نحن وهم – في الرؤية الحضارية للإنسان


لم يكن في برنامج كتابتي لهذه الحلقات أن أثير هذا الموضوع في عمود هذ العدد. لقد كانت النية أن أتابع المقارنة بين واقعنا وواقعهم كما نعيشه الآن في صوره المختلفة؛ الإيجابية والسلبية على حد سواء، ثم أعرج بعد ذلك على مقارنة من طبيعة أخرى، أي بين واقعنا كما عاشه أجدادنا وكما هو موجود في حضارتنا، وبين واقعهم كما عاشه أجدادهم وكما هو موجود في حضارتهم.

لكن الواقع الأليم الذي تعيشه الأمة الآن، وخاصة في العراق وبالأخص أحداث الفلوجة التي شغلتنا عن آلام الأمة الأخرى، وخاصة في فلسطين،َ فرضت على أن ألتفت إلى هذا الواقع الأليم الذي يعيشه أهلونا وإخوتنا في العراق، وفي الفلوجة بالذات. ما عاشته الفلوجة ومعها مدن العراق الجريح وخاصة المدن السنية في الأيام الماضية، صورة حية وواقعية عن الرؤية الحضارية الغربية التي تقودها أمريكا للعالم الإسلامي باسم التحرر والتحرير والديموقراطية والتخلص من الاستبداد والدكتاتورية.

ما بثته القنوات الفضائية  -على شحه وقلته وخضوعه لمقص الرقيب/ الجيش الأمريكي- من صور المعارك يدل دلالة قاطعة أن هذه الرؤية، لا علاقة لها لا بالحضارة، ولا بالديموقراطية، ولا بالحرية ولا بحقوق الإنسان بالمفهوم الصحيح لهذه الألفاظ.

- أين هو حق الإنسان الحي في الحياة، والجريح في العلاج، والمريض في الدواء، والميت في الدفن؟ أهو في الإجهاز على الجرحى العزل وقتل الشيوخ الركع، والتمثيل بالقتلى وتجويع سائر السكان كما حدث في الفلوجة، وفي داخل مساجدها كما نقلت ذلك الصور الشحيحة؟؟.

- أين هو حق الإنسان في التعبد في جو تدمير المساجد، وإحراقها، بمن فيها وعلى من فيها في أقدس الأيام وأطهر الليالي، في العشر الأواخر من رمضان؟؟.

- أين حق التعبير ونقل الحقيقة في جو قتل الصحفيين واعتقالهم، أو منعهم من تغطية الأحداث بصورة حقيقية كما حصل في الإبادة الجماعية لسكان الفلوجة؟؟.

- أين هي الديموقراطية التي ستبنى على أشلاء القتلى ودماء الجرحى وأنَّات اليتامى وصياح الثكالى وتضور الجوعى، أليست الملايين التي ستصرف على هذه الانتخابات أحق بأن تصرف على هؤلاء الجوعى والثكالى والأيتام؟ أليست الحكومة التي ستفرزها هذه الصناديق ستكون بدون سيادة، وظِلاًّ للاحتلال الذي صنعها؟؟.

- أين هي الحضارة ا لإنسانية التي تحملها القوات الغازية، حينما يرى جنود هذه القوات، أنهم أتوا لغزو العراق لأنه لا توجد فيه مطاعم (ماكدونالدز) (هذا ما ورد في برنامج المهمة الناقصة الذي أذاعته قناة الجزيرة يوم الاثنين 15/11/2004 على الساعة 9 ليلا). وكأن وجود هذا النوع من المطاعم في بلد معين هو الذي يعطي الحضارة لهذا البلد؟؟.

