من أوراق شاهدة – صياد النعام يلقاها يلقاها (بالتي هي أحسن)


(الراس اللي ما يدور كدية)، هكذا تكلم أبي، وهكذا خط لنا منهاج التـعامل الذكي والواقعي بل الحكيم مع الأحداث والمعطيات، كلما اعتراها تغيير يستدعي مراجعة المواقف والرؤى، دون أن يعني ذلك انخراطا في التنظير للانتهازية، فقد عاش أبي فقيرا وعزيزا، ومات فقيرا وأبدا عزيزا، ولم تنحني قامته تذللا وخضوعا إلا لله سبحانه.  وتعلمت التّرَبُّصَ وأنا أتدرج في مسالك الحياة الصعبة وأتزحلق على قشور موزها المتلاحقة، تعلمت أن أجعل رأسي يدور (وإن بصعوبة) في مواقف ومحطات ومع أناس ما كانوا يستحقون سوى أن أبصق في سحناتهم الحربائية وأصفق الباب ورائي وأرحل !. .ثم وأنا ألج رياض الإسلام العطرة، أدركت بشكل أوضح أن إدارة الرأس، حركة فيزيولوجية، وتدبير إداري، أو بصيغة أخرى، مرونة المواقف، ليست انهزاما ولا ذلا بل هي رحمة يلقيها الله سبحانه في قلوب من يشاء من خلقه لإعدادهم لتحمل أذى الآخرين وصلفهم لسبب واحد أوحد يقتضي كل التصبر والتجمل وهو تبليغ الرسالة.

وما أروع المحطات التي يقف فيها رسول الله ، موقف المبعوث الصابر المحتسب هو وأصحابه الكرام، ابتغاء تصفية النفوس من أدران وأمراض التدافع الأرضي الجشع، وقيادتها إلى بر الإسلام الآمن. وبالتالي هل كان عبثا أن أرسل عليه السلام رحمة للعالمين؟..

فما بال الورثة الجدد لرسالة المصطفى، عجولون ومتصلبون وحاسمون  بشكل لا يصدق؟ ففي صبيحة يوم الثلاثاء 2 نوفمبر من هذه السنة 2004، تَـَعَّرَض شاب مغربي يقطن بهولندا لرجل هولندي، وأطلق عليه ست رصاصات ثم ذبحه بعد ذلك، قبل أن يفر ويتم القبض عليه.  القتيل يدعى “تيوفان غوغ “، ويعمل مخرجا سينمائيا مشهورا (ووقحا عدوانيا بالمناسبة)، وهو أحد أحفاد الرسام العالمي الرائع اللوحات “فان غوغ “. والسبب في المجزرة هو إقدام “تيوفان” على إخراجفيلم تحت عنوان ” خضوع “، وهو فيلم سافل منحط بكل المقاييس، لا إبداع فيه وإنما هي تداعيات شيطانية لنفس مريضة بالعداء للإسلام، الشيء الذي دفع المخرج إلى تصوير امرأة مسلمة عارية إلا من ثوب شفاف لا يستر شيئا من جسدها، وقد كتبت عليه آيات قرآنية ذات صلة بموضوع الفيلم، ويبدأ العرض بتصوير هذه المرأة وهي تستقبل القبلة للصلاة، لتقرأ سورة الفاتحة،  بصوت امرأة من أصل صومالي، تشغل منصب برلمانية بالبرلمان الهولندي وتعتبر الدينامو المؤجج لأحقاد المخرج “تيوفان”. ولدى إتمامها القراءة، انخرطت في هدر وتخاريف اعتبرتها ابتهالات تشكو فيها لله سبحانه، وضعيتها الدونية كامرأة مسلمة مضطهدة، فهي عورة لاحق لها في الخروج إلا داخل سجن متحرك يدعى الحجاب !، وهي مدنسة بسبب العادة الشهرية ومقهورة بسبب الطاعة العمياء للزوج الطاغوت، ولكل ذكور العائلة المصابين بالهوس الجنسي وعلى رأسهم عمها الذياغتصبها. . بل تـمتد سخريتها إلى الخالق، تعالى عن هُبَلِها علوا كبيرا، فتتهمه بالخرس وصمت القبور إزاء معاناتها !!، وينتهي الفيلم القبيح، لتنتهي معه حياة هذا الأفاك الذي كان ينعت رسول الله  هو وكل المسلمين، “بناكحي المعز ” كما جاء في القصاصات الصحفية.  فهل كان من الغيرة الإسلامية أن يقتل “تيوفان” بتلك الطريقة الشنيعة؟ وبأسلوب آخر أسمح لنفسي بطرح السؤال كالتالي : هل كان رسول الله وأصحابه الراشدون في فترة الدعوة يلازمون خناجرهم وسيوفهم، فمتى تمت الإساءة إلى شخص رسول الله  أو نساء المسلمين أو الدين الإسلامي، ذبحوا الناس ذبح البعير؟!.  لقد خاطب الله سبحانه رسوله في سورة المزمل التي سطرت معالم الطريق الإسلامي للدعاة قائلا له : {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا} أي اهجرهم بقلبك فلا توافق هواهم مع الاستمرار في معاشرتهم بالمعروف، وبالتالي ألم يكن من الأجدى اتباع المنهج النبوي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن، فيدخل الناس في دين الله أفواجا عوض أن يخرجوا منه أفواجا كما حصل في هولندا، حيث جعلت هذه الجريمة الهولنديين يعيدون النظر في علاقتهم بالمسلمين ويتراجعون عن الكثير من المكتسبات التي حققها أبناء الجالية الراشدون، فأحرقت مساجد وأقفلت دور خيرية وحوصرت مدارس ومعاهد إسلامية، فصدق في حال إخواننا المسلمين بهولندا قول الشاعر:

