إخلال اليهود بالمواثيق
كان لكثرة المعاصي التي اقترفها اليهود وتميزوا بها حتى إنهم {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}(المائدة 81)، أن ركبت في نفوسهم الميل إلى الغلو و الانغماس فيها،و الانصراف عن أوامر الشرع،و التشهي إلى الاعتداء على حقوق الآخرين من غير بني جلدتهم. و بالتالي الاستهزاء بالعهود و المواثيق المبرمة مع غيرهم و مع خالقهم. و كل ميثاق مع الله يعد ميثاقا غليظا، و الإخلال به يعد جرما عظيما يجر إلى تبعات غير محمودة العواقب. ولقد كان إعراض بني إسرائيل عن المواثيق فسوقا عن الصراط إلى ما أوقعهم في صراعات وتبعات استحقوا من أجلها لعن الله و أنبيائه ورسله.
قال سبحانه في حقهم: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}(البقرة : 27) . و قال كذلك : {و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} (الــرعد : 25). و كان بعد ذلك أنترتب عن هذا أن طبعوا بقسوة القلب .قال الحق سبحانه : {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية}( المائدة :13). و لم يكن إمعانهم في الغي و الاستزادة منه إلا بقساوة قلوبهم .فهي التي حجبت عنهم معرفة حقائق الشرع التي توالت به عليهم الأنبياء والرسل، و التنكر لهم بل و الاعتداء عليهم بالتنكيل والقتل.و في مسند الإمام أحمد أن : >أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيا<(1)
المواثيق : أنواعها ونقض اليهود لها
فما هو الميثاق؟ و ما هي أنواعه؟ و لماذا نقض اليهود المواثيق مع الله و مع غيرهم من البشر؟
الميثاق : العهد المأخوذ الموثق و المشهود بين الإنسان و ربه أو بين الإنسان و أخيه الإنسان في أمور الدين و الدنيا،باتباع أمر أو الامتثال لنهي. فلا يمكن الخروج عنه بالنكث و الغدر،و لا إنهاؤه إلا بميثاق آخر يلغيه أو ينسخه .
و المواثيق تأخذ صفة الإلزام و الوجوب فهي على سبيل الاستيثاق و الإحكام،و الامتثال لها يكسب صاحبها الثواب إن كانت في الأمور المشروعة الصالحة، كما يعاقب تارك الوفاء بها.
و المواثيق أنواع، و أشدها و أغلظها ما كان بين العبد و خالقه، أو ما تتوقف عليه مصالح وحقوق العباد.
أ-مواثيق الله على عباده :
ومواثيق الله تعالى على عباده ثلاثة أنواع :
النوع الأول : ما أخذه الله تعالى على آدم عليه السلام و على ذريته بإقرار ربوبيته و ألوهيته. قال الحق سبحانه : {و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}(الأعراف : 172).
قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله – ما يفيد في هذا : {إن الله خلق الأرواح دفعة واحدة و أخذ عليها العهد.ثم و ضعها في الأجساد التي خلقها من طين}(2).
و كل من آمن بالرسول الأعظم من قبل يدخل في هذا الميثاق،و يعد عقده عاما لمن بعده في كل ما جاء على لسانه من التشريعات الإلهية.
النوع الثاني : ما أخذه الحق سبحانه على الأنبياء بأن يقيموا الدين الذي هو الإسلام، ولا يتفرقوا فيه.
قال الحق سبحانه : {و إذا أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنن به ولتنصره قال أأقررتم و أخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}( آل عمرانة : 81).
و قال كذلك : {و إذا أخذنا من النبيئين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم و أخذنا منهم ميثاقا غليظا}( الأحزاب : 7).
و النوع الثالث : ما أخذه الله على من ورثوا علم النبوة من العلماء. لأن الأنبياء لا يورثون دينارا و لا درهما و إنما يورثون علم النبوة و هذا العلم مبين للحق.فلا يجوز لهم بأي حال أن يكتموه أو يغيروه.
قال : >يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله،ينفون عنه تحريف الضالين و تأويل المبطلين< (3).
هذه عقود خاصة، من صنف العقود الغليظة.