- أين هي الحرية حينما يدمر شعب بأكمله ويقتل علماؤه أو يختطفون، ويُقتل فيه بالظَّنَّة؟؟؟

أين؟ وأين؟ وأين؟ أسئلة عديدة الجواب عنها يفضح قوات الاحتلال الأمريكي للعراق ويبين حقيقتهم بأنهم قوة استعمارية بأبشع صورها وأقبح تجلياتها. لقد كان استعمار القرن العشرين الأوربي يدعي تنمية الدول المستعمرة لأنها كانت فعلا متخلفة، أما استعمار القرن الواحد والعشرين الأمريكي فهو يهدف إلى تدمير ما حققته الدول الإسلامية من تقدم علمي ونهضة ثقافية، وواقع العراق شاهد على ذلك.

هؤلاء هم، وهذا ما عندهم، وهذه هي حضارتهم.

فماذا عندنا مقابل ذلك؟

إن إنسانية الإنسان عندنا في ديننا وحضارتنا مكفولة ومضمونة بالكتاب والسنة والسيرة والتاريخ والوقائع والشواهد والشهود من الأصدقاء والأعداء. سواء أكان الإنسان حيا أم ميتا، حليفا أم عدوا مسالما أم مقاتلا. وحتى لو تعلق الأمر بعقاب الجزاء. فحينما قتل المشركون سيد الشهداء حمزة، ومثلوا به وبمن استشهد من المسلمين في غزوة أحد، تعهد الرسول  بالاقتصاص من المجرمين القتلة الذين مثلوا بالموتى، فنزل قول الله تعالى : {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}. فمنع الرسول  المسلمين من التمثيل بجثث القتلى، حتى ولو كان الأمر اقتصاصا.

وحينما فتح الرسول  مكة المكرمة، وظن أهلها الذين أخرجوه وقاتلوه وحاربوه أنه سيقتص منهم، جمعهم وقال لهم : ماذا تظنون أني فاعل بكم, قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم، فقال  : اذهبوا فأنتم الطلقاء.

وحينما بعث أبو بكر] بجيش أسامة إلى الشام، أوصاه وأوصى المسلمين بقوله المشهور: “… وإذا نُصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولدا ولا شيخا ولا امرأة ولا طفلا، ولا تعقروا بهيمة، ولا تغدروا إذا عاهدتم ولا تنقضوا إذا صالحتم، وستمرون على  قوم في الصوامع رهبانا، فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم…..”.

فأين هذه التوجيهات الإسلامية الإنسانية السامية مما فعله الجنود الأمريكيون في مساجد الفلوجة : إجهاز على  شيخ أعزل جريح تقطر عيناه دما من أثر الجرح، وهم يقولون إنه يتظاهر بالموت…

ثم بعد هذا وقبله، فإن حرية المعابد والتدين مكفولة، كما هو واضح من وصية أبي بكر ] السالفة الذكر، وكما هو واضح أيضا من خلال العهدة العمرية لنصارى بيت المقدس وبلاد الشام، وكما هو بين في التاريخ الاسلامي على امتداد مراحله، حيث عاش غير المسلمين -بما فيهم اليهود- في أمن وأمان في ظل الدولة الإسلامية.

وحرية التعبير كانت مكفولة أيضا، وما وصلنا من كتب كتبها النصارى واليهود في مختلف المعارف، بما فيها معارفهم الدينية، وأخرى عديدة في كل ما يريدون ويرغبون بما في ذلك سب الصحابة رضوان الله عليهم.

وإطعام الجائع حق إنساني مهما كان دينه، وقصة العجوز اليهودي الذي رآه عمر يتسول في بعض الأزقة، فلما سأل عنه وعرف حاله قال : أعطوه من بيت المال، ما أنصفناه إنا أكلنا شبيبته وظلمناه في شيبته!!. وكرامة الإنسان مكفولة مهما كان دينه، وحتى وهو ميت، فلقد مرت جنازة برسول الله ، فقام لها، فقيل له : إنها جنازة يهودي، فقال : أليست  نفسا؟؟

ليس غرضي أن أتابع هذه المشاهد، فهي معروفة ومشهورة، ولكن أريد أن أقول : إن حضارتنا إنسانية عالمية، بيضاء ناصعة ليلها كنهارها، وحضارتهم ما نشاهده في العراق وفلسطين وأفغانستان والبقية تأتي.

د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>