 فأذللنا اليمامة بعد عز

 كما ذلت لواطئها النـعال

ثم ألا يعلم هذا الأخ الغيور أن أخواته ببلاد المسلمين أهون على الكثير من إخوانهم من العلمانيين، (المسلمي الجذور)، من مخرجه الذبيح الإفرنجي الأصول !! وملاحم البعض منهم في النيل الفاجر من دينهن وسمعتهن أكثر من أن تحصى!، فهل يوغل الغيورون بالسيوف والسكاكين في رقاب المستهترين بأبناء الدعوة، فيحيلون أوطانهم إلى ساحات حروب وحمامات دم فيكون القاتل والمقتول في النار كما جاء في الأثر، أم يصبرون على الأذى ابتغاء الكسر المتأني والأكيد للبنيان المتهافت بالتي هي أرشد، فيخر من القواعد؟؟..

ولأن الشيء بالشيء يذكر (في اتجاه ترشيد انفعالاتنا)،  فقد أثارت إعجابي مخرجة مصرية شابة تدعى “جيهان نجيم” قامت بإخراج فيلم وثائقي أثار ضجة كبيرة بأمريكا وأوربا، تحت عنوان “غرفة التحكم”، فضحت فيه أكاذيب الإدارة الأمريكية حول الحرب على العراق، فكان بحق ضربة موجعة لآلة الدمار القابعة بالبيت الأبيض والبنتاغون، وهدية دعائية ربانية للمقاومة العراقية الماجدة، في اتجاه تعرية الإرهابيين الحقيقيين، وكل ذلك، دون إراقة نقطة دم واحدة!!.

وفي نفس السياق، قرأت  دراسة نقدية شمولية وتفكيكية لرواية الروائي المصري الكبير، ” صنع الله إبراهيم “، تحت عنوان : “أمريكانلي /أمري كان لي “، وما استرعى اهتمامي، بل تقديري المتواضع هو سعي هذا القصاص العملاق إلى وضع مرايا متعددة وفاضحة للمجتمع الأمريكي ومؤسساته الحاكمة، مرايا من شأنها أن تكسر الهيام العربي للمعبودة أمريكا كأرض للخلاص والديمقراطية وحقوق الإنسان، بإظهارها تحت شمس الحقيقة، في مستوياتها الرسمية  بشعة شرسة متسلطة، ومريضة ضائعة على المستوى الجماهيري.  ورب قول أفضح وأنفذ من خنجر، ورحم الله من أبدع مثلا مغربيا يقول : (صْبَرْ علا خْبِيْزَتْك حَتَّـا تـْطِـيْب).

وللحديث بقية.

ذة. فوزية حجبـي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>