ب-المواثيق العامة :
أما المواثيق العامة،فهي مواثيق الإنسان مع أخيه الإنسان.فتدخل فيها عقود المعاملات و عامة الخدمات الاجتماعية،و كذا وظائف خدمة الأفراد أمتهم و وطنهم،لأن ذلك فيه إلزام بالعمل بصدق وإخلاص و أمانة.
ومنها الميثاق بين الإنسان و نفسه بعدم الاستجابة للشهوات الضارة،و الاندفاع الجامح المخل و الخارق لحرمة الشريعة المحمدية السمحة،فقد بينت الحلال و الحرام و المفاسد والمصالح.
ولما كانت النفس أمارة بالسوء، بما ركب فيها من نوازع الأهواء،و الميول و القوى المحصلة للذات،كان الصالح من الناس يتعهدها بالتطهير، حيث يعاهد نفسه على عدم الاستسلام لما تمليه من رغبات تضر بدينه و دنياه قال سبحانه : {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي}(يوسف. :53).و قال كذاك : {قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها}(الشمس : 9- 10).
و الإسلام أصل و أساس لكل هذه المواثيق والعقود، فقد قال الحق سبحانه : {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}(المائدة :1).
و قد عهد للأمم قبل الإسلام أن تفي بعهودها ومواثيقها، فقد قال الله لرسوله الكريم : {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}(فصلت : 43).
ج-نقض اليهود للمواثيق :
أما بنو إسرائيل فقد كانت طامتهم و مصيبتهم الكبرى في نقض هذه المواثيق. و قد أخذ الله عليهم عهد الالتزام بها.بل إن الحق سبحانه ذكرهم بآلائه و نعمه عليهم،و ربطها بها،و طلب منهم الشكر عليها. و هي نعم كثيرة و عظمى لا يجحدها إلا فاسق أو ظالم.فمنها أنه سبحانه أنزل إليهم كتبا ترشدهم و تبين لهم الطريق السديد في ظلمات حياتهم،منها الزبور و التوراة و الإنجيل. وبعث فيهم أنبياء و رسلا .و جعل فيهم ملوكا و أئمة يهدون بأمر الله، ثم نجاهم من فرعون الطاغية الذي قتل أبناءهم و استحيى نساءهم.و أنزل عليهم المن و السلوى يأخذونها بيسر و دون مشقة. و قال لهم : {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم و إياي فارهبون}(البقرة. : 40). و مع كل هذا الاستدراج المصبغ بالرحمة و الرأفة و النعم فقد أشربوا في قلوبهم الاستكبار و التنطع و في نفوسهم العناد والزيغ، و أخلوا بجميع مواثيقهم مع الله والرسل والأنبياء الذين توالوا عليهم تترا.
و أنواع المواثيق التي نكثوها أو تحايلوا عليها كثيرة،حتى إن الدارس لتاريخهم يعجب لهذه النفوس الرعناء و القلوب المتحجرة، كيف أنها لا تقيم أي اعتبار للخالق سبحانه و لا لرسله و لا لعامة البشر، و هي ماضية قدما في إفسادها في الأرض، تمكر بالخلائق و الأمم، و تتمرد على كل المواثيق، رغم كثرة رسلهم و أنبيائهم و إنزال أعظم المعجزات لهم و تخصيصهم ببعض النعم التي لم تعط لبشر مثلهم .
و لهذا قال الحق سبحانه في نقض مواثيقهم مع الله :{الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل و يفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}(البقرة :27).
و التمادي في الغي هو استكبار منهم،حتى إنهم أنكروا أن يكون الله قد أخذ عليهم ميثاقا. و قد قال مالك بن الصيف أن رسول الله ذكرهم بالميثاق في الإيمان به فقالوا له : (و الله ما عهد إلينا في محمد و ما أخذ علينا ميثاقا) فأنزل الله تعالى : {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يومنون( البقرة : 100).
و هذا دليل على عدم التزامهم بما جاء في التوراة، فهي كانت لهم نورا و هدى في الحياة الدنيا و وردت فيها البشارة بسيد العالمين محمد .
