من أغرب التحليلات السياسية التي يمكن تصنيفها في خانة عاهة الخذلان التي أصابت المثقف العربي كما المواطن العربي، تحليل بثته إحدى القنوات الفضائية لمحلل سياسي عراقي بارز، أبدى فيه استنكاره لما سماه بالتواجد المرفوض لفلول من “المقاتلين العرب” بأراضي الفلوجة، حيث اعتبرهم حجر الزاوية في تأزيم الأوضاع بالفلوجة بأعمالهم القتالية التي لم تلاق ترحيبا من لدن أهالي المدينة، الشيء الذي جعلهم يغادرونها ويتركون المقاتلين لمصير الإبادة على أيدي القوات الأمريكية.
كما اعتبر أن هؤلاء المقاتلين العرب والأجانب يعطلون بأعمالهم هذه، مسلسل الانتخابات العراقية المزمع إجراؤها في شهر يناير المقبل، الشيء الذي يذكرنا (وإن لم نكن نؤمن به) بالمثل المغربي “ما تدير حسنة ما يطرا باس”!!
وعودا على بدء، ولتفكيك حقل ألغام المصطلحات هذا، الذي زرعته قوات الاحتلال في الجسم العربي الإسلامي لتحيله إلى مجموعة من الرقع المتنافرة المتناحرة الميَسِّرة للاحتلال والاختراق، فإن إطلاق اسم ” المقاتلين العرب والمقاتلين الأجانب” من طرف الإدارة الأمريكية على المجاهدين الذين يغسلون عار تنكرنا لشقيقتنا المصابرة العراق، ليس بريئا البتة، والمستقصد به هو من جهة، الرأي العام الدولي لإقناعه بأن المقاومين هم مجرد إرهابيين ومجرمين، فسماهم المقاتلين العرب لإلصاق تهمة العنف بالعرب آليا، والمحصلة تسويغ كل همجية في استئصالهم، ووصفهم ” بالأجانب وبالعرب” لقطع لحمة التآزر التي تجمع بين العراقيين وإخوانهم من العرب والمسلمين، وبالتالي تفكيك خط المقاومة من الداخل بخلق عداء مصطنع بين أهالي العراق وإخوانهم الوافدين من أصقاع الأرض النائية (وفيهم الغربيين ) استجابة لنداء النصرة، وبالنتيجة توفير الاحتلال الآمن والمشروع للعراق من طرف قوات الاحتلال.
وإذ كانت هذه السيناريوهات الشيطانية لا محالة زاهقة بإذن الله سبحانه، كما جاء في السنن الكونية الربانية الحكيمة، فما يحز في النفس حقا هو أن يكون لنا مثقفون يعزفون نفس معزوفة الاستعمار، ففي الوقت الذي تجيش فيه أمريكا كوكتيلا عملاقا من الجيوش الأجنبية من كل القارات، مرة باسم البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ومرة أخرى باسم الإطاحة بصدام حسين، محيلة العراق إلى قطعة كفتة دموية، نجد مثقفينا الكرام يبخلون على الشعب العراقي المحاصر بحزمة من المجاهدين الغيورين، ويندمجون في خطاب الاستعداء ضد المجاهدين تحت مبرر عنفهم وإرهابهم للمدنيين الأبرياء (علما بأن تصفيات الأسرى ثبت في الكثير منها وجود عمليات مونطاج تقف وراءها المخابرات الأمريكية ومرتزقتها).
أفحلال على أمريكا أن تجمع كل الأجناس والألوان لمحاربة شعب أعزل في العراق وفي الفلوجة الخارقة الصمود، وحرام على العراق العزيزة على قلوب المسلمين أن تستنفر طائفة منهم للذود عن بقايا بقاياها؟ ويقولون لك إن هؤلاء الأجانب يعطلون المسلسل الانتخابي السلمي! وكأن الديموقراطية الأمريكية، الدموية الطعم في العراق استشارت الشعب العراقي في أية لحظة هو أو مجلس الحكم الانتقالي المنصب بأوامر عليا لا راد لقضائها…
بل ويطرح السؤال أصلا، هل يمكن استئمان ديمقراطية تأتي على ظهر دبابة، وهل يمكن الوثوق بديموقراطية لا يؤمن أصحابها بالديموقراطية جهارا عيانا، و إلا لكانوا تركوا الشعب العراقي يدبر شؤونه الداخلية ويعالج محنه لوحده، ويقيم ديموقراطيته على مقاسه الخاص دون حاجة إلى هذا الخراب المعمم؟..
إن من يرى الصور العابرة الملتقطة للفلوجة والموصل والرمادي وبغداد والتي لا يؤثث الكثير من فسحاتها إلا الأطلال، سيدرك حتما أن الانتخابات العراقية لن تغير من هذا الواقع شيئا، فقد فصلت الإدارة الأمريكية انتخابات ورئيسا أفغانيا على مقاس خياراتها ومصالحها، ومع ذلك لازالت تمسك برقبة الشعب الأفغاني محتلة كما كانت أيام طالبان. ثم إن أي مسلسل انتخابي لا يأخذ بالاعتبار الاحتلال الأمريكي كواقع “محمود ومرغوب” وإلى أجل غير محدود، فسيكون مصيره الوصم بالولاء للإرهاب ولسوريا وإيران وحزب الله والزرقاوي وبن لادن إلخ!!! ومن تم الاستئصال.
وفي نفس السياق، فمن المؤلم حقا أن يربط هذا المحلل السياسي العراقي حرب المجاهدين ضد الاحتلال بالرغبة في تصفية حسابات مع الإمبريالية بدأت بأفغانستان وتستمر في العراق؟!!
أو ليست هذه الإمبريالية هي التي دمرت العراق ونهبت تراثه ورملت نساءه وقتلت علماءه ودفعت العراقيين إلى الشرب من ماء المستنقعات؟ أليست هذه الإمبريالية هي التي مثلت بالجرحى المدنيين وبداخل المساجد وعرت إخوانه وأخواته وراكمتهم عراة، عورات فوق عورات (لا حول ولا قوة إلا بالله )، فما المطلوب أكثر من هذه الفضاعات ليسمى الذئب ذئبا والغاصب غاصبا والمقاوم مجاهدا؟؟؟
وحقا لم يكن عابثا ذلك المثل المغربي القائـل “عاونوا في حفير قبر أباه يهرب ليك بالفأس” وحول هذا المثل الحكيم سيكون حديثنا في حلقة قادمة بإذن الله.