افتتاحية – بَيَّاعُو الأَوْطَانِ وَالأَدْيَانِ


المعروف دائما بين الناس أن العَبْدَ لا يعصي أمْرَ سيده، وإذا كانت العبودية بمعناها القديم انتهَـتْ، وكذلك السيادة بمعناها القديم، أي رجُلٌ اشترى عبدا فهو سيدُهُ ومولاه، فهذه أيضا انتهتْ بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ولكن العبودية بالمعنى الجديد حَلَّتْ مَحَلَّ العبودية القديمة، أي أنَّ رجُلَ السلطة يعتبر كُلَّ من هم تحت ولايته بمثابة العبيد، والحاكم يعتبر الشعبَ كله عبدا له، أي لا حق له في الاعتراض أو التبرُّم والسخط والامتعاض والانتقاد للسياسة التي ينهجها، وإلا كان مصيره السجن أو التعذيب والتشريد، أو الإعدام والشنق.

وإذا كانت الشعوب المستضعفة قد ابتُليت بمسؤولين وحكام لا يستمعون إلا لرأيهم، ولايروِّجون إلاَّ لهَواهُمْ، فإن الله سَلَّطَ عليهم الإلهَ الأكْبَرَ ليحُوزهم إلى زريبته بالعصا الغليظة التي لا تترك لهم مجالا للتفلُّتِ من قبضته، وإلا زُعزعَتْ عروشهم، وكُسِّرَتْ كراسيهم، وخُرِّبَتْ قصورهم.

فمبدأ السمع والطاعة إذن مبدأ متداوَل، متعامَلٌ به أُسَرِياًّ ومحليا وإقليميا وعالميا، لكن الفرقَ بين المسلمين وغيرهم، هو أن المسلمين يعتبرون أنفسهم عبيدا لله تعالى وحده لا شريك له، وغيرهم يُعَبِّدون أنفسهم للهوى، والشيطان، والسلطة ، والمال، والشهوة، والإنسان المُؤلَّه، والحزب المؤله، والنظام المؤله. أفيكونُ غيرُ المسلمين منطقيا مع نفسه بحيث لا نجدُه يعصي فرعَوْنه سيدَه ومولاه -مع عَجْز فرعونِه وجَهْلِه- بدون سَنَدٍ شَرْعِي مُوَثق، أو سَنَدٍ قانوني مُحَقَّق، ويَعْصي المسلم مَوْلاه العزيزَ القوي؟! وهو القائل له : {وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلاَ مُومِنَةٍ إذَا قَضَى اللهُ وَرَسولُهُ  أن تكون لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهمْ} (الأحزاب : 36).

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْمُومِنِينَ إذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أن يَقُولوُا سَمعْنَا وأَطَعْنَا}(النور : 50).

إن المسلم -بمقتضى إيمانه بربِّه، وبمقتضى اختيارِه أن يكُونَ عَبْداً لله- مُلْزَمٌ :

1-  أن يطيع ربَّهُ طاعة مطلقة لا تَلَجْلُجَ فيها ولا اضطراب.

2-  أن يخلص لربه الطاعة في السر والعلانية.

3-  أن يعتقد اعتقادا جازما أن ما يأمُرُه به ربه هو الخيرُ كله، والحقُّ كله، وأن تنفيذه هو الفلاح كله.

4-  أن يتوكَّل توكُّلا مطلقا على ربه، ليؤمِّنه من كل خوف، ويدافعَ عنه، ويكفيه شر الخلق كلهم بما فيهم السَّاطون على حقوق الله والعباد، والعتاة المتجبرون الطغاة.

فماذا يريد عُبَّادُ الهَوَى من عُبَّادِ الله؟!

