6- نساء يُضْرب بهن المثل في حُسْن التبعل
1) مدخل :
الإنسان -ذكراً كان أو أنثى- لا يوزن بلحمه ودمه وشحمه وعظمه، ولا يوزن كذلك بما يملك من مال أو سلطان أو جاه أو جمال خِلقيّ أو نسب عائلي، فكُلُّ ذلك لَهُ اعتبارٌ وقيمة مرْعيّة، ولكنها إذا تعرّت عن القيمة الحقيقية للإنسان، قيمة الخُلُق والتقوى، وقيمة السمو النفسي، والكمال الإنساني، فإن الجمال، والمال، والجاه وغير ذلك لا يساوي شيئا أمام الفساد الخلقي، والانحطاط النفسي والأدبي.
ولوزن الإنسان -ذكراً أو أنثى- بالمقياس الأخلاقي في الدرجة الأولى، كان هناك نساء في الثريّا ونساء في أعباب الثرى، وكان هناك أيضا رجال في الجوزاء -نجم في السماء- ورجال في الرمضاء، إلاّ أننا نريد أن نفرد هذه الحلقة للنساء فقط، لإبراز المرأة النموذج أو القريبة من النموذج، المرأة التي يحلُم بها المومن الحق في فكره وخياله، وتتمناها الشعوب المومنة لإخراج الأمة المومنة الهادية للإنسانية المعذّبة والمقيدة في شقاء الكفر والجهل بالله عز وجل وبقيمة الإنسان ومنزلته عند ربه الرحيم الحكيم.
فالمرأة المومنة النموذج لا توزن بملء الدنيا ذهبا وجواهر، وقد أبرز الله عز وجلّ هذه الحقيقة عندما قال : {ومِن آياتِهِ أن خَلَق لكُمْ من أنْفُسِكُم أزواجاً لتَسْكُنُوا إِلَيْها وجَعَل بيْنَكُم مودَّةً ورحْمةً إنّ في ذلك لآياتٍ لقَوْمٍ يتَفَكّرُون}(الروم : 21)، >وإذا اجتمع السند والسكن مع المو دة والرحمة اجتمع الخيرُ كله للرجل والمرأة على السواء<(1) لأن السكن النفسي والبيتي والقلبي والفكري نعمة لا تشترى، ولكنها رحمة تُمنح، ونعمة توهب من المنعم الوهّاب.
وقال : >الدُّنْيَا مَتَاع وخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيا المرْأَةُ الصّالِحَةُ<(2) وطبعا الرجل الصالح خير متاع الدنيا بالنسبة للمرأة، وقال : >لِيَتّخِذْ أحدُكُم قَلْباً شَاكِراً ولساناً ذَاكِراً وزَوجَةً مُومِنةً تُعِينُهُ على أمر الآخرة<(3) وقال : >أربَعٌ من السَّعَادَة : المرْأةُ الصّالِحَةُ والمَسْكَنُ الوَاسِعُ، والجَارُ الصّالِحُ، والمرْكَبُ الهَنِيء<(4) وقال : >قَلْبٌ شَاكِرُ ولِسَانٌ ذَاكِرٌ، وزَوْجَةٌ صَالحَةٌ تُعِينُك على أمْرِ دُنْيَاكَ ودِينِك، خَيْرُ ما اكْتَنَزَ النّاس<(5).
2) النماذج :
أ- أم المومنين الكبرى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها :
لا يمكن للمرء المسلم أن يتكلم عن نساء في القمة ولا يجعل خديجة رضي الله عنها في قمة القِمم، وبما أن المجال ليس مجال التكلم عن فضائلها التي لا يعلم قدرها إلا الله تعالى الذي بشّرها بالجنة، فكانت أولَ مُبَشّرة بها في أوائل الدعوة، ولكننا نريد أن نتكلم عنها من ناحية واحدة هي ناحية حُسْنِ التبعُّل لخير زَوج بشري على الإطلاق، وتبرز هذه الفضيلة واضحة في النقط التالية :
1- أنها تزوجت الرسول عن تعلُّق إيماني لا مثيل له، فكفته مؤونة العيش وتكاليف الحياة، ثم كانت من شدة إعجابها بخلقه المتميز قبل البعثة دائما تثبتُه وتبث في نفسه الثقة المطلقة بأنه الرسول المبشَر به، ولذلك كانت أول من آمن به.
