1- مقدمات :
> أ- مشروعية الميل الفطري بين الرجال والنساء :
لا خِيَار للرجل أو المرأة في الشّعور بالانْجذاب والميْل لبعضهما بعضاً، فذلك شيءٌ فَطر الله عز وجل عليه الإنسان في الظاهر لرغبة كُلٍّ منهما في الاستمتاع بالطرف الآخر، وفي الباطن لتحقيق الحكمة الالهية من وراء هذا الميل، وهي تعمير الأرض بالإنسان ليمارِسَ المسؤولية المنوطةً به من التسخير للكون، ودفع الحساب في النهاية عن هذه المسؤولية {واللَّهُ جَعَل لَكُم من أنْفُسِكُم أزْوَاجاً وجَعَلَ لكُم مِنَ أزْوَاجِكُم بَنِينَ وحَفَدَةً ورَزَقَكُم مِّن الطَّيِّبَاتِ، أَفَبِالْبَاطِل يُومِنونَ وبِنِعْمةِ اللهِ هُم يَكْفُرُونَ}(النحل : 72)، {هُوَ أنْشَأكُم مِّن الأرْضِ واسْتَعْمَرَكُم فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوه ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}(هود : 61).
تأمَّل هذا التعبير القرآني {زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِن النّساءِ}(آل عمران : 14) فبناء فعل {زُيِّن} للمجهول يدل على أن فاعِلَ هذا التّزيين وغارسَه في الطباع هو الله تعالى.
وتأمّلْ أيضا هذا التعبير النبوي >حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُم الطِّيبُ والنِّسَاءُ< تَجِد أن النبي لم يحبّ النساءَ والطيبَ من تلقاء نفسه، ولكن الله عزوجل حبّبهما إليه ليكون نموذجا للإنسان السوِيِّ فِطرة في إطار الرسالة الخاتمة.
ومن هنا تعرفُ سِرّ غضبه على من أرادَ أن يعاكِس الفطرةَ بتصميمه على اعتزال النساء مع صاحبيْه اللذين أرَادَا أيضاً مصادمة الطبيعة الإنسانية بعدم النوم، ومواصلة الصيام، فقال : >أصلي وأرقُد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني<.
ومن هنا أيضا تعرف سِر قوله لأبي الدرداء : >إنّ لرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً، ولنَفْسِكَ عليكَ حقّاً، ولأهْلِكَ عَلَيْكَحًقّاً، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقّ حقّهُ< عندما أخبره سلمانُ الفارسي بأنه يُفرّط في حق أهله.
ومن هذا القبيل ما رواه الطبراني عن عثمان ابن مظعون ] قال : يا رسول الله إني رجل يَشُقُّ علي العُزُوبَة، فأذَنْ لي في الخِصَاءِ(1) قال : >لاَ، ولَكنْ عَلَيْك بالصّيَامِ< فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ما أحَلّ اللّه لكُمْ}(المائدة : 89) والنساء من الطيبات.
> ب- خالق الفطرة يعْلمُ قوة الشهوة الجنسية :
لهذا العلم الرباني بما انفطر عليه الإنسان نجد أن الله تعالى لا يقمَعُ شهوة الفطرة، ولا يكبتُها، ولكنه يُعْلي من شأنها، ويُزيل كل الحواجز أمام تَصْرِيفها في المسار الصحيح، ولكن في المقابل يعالج جموحَها غَيْر المشروع بالكثير من الوقايات إلى حين توفر الفرصة الصائنة للدين والشرف والكرامة.