يريدون منهم أن يسلخوا جلدَهم، ويمسخوا ذاتَهم ويزيِّفُوا مبادئهم وثوابت دينهم، فإذا قال الله تعالى {ولاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا} يقولون هم : هذا كبْتٌ واعتداءٌ على الحرية الجنسية، وإذا قال الله لهم في الخمر {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} يقولون هم : هذا مشروب روحي ينعش الأبدان والأرواح. وإذا قال لهم الله تعالى لهم  {الرِّجَالُ قَوَّامُون على النِّساء} يقولون لهم : هذا تمييز عنصري، وتسييدٌ ذكوري. وإذا قال الله تعالى {فَانْكحُوا مَا طَابَ لَكُمْ منَ النِّسَاء}يقولون لهم : لماذا لا يقال للنساء كذلك : فانكحن ما طاب لكن من الرجال؟! وإذا قال الله تعالى لهم : {لاَتَتَّخِذُوا  بِطَانَةً مِنْ دُونِكُم} يقولون لهم : الثقة الحقيقية لا تكون إلا في الأجنبي، أما الشعوب فلا يُؤْمَنُ غَدْرُها. وإذا قال الله تعالى لهم : {وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} يقولون لهم : كيف نقاتل من احتل أوطاننا وخرب ديارنا، ويَتَّمَ أبناءنا وهو ما فعل ذلك إلا لتحضيرنا وتعليمنا الديمقراطية التي ليست عندنا، بل أكثر من ذلك ما جاء إلا لتعليمنا دينا جديدا كله تسامحٌ  وتعاطفٌ وتراحمٌ، يطلب منك شيئا واحدا لتَنْعَمَ بهذا التسامح، وهو ألا ترفع راية العصيان أبدا، سواء أخَذَ منك صاحبُ الدِّين الجديد الأرضَ، أو البحرَ، أو الثروةَ، أو الحرية، أو الدِّينَ، أو العرضَ، فذلك لا يُهِمُّ، المهم أن يبقى صاحب الدين الجديد راضيا مطمئنا ولو أخذ منك كل شيء، ولم يُبْقِ لك شيئا، فيكفيك رضاه.

أهذا دينٌ؟! أهذا دينُ الحق أم دينُ الأهواء؟! أهذا دين يبني الإنسانَ المستحِقَّ للاستخلاف في الأرض، والائتمان على مصالح الإنسان؟!

هذا ليس دينا بالقطع، ولكنه في نظر أصحاب الأهواء يعتبر دينا متفتحا، يُوائم بين الكفر والإيمان، بين الصدق والكذب، بين الإخلاص والنفاق، بين العفة والفسوق، بين الظلم والعدل، بين الحق والباطل… إلى غير ذلك من المُوَاءَمَاتِ التي تجعل الانسان كُتلةً من المَسْخِ والعَفَن، ينتظر من الله الخَسْفَ والقَذْفَ المتتابع، نسأل الله السلامة والعافية.

أليس هذا الدينُ المزيَّفُ هو الذي انْتَهَجَهُ وتديَّن به أصحابُ الأهواء الذين سبقونا فاستحقوا لعنة الله تعالى في الدنيا والآخرة {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وفَرِيقاً تَقْتُلُونَ. وقالوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُومِنُون}(البقرة : 87).

فما بالُ كبار قومنا : فكرا، وتنظيرا، وجدالا، وطُولَ لسان لا يَمَلُّون من التبشير بهذا الدين الجديد؟ أغَيْرَةً على الدين وقد زَيَّفُوه وباعوه بأبخس الأثمان؟ أم غيرة على الأوطان وقد هَلَّلُوا لمن ابتَلَعَها، وعابُوا من يدافع عنها بالسيف والسِّنان؟!

فهل يفكرُ هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم من كبار المفكرين في مراجعة أنفسهم، ومراجعة فكرهم، ومراجعة جُموحهم الحِقدي على الاسلام وأهله، لعلهم يُبْقُون على شيء من الاحترام لأنفسهم وعقولهم. فما هذه البساطة في الفكر الذي يَجْعَلُ البعضَ من هؤلاء يشكِّكُ في صِدْق الله وصِدْق الرسول ولا يشكك أبدا في قول أساتذته المُفْلسين فكرا ومنهجا؟ أوْصَلَتْ السذاجة بهؤلاء إلى درجة أن يوضع الفكر الإنساني نِدّاً للدين الرباني، والوعد الرباني، والمنهج الرباني، والتشريع الرباني؟!

إنها الغباوة المتلفعة بدِثار الفلسفة المهترئة التي يظن أصحابها أنهم بها سيوقِفُون موجة الصحوة الإسلامية الزاحفة، وبها سيحررون الأوطان من نعمة الإيمان، ورحمة الإسلام، مع أن قدرهم لا يَعْدُو الوقوفَ والاصطفاف في طابور بَيَّاعي الأوطان والأديان منتظرين زَمنَ الخِزْيِ والهوان.

{أولَئِكَ الذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى والْعَذَابَ بالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}(البقرة : 174).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>