2- كُتّاب السنة والسيرة كلهم أجمعوا على أن خديجة كانت نعم المسَلِّي الدّاخلي لرسول الله ، فكلما دخل عليها مكروبا مهموما من شدة ما يلاقي في سبيل الدعوة إلا وهوّنَت عليه الأمر وسّرتْ عنه ما يجد.
3- تسمية العام الذي فقدها فيه الرسول بعام الحُزْن.
4- أن الرسول لم يتزوج عليها أبداً لأن الرجل لا يعدِّد إلا إذا كان يشعر بنقصِ ما، وخديجة غمرتْه بحنان الأم وسَكَنِ الزوجة، وكما أنه يوجد رجل بعشرة، ورجل بألف كما قال عمر بن الخطاب في القعقاع، فكذلك توجد امرأة بعشر وامرأة بألف، وامرأة برخص التراب.
5- أن الرسول لم ينْسَها أبداً على ما تزوّج من النساء بعد مماتها.
6- أن الرسول كان من شدة حبه وتقديره لها لا يقبل أبداً مَسّها بأدْنى طعْن أو سُوء(6).
7- أن الرسول كان يكرم أيّما إكرامٍ كُلَّ من ذكّره بها بسبب قرابة لها أو صداقة.
ب- خطيبة النساء وسفيرة النساء إلى رسول الله : أسماء بنت يزيد بن السكن :
هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأوسية الأشهلية رضي الله عنها، كانت من أشجع الفتيات وأثبتهن على الشدائد، أحبّت الإسلام كثيراً، وجاهدت في سبيله، وفي نفس الوقت كانت مُرْهَفَة الإحساس، رقيقة المشاعر.
أسلمت في السنة الأولى للهجرة، وبايعت الرسول بيعة النساء.
تميزت أسماء بقوة الشخصية، وشدة الجراءة في الحق، وكانت شغوفة بالتعلم، حيث كانت تسأل الرسول عن كل صغيرة وكبيرة تفيدها في أمر دينها، فهي التي سألت الرسول عن طريقة تطهير المرأة من الحيض دون خجل(7)، ولهذه الجرأة الأدبية الرائعة أصبحت تنوب عن المسلمات في مخاطبةالرسول ، وذلك فيما يتعلق بأمور النساء ومختلف أدوارهن في المشاركة مع الرجال لإعلاء كلمة الله تعالى.
ولقد جاءت أسماء الرسول ، فقالت له: >يا رسول الله إني رسُولُ مَنْ ورائي من جماعة نساء المسلمين، كُلُّهُنّ يقُلْن بقَوْلي، وهُنّ على مِثْل رأيي. إن الله تعالى بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك، ونحنُ معاشر النساء مقْصُوراتٌ مخْدُوراتٌ، قواعِدُ بيوت، ومواضع شهواتِ الرجال، وحاملاتُ أولادهم، وإن الرجال فُضِّلُوا بالجُمُعاتِ، وشهود الجنائز، والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حَفِظْنا لهم أموالهم، وربّيْنا أولادهم، أفَنُشَارِكُهُم في الأجر يا رسول الله؟!<.
فالتفت الرسول إلى أصحابه، فقال : >هَلْ سَمِعْتُم مَقَالَة امرأةٍ أحْسَن سُؤَالاً عن دِينِها من هذِه؟< فقالوا : لا يا رسول الله.
فقال رسول الله : >انْصَرِفِي يا أسماءُ، وأعْلِمِي مَنْ ورَاءَكِ من النّسَاء أنّحُسْنَ تَبَعُّلِ إحْدَاهُنَّ لزَوْجِها، وطَلَبَها لمَرْضَاتِه، واتّباعَها لموافقَتِه يُعَادِلُ كُلّ مَا ذَكَرْتِ للرِّجَالِ<(8).
ففرحت أسماء رضي الله عنها، وأفْرَحَتْ من وراءَها، بلْ لا نُبَالِغُُ إذا قُلنا : وأفْرحَتْ كُلّ امرأة مسلمة إلى يوم الدين، لأنها أخذت لهن عهداً من الله تعالى ورسوله بأنه بقدرما تُسانِدُ الرجل وتعينُه على إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه بقَدْر ما تكون مساهِمةً معه في العمل، ومشاركة له في الأجر، فلْتهنأ المسلمة، ولْتكُن خير داعمة لزوجها وإخوانها وأولادها، فعلى ماذا استحقت خديجة رضي الله عنها التبشير بالجنة؟! أليس ذلك لوقوفها وراء رسول الله مُؤيدة ومثبتة ومضحية ومسلية؟!
