نموذج من الظواهر الفنية في (ديوان مع الله)
ولأن المجال لا يسمح بالوقوف عند جميع الظواهر الفنية في ديوان (مع الله)، بل لا يسمح حتى بتحليل ظاهرة واحدة تحليلا وافيا، لأن الأمر يحتاج إلى وقت وجهد خاصين، فإني أقترح بمناسبة هذا الملتقى الثاني عن الشاعر الأميري إضاءة نموذج واحد من تلك الظواهر بإيجاز كبير، آملا أن تتاح الفرصة لاحقا، وفي ملتقيات مقبلة عن الشاعر إن شاء الله تعالى، للتوسع والتعمق أكثر.
البراعة في الإيحاء
يمكن القول إن الميزة الكبرى لهذا الديوان خاصة، ولشعر الأميري عامة هي البراعة في الإيحاء، مع القدرة الفائقة في توظيف هذه الظاهرة الفنية في إحداث الأثر النفسي العميق لدى المتلقي، ويبدو الشاعر في ذلك متمكنا من العناصر الفنية التي يحسن توظيفها ببراعة فائقة، ويجيد تشكيلها لتحقيق التجاوب الوجداني للقارئ مع النص، انطلاقا مع براعته في اختيار الألفاظ المناسبة، إلى قدرته الفائقة على بناء الجملة الرقيقة المنسابة، إلى جمالية الإيقاع وخفته، والبراعة في تشكيل الصور الفنية، بالإضافة إلى حسن استغلاله لطاقات اللغة العربية وتوجيهه الشفاف لأساليبها المتنوعة، من تكرار وتأكيد وتقديم وتأخير واستفهام وما إلى ذلك، ويكفي أن نقرأ مجموعة من قصائد هذا الديوان لنقف على هذه الظواهر البارزة التي يوظفها الشاعر الأميري لتحقق الظاهرة الكبرى المشار إليها، ومن تلكم القصائد :
- مع الله، وهي القصيدة التي اختارها الشاعر عنوانا لديوانه.
ـ سبحان ربي الأعلى.
ـ شهود.
ـ بقاء
ـ في وحدتي………الخ
ويتميز شعر الأميري عامة، وديوانه (مع الله) خاصة، بالبراعة في التصوير الموحي، وهو تصوير فني لمختلف جوانب النفس الإنسانية في تناقضاتها وتقابل أحوالها، وفي ما يعتريها من صراع بين الخير والشر. وذلك ما لاحظه عدد من الدارسين، ولا سيما في ديوانه (مع الله) فأجمعوا على أنه “تصوير رائع للحقيقة الخالدة المركبة في طبيعة النفس البشرية، والداخلة في تكوينها، ألا وهي الصراع بين الغرائز والأهواء الدنيا، وبين المبادئ والمثل العليا”.
وتبعا لذلك أجمع الدارسون المهتمون بشعر الأميري، وبديوانه (مع الله) خاصة، أنه “يجيد تصوير هذا الجانب، ويفضح إلى حد بعيد ضعف الإنسان، ويبين إلى حد أبعد قدراته الهائلة إن هو تسلح بسلاح الإيمان”.
وذلك ما جعل الأميري بحق شاعر الإنسانية المؤمنة، وهذه مقاطع من قصيدته (مع الله) توضح ذلك وتؤكده، فهو يستهلها بقوله :
مع الله في سبحات الفِكَرْ
مع الله في لمحات البَصَرْ
ويحرص على تكرار عبارة (مع الله) في معظم أبيات القصيدة، ليشعر المتلقي بأن الإنسان المؤمن دائما مع الله، وأن النفس المؤمنة متعلقة بالله دوما، ومصداق ذلك قوله في هذا المقطع القائم على التقابل الثنائي الذي فطرت عليه النفس الإنسانية، ولكن إيمانها يجعلها دائما متعلقة بالله عز وجل :
مع الله والقلب في نَشْوَة
مع الله والنفس تشكو الضَّجَرْ
مع الله في كل بُؤْسَى ونُعْمَى
مع الله في كل خير وشر
****
مع الله في عنفوان الصِّبَا
مع الله في الضَّعْفِ عند الكِبَرْ
مع الله في الجسم والروح والشعور
… وخَفْقِ الرؤى والفِكَرْ
وهو كما يوحي بالتصريح، يوحي أيضا بالحذف، وقد يكون أفق الانتظار الذي توحي به نقط الحذف أبلغ من التصريح، لأنه مجال لكل احتمال، وهكذا تتضافر الكتابة والمحو على الإيحاء الإيجابي الذي يناسب السياق الذي تحدده ألفاظ الشاعر وصوره، حتى ولو عجز المتلقي أحيانا عن تفسير ذلك الإيحاء أو تعليله أو تحديده، لأن المهم هو الأثر الذي يحدثه في النفس، والمشاعر النبيلة التي يثيرها لدى قارئ شعره ومتلقيه، وقد توقف أحد الدارسين عند هذه الظاهرة بالذات فعبر عنها بقوله عن الأميري من خلال (مع الله) : “ومن الناحية الإيحائية نجد لكلماته إيحاء جميلا، وأثرا في النفس عميقا، يصعب تفسيره وتصويره، وفي كثير من الأحيان يأتي الإيحاء الجميل في كلمات الشاعر لكونها مستعملة في القرآن الكريم، فقد ترسخت معانيها في النفوس، وتمكنت روعتها في القلوب، ومن هنا يكون الأثر في نفس القارئ والسامع”.