وقفات – الصمت نعمة… الصمت نقمة!!


سن إسلامنا العظيم للمسلمين آدابا وأخلاقا عالية في كل مناحي الحياة ، ولم يغادر كبيرة أو صغيرة إلا أصدر فيها توجيهاته السامية طلبا لصلاح الناس في معاشهم ومعادهم . من ذلك ما يتعلق بالمجالس وآدابها، وقد وضح العلماء كثيرا منها استنادا إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الغراء مما تحفل به المصادر الإسلامية القيمة.

وكان من حرص الإسلام على تحلي المسلم بآداب المجالس أن ركز على أمور دقيقة منها مكان الجلوس، وقيام الجالس ، وعودته إلى مكانه وطريقة جلوسه ….، وقد أجمعت كل المصادر التشريعية على ضرورة كف الأذى وحفظ اللسان من النميمة والغيبة والشتيمة والتفيهق والعجب والتباهي ومقاطعة المتحدث. فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله  قال : إن مِنْ أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتفيهقون (رواه الترمذي) كما نصت هذه المصادر على ضرورة التحلي بالاتزان والوقار وتحري  الصدق والصواب، واختيار اللفظ اللائق والمعنى الرائق المناسب لمقامات الجالسين أو لزوم الصمت سيد الأخلاق.

وقد دأب المربون على حث النشء على فضيلة الصمت باعتباره عنوان عقل المرء وحاميه من الانزلاق والإسفاف وإثارة كوامن الحقد والعداوة، وقد تعلمنا أنه إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وأن من كثر لغطه كثر سقطه، وأن إطلاق اللسان قد يتلف النفس أو يطيل الحبس…. كما حذرنا بعض مربينا من الشغب والضوضاء والثرثرة وحَضّونا على الصمت بالترغيب والترهيب، فكانت المكافأة والعقوبة ماديا ومعنويا… وإذا كنا نحمد لهم -أثابهم الله- هذا التوجيه السديد الذي يستمد جذوره من آدابنا الإسلامية، فإن بعضاً منهم لم يعلمونا متى نصمت ومتى نتكلم، وإذا تحدثنا كيف نتحدث، وضوابط الحديث وقواعد الصمت وحدوده حتى حسب الكثيرون منا أن الصمت قاعدة وأن الحديث استثناء. وأن الثرثرة تعني إبداء الرأي وأن قول الحق عند ذي سلطان وقاحة….  وهكذا نشأت منا أجيال واجمة في مواطن الكلام متكلمة في مواضع الصمت لا تقيم للمقامات وأحوالها وزنا…. يذهب الواحد منا إلى مصلحة عمومية فيرى من تلاعب الغشاشين والمرتشين والمتهاونين ما يندى له الجبين، ولا يقرب عندهم إلا ذو الدالة والقرابة وتنكسر نفس المواطن المغلوب على أمره إذا نهى عن هذا المنكر وويل له إذاك من التماطل والتسويف والإقصاء حتى لاذ عموم الشعب بالصمت تحت رحمة صغار الموظفين…….

ويرى الناس لصا يسلب آخر متاعه في الطريق العام أو الحافلة فيخرسون وكأن على رؤوسهم الطير، ولا من ذي نخوة أو كبرياء يهب للغوث أمام سطوة الحرابة. إنها فضيلة الصمت التي تعلمناها وأسأنا فهمها.

ويتسلط الاستغلاليون على موارد الامة ويعيثون فسادا في المال العام وتحصل الكوارث المادية بها وتباع ممتلكاتها، ويصمت الجميع لتتناسل في ظل الصمت الرهيب التناقضات الاجتماعية وتتوالد الأحقاد وتستفحل البطالة والعنف والإرهاب والدعارة والجريمة ويصبح المواطن البسيط كبش فداء عند عتاة المجرمين والمنحرفين وما أحداث فاس عنا ببعيدة…….

وتكتمل دوائر الصمت حتى تشمل العالم فإذا الإنسانية صامتة خرساء تتفرج رهبة وخوفا أو رياء ومواربة حتى عاد العالم يغرق في صمت قاتم وأصبحت لعبة الصمت أداة يتلذذ بها الكبار ويمارسون تحت إغرائها أفانين من التنكيل والتقتيل والوحشية حتى إذا ثابوا إلى بعض وعيهم في نوبة لا وعي تنادوا بالديمقراطية وحقوق الإنسان. كما غدا الصمت عند الصغار ملاذا من سياط القهر والاستكبار العالميين.

وبعد، فقد آن الأوان لأن ينتبه المربون إلى أن الصمت وإن كان فضيلة وحِلْيَة العاقل فإنه في أحايين يضحى  رذيلة وعيبا ودليل السفه والخطل والعجز والجبن والضعف وأنه لا بد أن نعلم الناشئة في مدارسنا وبيوتنا حدود الصمت وطرق الكلام. وأن نعودهم حرية القول وابداء الرأي دون قمع حتى لا يسكتوا على منكر يراد دفعه أو معروف يبتغى نشره.

وقد آن الأوان أيضا أن نوفر لمحاضننا التربوية قدرا يسيرا من الحرية الإيجابية حتى ينشأ أبناؤنا على الجرأة والشجاعة والكبرياء والعزة وفصاحة اللسان وثبات الجنان وحتى لا تتناسل أجيال مقموعة أو قامعة.

وحينما يتحقق كل ذلك ويتقن المربون فن الإصغاء ويشجعون الناشئة على حرية الحديث ثم يأخذونه بالتهذيب والتوجيه مع إخلاص النية لله، آنذاك لن تخشى أجيالنا القادمة عصا ولا (زرواطة) ولا قذيفة ولا قنبلة….

وأخيرا أخيرا….. لعل في خرس بعض الدواب حكما ربانية كثيرة منها أن يسهل ركوبها وانقيادها…..

إنها آيات عظمى فهل نحن مبصرون؟

ذة. أمينة المريني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>