وهذه بعض الأمثلة الدالة بوضوح على قوة الشهوة الجنسيةسواء لدى الرجال أو النساء :
< لا نجد مثالا أقوى من السُّعار الجنسي الذي أبدتْه امرأة العزيز تجاه غلامها الصديق يوسف \. فهي أولا خاطبتْه خطاباً مكشوفاً خالياً من المداورة والتصنّعات التي تُتْقنها النساء الراغباتُ المتصنعاتُ للتّمنُّع، فقالت له : {هِيتَ لك} أي هيأتُ نفسي لك، ومتى قالت هذا؟! قالتْه بعد تغليق الأبواب، وثانيا : عندما عصمه الله تعالى بإيمانه وفرّ هارباً من هذا الجنون جَرَتْ وراءه وأمسكتْه في الباب بقوة، حتّى مزّقَتْ قميصه من الخَلْفِ. وثالثاً : عندما انتشرت الفضيحة بالمدينة لم تَسْتَحْي، ولكنها جمعت نسوة كبار القوم ليرَيْن بأنفسهن جمالَ يوسف \ فيُعْذِرْنها في اللُّهاث وراءه. ورابعاً : هدّدَتْه بالصراحة المتوقّحة بأنها ستَسْجُنه إن لم يَخْضع لأمرها الذي هو فوق سلطة الزوج، والقانون، والعُرف، والحياء، والردْع، حتى إن يوسف \ لمعرفته بجدَِّّّيّة التهديد، لم يَسَعهُ إلا أن يلجأ إلى الله تعالى ليخلِّصه من هذه الجريمة بتيسير السجن له، فالسجْنُ أهْوَن الشّرّيْن، وأخفُّ الضررَين.
< قال تعالى : {أُحِلَّ لكُمْ لَيْلة الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكُم هُنّ لِبَاسٌ لكُم وأنْتُم لِبَاسٌ لَهُنّ، عَلِمَ اللّهُ أنّكُم كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أنْفُسَكُم فَتابَ عَلَيْكم وعَفَا عَنْكُم فالآن بَاشِرُوهُنَّ}(البقرة : 187)، قال القرطبي: لفظ {أُحِلّ} يقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك ثم نُسخ(2)، وقد ذكر البخاري أن قيس بن صِرمة كان صائما، فلمّا حضر الإفطار أتَى امرأته(3) فقال لها : أعِنْدَكِ طَعَامٌ؟؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلُب لك، فغلبتْه عَيْناه، فجاءته امرأته بالطعام، فلما رأته قد نام قالت : يا خيبةً لك، لأنهم كانوا لايأكلون بعد النوم، فغُشِي عليه في منتصف النهار، فذكر ذلك للنبي ، فنزلت الآية {أُحِلّ} ففرحوا فرحاً شديداً(4).
وفي رواية للبخاري أيضا : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كلّه، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى {عَلِمَ اللهُ أنّكُم كُنْتُم تخْتَانُون أنْفُسكم}(5).
< عن أبي سعيد قال : جاءت امرأة إلى النبي ونحن عنده، فقالت : يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يُفَطّرُوني إذا صُمْت، فقال صفوان: يا رسول الله أنا رجُلٌ شابٌّ فلا أصْبِر، فقال يومئذ >لا تَصُومُ امرَأةٌ إلاّ بإذْنِ زوَْجِها<(رواه أبو داود).
<عن عكرمة قال : كان ابن رواحة مضطجعاً إلى جانب امرأته، فقام إلى جاريته فوقع عليها، ورأتْه امرأتُه، فعاتَبَتْه، فأنكر وجَحَد أنه فعل شيئا ما مع جاريته، فقالت له : اقرَأ القُرآن، لأن القرآن لا يقرؤه الجُنُبُ، فقال هذه الأبيات :
وفينا رسولُ الله يتْلو كتابَه
إذا انشقّ معرُوفٌ منَ الفَجْر سَاطِعٌ
أرانا الهُدَى بعْدَ العَمَى فقُلُوبُنا
بِهِ مُوقِناتٌ أنّ ما قالَ واقِعٌ
فقالت : >آمَنْتُ باللّهِ وكَذَّبْتُ بَصَرِي<، فأعْلَم النبيّ فَضَحِك حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُه(6).
< عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت : خرجنا مُحْرِمين، فقال : >من كان معه هدي فليُقِمْ على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليَحْلِلْ< فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير -زوجها- هدي، فلم يحْلِلْ، فلبستُ ثيابي، ثم خرجتُ، فجلستُ إلى الزبير، فقال : >قُومِي عَنِّي< فقلتُ : <أتَخْشَى أنْ أثِبَ عَلَيْك<(7).
< عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا ظاهَر من امرأته -حرّمها على نفْسِه- فوقَع عليها قبل أن يُكَفِّرَ، فقال له : >ما حَمَلَك على ذَلِك يرْحمك الله؟!< قال : >رأيتُ خَلْخَالَها في ضَوْءِ القمر< فقال : >فلا تَقْرَبْها حتَّى تَفْعَلَ ما أمَرَك الله<(رواه الترمذي)(8).
< عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان أن رجُلا أتى القاسم بن محمد -أحد الفقهاء السبعة- فقال : إنِّي أفضْتُ، وأفضتُ مَعِي بأهلي ثم عدَلتُ إلى شِعْبٍ -مكان مختفٍ بين جبَلين- فذهبتُ لأدْنُو من أهْلِي، فقالت : >إنِّي لمْ أقصِّرْ مِنْ شَعْرِي بَعْدُ< فأخذْتُ من شَعَرِها بأسْنَانِي ثم وقَعْتُ بها. فضحك القاسم، وقال : مُرْها فلتأخذ من شعَرها بالجَلَمَيْن -ما يُقطع به الشعر كالمقص-(رواه مالك في الموطأ)(9).
في العدد القادم مفهوم التباعل
————–
1- الخصاء : هو إزالة الخصيتين أي البَىْضتين أو الأُنْثَيَيْن بالنسبة للرجل، أو بالنسبة للفَحْل من الحيوان، ومشقة العزوبة، معناها : أنه يشتهي النساء، ولكنه غير متزوج، فهو يريد أن يختصِيَ ليقطع شهوته
2- ويظهر -والله أعلم- أن التحريم لم يكن منصوصاً عليه، وإنما كان عزْمةً إيمانية فرحاً بشهر الصيام الذي ميْزهم عن غيرهم من اليهود، فبمقتضى إيمانهم أرادوا أن يظهروا لله عزوجل، مقدار شكرهم وتجردهم من الشهوات له سبحانه وتعالى، وأمْهَلَهُم الله تعالى حتى يكشف ضعفهم عن مقاومة الشهوة، فنزل التحليل رحمة من الله عز وجل بعباده، وتوبة عن عدم الإيفاء بالعَزْمة والعهد الإيماني، وعفواً عن سقوط بعض الضعاف في خيانة العهد، أو عفواً عن الشعور بالتضايق مما التزموا به، أو عفواً بمعنى توسعة عليكم وتيسيراً لكم أمر صيامكم، وأمر دينكم كله.
3- وهذا هو الضعف أمام قو ة الشهوة.
4- من جامع القرطبي بتصرف.
5- والخيانة ضعف.
6- انظر تحرير المرأة لأبي شقة رحمه الله 83/6 فقد نقل القصة عن فتح الباري 283/3. والذي ينبغي أن يُفهم من القصة أن ابن رواحة لم يأت حراما، فالجارية جاريته، ولكنه تجنّب المشاكل مع زوجته التي يظهر عليها الجهْلُ الغليظ، مع محاولة ممارسة التحَكُّم في حقٍّ شرعي أباحه الله تعالى لزوجها.
7- النص يُبيّن خوف الزبير ] من إفساد الحج بممارسة الشهوة، وقد فهِمَتْه أسماء رضي الله عنها، فطمْأنته على حجّه، فالرغبة موجودة، ولكن الظرف لا يستدعي ذلك فلا تَخَفْ، فجلوسي بجنبك ليس إغراءً ولا تحريضاً، رضي الله عنها ما كان أفقَهََهَا!! والحديث رواه مسلم.
8- النص يُبيّن ضعف الإنسان أمام مثيرات الشهوة لتعرف حكمة الله تعالى في أمره النساء بعدم إبداء الزينة للأجنبي، ولا عبرة بالطاعنين والجاهلين بحكمة الله تعالى في المعالجة الربانية بأسلوب الوقاية.
9- لمزيد من الأمثلة انظر كتاب تحرير المرأة 70/6-80.
ذ.المفضل فلواتي