التفسير، الباب 80، رقم الحديث 4937.

(48)  رواه الترمذي، كما في “صحيح الجامع الصغير”، حديث رقم 6469.

(49)  رواه مسلم، كتاب المسافرين، باب فضل قراءة القرآن، حديث رقم 804.

(50)  رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد والحاكم وابن حبان كما في “صحيح الجامع الصغير”، حديثرقم 8122.

د.عبد الله طاهري

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>