افتتاحية – حَفَّارُو القبور!!


لقد خلق الله عز وجل الإنسان مفطورا على الشعور بالافتقار إلى قوة غيبية ـ غير مُدْرَكَة ـ يَستمدُّ منها العون والمَدَدَ في البأساء والضراء، ويشعر بالراحة والاطمئنان حينما يُفرغ همومَه ومكبوتاتِ ومكنوناتِ صَدْرِهِ أمام قدرتها اللامتناهية.

أما المؤمنون من بني آدم النبي المسلم فقد عرفوا اسم هذه القوة العظيمة من مصدرها وهو الله تعالى، عــن طريقين :

الأول : طريق العقل الذي يصعُب عليه أن يُنكِرَ وُجُودَ خالق لكل مخلوق، وصانع لكل مصنوع، وبديع لكل مبتدَع.

والثاني : عن طريق الرسل المؤيَّدين بالحجة والبرهان، الذين اختارهم الله عز وجل ليبلغوا للبشر -بصدق وأمانة، وبأدلة مادية وعقلية- إسْمَ هذه القوة غير المدرَكَة بالأبصار، وإن كانت تُدرك بالبصائر حتى لا يختلف الناس في اسمها أولا، وحتى تكون هذه القوة متفردة في اسمها ثانيا، بحيث لا يستطيع أي إنسان -مهمابلغ تَعْدادهُ- أن يتسمى ب(الله)، وحتى لا يُلعَب بمصير الإنسان عن طريق المتاجرة باسم هذه القوة ثالثا، سواء باختراع مسميات لها ما أنزل الله بها من سلطان، أو باختراع تعاليم لا تستقيم مع عقل سليم، أو ميزان قويم.

وهؤلاء الرسل كما يبلغون للبشر إسم “الله” يبلغونهم “صفات الله” المتفردة، ويبلغونهم أيضا “شريعته المستقيمة التي تتميز بالاستمرارية والخلود، والصلاحية المطلقة، والشمولية المطلقة، لتكون متفردة عن أهواء البشر كما تفرد الاسم والصفات.

المومنون من بني آدم ـ قديمهم وحديثهم ـ هُمْ على بينة من أمرهم في التديُّن بدينهم، وفي الاعتقاد بربهم، وفي صلاحية شريعة ربهم ومولاهم لكل زمان ومكان وإنسان، لسبب بسيط واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، هو : أن الله ربَّهم ومولاهم فوق الزمان والمكان، وفوق تصورات الإنسان، وفوق خيالات الإنسان، وفوق هرطقات وهذيان الإنسان المريض بالْخَبال، سبحانه سبحانه، فهو الذي لا يستطيعُ وصفه الواصفون، ولا يستطيعُ إدراك كُنهِهِ وذاتِهِ العارفون. فكيف يتطاول على مقامه الأسْنَى الحداثيون الخرافيون فيصفونه بالعجز والقصور، والجَهْل بمعرفة ما يصلح للانسان في هذا الزمان، زمان الجنون بمخترعات المصنوعات، مع أنها لا تتعدى نطاق المسَخَّرات التي أذن الله تعالى لها بأن تكون طَوْع عقل الإنسان شكورا كان أم جحودا، {وسَخَّرَ لَكُم ماَ في السَّمَاوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} (الجاثية).

ومن أين يغترف هؤلاء الذين تاه عقلهم، فأصبح عقلهم يحتاج إلى عقل، ونظرهم يحتاج إلى نظر؟ إنهم يغترفون من الذين سفهوا أنفسهم، وخسروا عقلهم ورشدهم الذين فتقوا في دين الله فتقا منذ قديم الزمان، فقالوا : “إن الله فقير ونحن أغنياء” وقالوا {يد الله مغلولة} وقالوا {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} وقالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} وقالوا {أرنا الله جهرة}.