كيفية أخذ الميثاق على اليهود
و يتساءل الدارس لتاريخهم : كيف أخذ عليهم الميثاق ؟
فقد أمرهم الله تعالى أن يأخذوا بما ورد في التوراة بإرادة قوية و عزيمة ثابتة، ورفع فوقهم الجبل دليلا و ترهيبا كالظلة، حتى ظنوا أنه واقع بهم.و مع ذلك أعرضوا عنها و تولوا عما فيها من أحكام و توجيهات.قال الله تعالى : {و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة و اذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم و رحمته لكنتم من الخاسرين}(البقرة : 63) .
أ-ميثاق الإيمان والإخلاص :
من هذا يتبين أن الله تعالى أمرهم بالإيمان بكل ما ورد في التوراة، و الصبر على العمل بتعاليمها بجد و دون تهاون أو تقصير، لأن ذلك يحقق لهم الثبات و العلو في الدنيا، والنجاة و الفوز في الآخرة. قال سبحانه : { إذ نتقنا الجبل فوقهم كأـنه ظلة و ظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}(الأعراف : 171).
و أخذ الله عليهم ميثاق الإخلاص في العبادة لله وحده و عدم الإشراك به :
وهذا هو أغلظ المواثيق على الإطلاق في كل الرسالات السماوية،لأنه أساس التوحيد . و به يفرد الحق سبحانه بالعبودية المطلقة. بل أضاف إلى هذا الميثاق توابع أخرى تتعلق بالبشر الآخرين من إحسان للوالدين و لذي القربى و اليتامى والمساكين،و أن يتعاملوا مع الناس إلا بما هو حسن. و حثهم على الحرص على إقامة الصلوات لأن ذلك يثبت الدين في نفوسهم و يجعلهم في اتصال دائم مع الله. و أمرهم بإيتاء الزكوات لأن ذلك يطهر أموالهم و يزكيها.
و لكن أكثر بني إسرائيل تولوا عنه معرضين إلا فئة قليلة صبرت على تعاليم التوراة و أقاموها قبل تحريفها و تبديلها.
قال الحق سبحانه : {و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله و بالوالدين إحسانا وذي القربى و اليتامى و المساكين و قولوا للناس حسنا و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم و أنتم معرضون}(البقرة :82).
ب-ميثاق عدم سفك الدماء :
و أخذ الله عليهم ميثاق عدم سفك دمائهم وعدم الاعتداء على حرمات الضعفاء و إخراجهم من ديارهم و تشريدهم .فما كان منهم إلا النكث والنقض للميثاق.فكان لهم الخزي في الدنيا و يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب.قال الله تعالى : {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم و لا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم و أنتم تشهدون-83-ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظهرون عليهم بالإثم و العدوان و إن ياتوكم أسرى تفدوهم و هو محرم عليكم إخراجهم أفتومنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا و يوم القيمة يردون إلى أشد العذاب و ما الله بغفل عما يعملون-84} البقرة.
قال القرطبي في تفسيره: إن الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود : ترك القتل و المظاهرة والإخراج و فداء أسراهم،فوبخهم الله على ذلك .فقال : {أ فتومنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}(4).
فهم عرفوا التوراة جيدا،و فهموا أحكامها فأخذوا بعضها و ردوا بعضها،فلحقهم الخزي في الدنيا و العذاب في الآخرة.
ج- بيان أمر الرسول :
ومن أهم المواثيق كذلك،بيان أمر الرسول محمد و عدم كتمان أمره و دعوته و نبوته. قال سبحانه : {و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون}(آل عمران :187).
و هكذا أنكروا نبوة محمد ،و كتموا ما أمرهم به الحق سبحانه في أمره : {قل أرأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}(الأحقاف : 10).
و الشاهد في الكتاب العزيز هو عبد الله بن سلام الذي شهد أن محمدا و رد ذكره مكتوبا في التوراة. و هذا ما قاله ابن عباس و قتادة : >إنه عبد الله بن سلام< (5).
ذ. عبد القادر بنعبد الله
————-
1- مسند الإمام أحمد 1/407.
2- الفوائد.ابن قيم الجوزية .
3- رواه الترمذي في سننه.
4- تفسير القرطبي 2/22.
5- تفسير ابن كثير 4/168.