وكما كانت أسماء رضي الله عنها تحسن التبعُّل، فقد كانت تحسن الجهاد، فقد شهدت -بعد وفاة الرسول معركة اليرموك، وشاركت فيها بالقتال يقول ابن كثير : >وقد قاتل نساءالمسلمين في هذا اليوم، وقتلن خلقا كثيراً من الروم، وكُن يضربن من انهزم من المسلمين حتى يرجع إلى القتال<.
كان لأسماء في هذه المعركة دور كبير مع أخواتها المومنات في تضميد جراح المصابين، والشد من عزائم المسلمين، وعند ما اشتدت المعركة حملتْ عموداً وجدته في طريقها، فأخذت تضرب به وتقاتل به، حتى إنها قتلت تسعةً من الروم بهذا العمود، توفيت رحمها الله تعالى في حدود السنة الثلاثين للهجرة(9).
——
1- انظر تحرير المرأة في عصر الرسالة 13/5.
2- رواه مسلم كتاب الرضاع، باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة.
3- رواه أحمد.
4- رواه الحاكم.
5- رواه البيهقي في شعب الإيمان.
6- وغَيْرة عائشة رضي الله عنها معروفة.
7- فقد اشتهرت بأنها هي التي سألت الرسول عن هذه الشؤون الخاصة بالنساء، وبالأخص في الحيض، الأمر الذي يدل على أن النساء كن في جهْل تام بالعلم الخاص بالحيض والنفاس، والطهر، والتطهر، وما يُمنع عليهم أثناء ذلك.. عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء سألت النبي عن غُسْلِ المحيض فقال : >تأخُذ إحْدَاكُنّ ماءَها وسِدْرَتَها -نَبْتٌ يُساعِدُ على التنظيف كالصابون والحلفاء والبونجة والشبكات الخيطية المستعملة عندنا اليوم- ثمّ تصبّ عليها الماء -أي على باقي جَسَدها- ثم تأخُذُ فِرْصَةً -قطعة من الصوف أو القطن- مُمَسَّكَةً -مطيّبة ومعطرة بالمسك وغيره- فَتَطهّرُ بها< فقالت أسماء التي لم تفهَمْْ وهذا هو بيتُ القصيد في الجُرأة على السؤال لتفهم : وكَيْف تطهر بها؟! فقال : >سُبْحان الله! تطهَّرين بها< تعجَّب الرسول من عدَم فهْمِها لأن المجال لا يتسع لأكثر من هذا الشّرْح، والمرأة بطبعها ينبغي أن تفهم بالإشارة، أي أن تفهم أن المقصود وضعُ القطعة المعطرة في فرجها ليطهر أثر الدم من الداخل، ولكن أسماء رضي الله عنها يظهر أنها كانت غارقة في السذاجة والبداوة، ولهذا تدخّلَتْ عائشة رضي الله عنها فقالت : >تتّبَعِينَ أَثَرَ الدّم< وقالت عائشة بعد ذلك >يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الأنْصَارِ لمْ يَكُنْ يمْنَعُهُنّ الحَيَاءُ أنْ يَتَفَقّهْنَ فِي الدِّين< رواه الخمسة إلا الترمذي انظر التاج 120/1.
8- يظهر من خلال سردها لما تقوم به المرأة في حضور الزوج وغيبته أن المرأة العربية المسلمة كانت تحسن التّبعل بفطرتها وبدون تكلف أو شعور بالامتعاض كما يشعر المصابات اليوم بمرض التغرب والترجل والتعالي والأنانية، حيث أصبحن يأنفْن من الطاعة والسهر على خدمة الأسرة، فأسماء كانت تسأل عن الزيادة في الأجر بزيادة العمل للإسلام، أما وظيفتها ووظيفتهن فهي معروفة..
9- انظر : نساء حول الرسول لعبد الرحيم مارديني،وموسوعة عظماء حول الرسول لخالد عبد الرحمان العك 2145/3 تحت عنوان : أم عامر بنت يزيد، قال : ذكرها ابن سعد، فقال : اسمها فُكيْهة، ويقال : اسمُها أسماء. وانظر الإصابة لابن حجر.
ذ.المفضل فلواتي