هؤلاء هم أساتذة من ينتظرون بزوغ مولد المسيح المُخَلِّص في بلاد العم سام ليلتحقوا برَكْبِ الهُدى، فيمتطون صهوات الطائرات والدبابات والبوارج والصواريخ لتطهير الأرض من الأشرار، وإِحْلال أولاد الله الأَخْيَار مكان الأشرار الذين لا يستحقون أن تشرق عليهم شمس أو يبزغ لهم قمر، أو يضيء لهم نجم، أو تطعمهم أرض، أو يرضعهم ضرع، بل لا يستحقون حتى أن يكون لهم رَبٌّ يبثون إليه شكاواهم وهمومهم ويستغيثون به لقمع الكفرة والفجرة والظلمة الذين أكلوا شحمهم ولحمهم وامتصوا عروقهم.

المؤمنون من بني آدم يثقون الثقة الكاملة في ربهم، فهم لذلك فوَّضُوا أمرَهم كله إليه يفرض عليهم ما شاء، ويبتليهم بما شاء فهم سامعون ومطيعون، وصابرون محتسبون، ولقد وعدهم ربهم بظهور الدين وانتصاراته، فظهر وانتصر في عهد رسوله نوح، ورسله : إبراهيم، وهود، وصالح، وموسى، وشعيب، ويوسف، وعيسى،ومحمد، عليهم جميعا الصلاة والسلام، بل وعَدَ أتباع النبي الخاتم بالنصر والتمكين فانتصروا وتمكنوا من آسيا، وافريقيا، وأوروبا، وكوَّنوا حضارة فريدة أسعدت الإنسان والحيوان، وإن جحدها الناطق من الدواب والحيوان.

وعندما تخلى المؤمنون من بني آدم عن رسالة أفضل ولد آدم محمد ، وأصبحوا لخفَّةِ وزْنهم كالقصعة يتداعى عليها الأَكَلَةُ اللِّئام في مأدُبة اللئام، جاء الأخيار ـ بالشين والراء ـ من وراء البحار ليفترسوُا بلادَ وثرواتِ ومعادنَ ومتاحِفَ ومآثر الأحرار الأطهار الذين لم يعرفوا كيف يضعون ويصنعون لأنفسهم رؤوسا من الأبرار، فكانت النتيجة المُرَّة التي لا مناص لها، هي : غَلَبَةَ الفجار الأقوياء للفجار الضعفاء، الذين كانوا يُنْصَرون بالله عندما كانوا مَعَ الله، وعندما تخلَّوا عن رسالة الله تخلَّى الله عنهم تَخَلِّيَ ابتلاءٍ وامتحانٍ، لا ليستأصلهم ويُبيدهم، ولكن ليوقظهم ويرشدهم إلى الشرط الذي تخلَّوْا عنه {إن تَنْصُرُوا اللَّهَ} ليتحقق الجواب {يَنْصُرْكُمْ}.

إن الذين زحَفُوا على القَصْعة الإسلامية المقطَّعة الأوصال في مُفْتَتَح القرن الواحد والعشرين تحت يافطة صراع الحضارات، أو على الأصح رَفْس الحضارات… يَظُنُّون أنهم امتَلَكُوا إكْسِيرَ الخُلودِ عَلَى رَأْسِ قِمَّة القِمَمِ، فَرِحين بما عندهم من العلم الذي لا يتعدَّى ظاهرا من الحياة الدنيا، ناسين عجزهم حتى عن العلم بأنفسهم، فما بالك بأنفُسِ غيرهم؟ فما بَالُك برب الناس والأنفس، ورب المحيا والممات، ورب العالَم العُلوي والسُّفلي، ورَبَّ الدنيا والدِّين؟ لأن رَبَّ هؤلاء “الأخيار” بالشين والراء ـ لا عِلْم له بما وراء الدنيا، وما وراء الطغيان من نكبات، وما وراء الأفراح من أتْراح، وما وراء الحياة القصيرة من ممات وشقاء، وما وراء التكبر على رَبِّ الكون ورب المستضعفين من خِزي ولعنات….

فهؤلاء قد رتَعُوا رتْع الوحوش الكاسرة على الجيف المُنْتِنَة، ينتقمون من حضارة سادتْ قرونا، ويَعْلَمُونَ أنها سَتَسُودُ أيضا ـ عما قريب ـ إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، قالها إِلَهُ المومنين وربُّهُم رَغْما عن أنفِ رَبِّهِمْ الذي ينتظرون قدومَه في بلاد العم سام، وهَلْ يَغْلِبُ إِلَهٌ غائبٌ مجهولُ القدْر والصفة والقوة والعظمة إلها لَمْ يَغِبْ أبدا، ولن يغيبَ أبداً، إلها هو مَصْدَر النور والإلهام والحياة والعلم والعزة؟؟.

