عيد بلا..


اعتدنا أن نزوره صبيحة كل يوم عيد، نصل إلى داره حيث يقيم، قبل وصوله من المصلى ، فنتجاذب أطراف الحديث، ونتذاكر أيام رمضان ونستحضر أحوال الدنيا من غلاء الأثمنة وكثرة اللصوص، وازدحام الطريق بالمارة والسيارات، وتهافت الناس على السلع والبضائع. . . ويلتم الجمع والشمل، وتغص جنبات البيت بالضجيج والفكاهة والضحك، ويقدم الشاي المنعنع الممزوج بنسيم البادية وصفاء طبيعتها ونحن نرتقب طلعته البهية. يطل فجأة بعمامته البيضاء وصوت عكازه الذي يعصف الأرض عصفا، فلا تسمع همسا ولا أمتا. فنسرع إليه ابتدارا نقبل يديه الغليظتين الخشنتين. ويحتضننا جميعا: مرحى بأحفادي. . . ويفرح بمجيئنا. . . ونتبع مشيه السريع الخطو إلى أن يصل باب الدار فيجلس حيث فراشه الوثير بركن الدار،  السبحة بيمينه، والتيمم والعصا بجنبيه. . .

يجلس ويسند ظهره إلى وسادته البيضاء اللون. والكل واجم كأن الطير فوق رؤوسهم يترقبون كلامه وحديثه،  ويتلقوه بشغف وتلذذ، ولا أحد يستطيع أن يقاطعه أو يعارض كلامه. أما نحن الأطفال فننبه على السكوت التام في حضرته وكأننا في صلاة عيد ثانية .

ننصت إليه سويعات دون أن يتسلل إلينا الإعياء أو الملل، وهو ينثر علينا، مما جاد عليه به رب العزة من فصيح الكلام وحكمة المقال.

وكان أكثر حديثه عن الفلاحة وأحوال الماشية والأرض، ولا يتعداه إلا إلى أحوال  إيران والعراق والحرب الطاحنة التي أتت على الأخضر واليابس فجعلته كالهشيم

المحتضر. وما يزال أبناؤه وحفدته يلقون إليه السمع، وإن كان قد بلغ من الكبر  عتيا وفقد حبيبتيه، وكان سر الاحتفال به هو عظمة صوته، فكان جهوري الصوت  يبلغ به الأذان الصم ويفتح به القلوب العمي.

كما العادة، انتظرنا وصوله طويلا، التففنا حول فراشه الذي لم يستطع أحد أن  يقعد فيه، وإن كنا من قبل نتسارع إليه – نحن الحفدة – إذا ما أخلاه بالخروج، ونحاكي قعدته وجلسته وصوته ناهرين من حولنا. .

خيم السكون المطبق على البيت الواسع. . . وغرق الجميع في غيابات الذكرى ، فهذا يحكي لنا عن طفولته المزدانة بالأقاصيص والأساطير، وذلك يحدثنا  عن شجاعته النادرة، وتلك تخبرنا عن بُكُوره للعمل وشربه ومأكله وملبسه ومشيه  ومنامه. . . لم تستطع حينذاك الدموع المغرورقة في الأعين أن تمكث طويلا  لتهم بالنزول، ويجهش الجميع بالبكاء بصوت مخنوق: رحمك الله يا “باالهواري”

سمعنا على إثره صرخة مولود جديد تهللت له أسارير وجوهنا، لقد جاء من يكون خليفته ويحمل اسمه وعكازه ويحكي أيامه للبنين والحفدة .

ذ. محمد بن الصديق

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>