إذا كان رَبُّ هؤلاء غائبا ولا رُسُل له، فيكفي المومنين من بني آدم فخرا وأمَلاً أن يكون رَبُّهم بَشَّرهم على لسان رسوله الخاتم بالظهور والتمكن، قال  : “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأمْرُ ـ الدين ـ ماَ بَلَغَ اللَّيْلُ والنَّهاَرُ، ولاَ يَتْرُك الله بَيْتَ مَدَرٍ ولاَ وَبَرٍ إلا أَدْخَلَهُ  اللهُ هَذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإسلامَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ بِهِ الكُفْرَ” (ابن حبان).

وقال  : “مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ المَطَرِ لا يُدْرَى أوَّلُه خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ” (الترمذي). وقال أيضا: “بَشِّرْ هَذهِ الأمَّةَ بالسَّنَاءِ والدِّينِ، والرِّفْعَةِ والنَّصْرِ، والتَّمْكِين في الأَرْضِ”(أحمد وابن حبان).

أمة بهذا العلم بربها، وبهذا الفرقان المحفوظ بين يديها، وبهذه الشريعة الغراء، وبهذا العلم بالدنيا وتفاهتها، وبالعلم بالآخرة ونفاستها، وأمة بما تملك من وسائل النهوض الحضاري السريع، وبما لديها من مبشرات… أمة كهذه لا يمكن أن تموت أو تُقْبر لِمُجَرَّد أن معتوهين ـ في غفلة عن حراس الأمةـ هَدَّموا بعض الأطيان، وزَفُّوا بعض الشهداء للحُور العين، ظانين أنهم يُقْبرون هذه الأمة الضاربة في القدم والخلود منذ دعاء إبراهيم وولده إسماعيل عليها الصلاة والسلام، عندما قالا :{رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (البقرة).

أمة بهذا التاريخ، وبهذا الارتباط برب الكون والأمة لا تُقْبَرُ أبدا، ولكنهم لأنفسهم يحفرون القبور، فصناعتُهم مثلُ صناعة حفاري القبور، إلا أن هؤلاء المعتوهين جادُّون في إقبار حضارة الإنسان المادي الطاغي الجاهل. وعلى هذا :

- فالذين يهدمون البيوت على رؤوس النساء العجزة والأطفال، والذين يُجهزون على الجرحى، ويقتلون العزل في بيوت الله هم حفارو القبور للإنسان الميت بالكفر والضلالة.

ـ والذين يغتالون الشرفاء بالسم والمسدسات، أو بواسطة العملاء والخيانات هم حفارو القبور لحضارة متوحشة..

ـ والذين يعيِّنون الحكام بالرغم عن أنف الشعوب، والذين يرضون بهذا التعْيين، ويفرحون بأن يكونوا عجلة في عَرَبَة الجبّارين، هم حفارو القبور للشرف والعزة.

ـ الذين يحاولون أن يحرفوا القرآن المحفوظ،ومبادئه المحفوظة، وتاريخَ حضارة القرآن هم حفارو القبور للخسة والدناءة والسفاهة.

ـ الذين يحكمون الشعوب حكما بوليسيا قاهرا بمساندة الاستعمار، مسخرين في ذلك الكذب والتزوير للديمقراطية والحرية هم حفارو القبور للديمقراطية والحرية الممنوحَتَيْن.

على أي حال، فحفارو  القبور كثيرون في الشرق والغرب، وفي الداخل والخارج، إلا أن المؤكَّدَ عن يقين أن الأمة لا يحفر لها قبور، ولكن تُحفَرُ لها أسُسُ البناء الشامخ الذي سَيَيْنَعُ  ويَزْدَهِرُ عما قريب، {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعيداً ونَرَاهُ قَرِيباً} (المعارج).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>