قضايا فكرية : الدفاع الإنساني من منظور قرآني حقيقته ووظيفته


حقيقته

الدفاع أو المدافعة لغة مصدر دافع الرباعي وهو يفيد المشاركة في الدفع الذي أصله “الضرب باليد للإقصاء عن المرام… وهو ذب عن مصلحة الدافع”(1) وقد يفيد المبالغة دون المشاركة.

وهو على هذا المعنى في الاصطلاح القرآني في نحو قوله تعالى : {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} إذ ما يراد به ما “جعل الله في الانسان (من) القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه… والقوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه، (لأجل) استبقاء بقية الأنواع، لأن الإنسان يذب عنها لما في بقائها من منافع له”(1) ولذلك عقب ابن عاشور على قوله تعالى {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض…} بقوله والدفاع مصدر دافع الذي هو مبالغة في دفع لا للمفاعلة(2). إذ الآية في معرض الامتنان أي لولا وقوع دفع بعض الناس بعضا آخر بتكوين الله وإبداعه قوة الدفع وبواعثه في الدفع لفسدت الأرض أي من على الأرض واختل نظام ماعليها”(3).

ويستفاد من خلال هذا المفهوم القرآني لمصطلح الدفاع أمران :

الأول : أن محرك هذا الدفاع قوتان : شاهية وغاضبة ويراد بالأولى ما أودع الله في (الإنسان) من إدراكات ينساق بها، بدون تأمل أو بتأمل، إلى  مافيه صلاحه وبقاؤه كانسياق الوليد لالتهام الثدي فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد، ويسمى ذلك بالقوة الشاهية”(4) ويراد بالثانية “ما أودع الله في الانسان من إدراكات يندفع بها إلى الذب عن نفسه، ودفع العودي عنه، عن غير بصيرة، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه بمجرد الشعور بما يهجم عليه من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع، ثم تتوسع هذه الادراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر ابتداء بإهلاك من  يتوقع منه الضر، ومن طلب الكن، واتخاذ السلاح ومقاومة العدو عند توقع الهلاك، ولو بآخر ما في القوة، وهو القوة الغاضبة(4).

الثاني : أن استناد الدفاع الإنساني إلى هاتين القوتين يجعله مندرجا ضمن قانون الدفاع العام ذلك أن كلتيهما تعمان سائر الموجودات بحيث تنساق أطفال الحيوان مثلا إلى الأثداء والمراعي ابتداء وبغير تأمل، ثم تسعى بعد ذلك إلى جلب النافع الملائم عن تعود واكتساب، وذلك بموجب القوة الشاهية، كما تسعى إلى دفع المنافر مما يتوقع منه الضرر بوعي أو بغير وعي وذلك بمقتضى  القوة الغاضبة.

ويبقى القصد من هذا الدفاع العام عند سائر الموجودات هو إرادة البقاء قال ابن عاشور”وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمزيد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها، وقد عوض الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقل والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضررا، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به، وهو المعبر عنه بالاستعداد، ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على بقاء الآخر فهذا ناموس عام(5).

على أن المراد بالبقاء إنما هو البقاء النسبي ذلك “أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس، وأنواع، وأصناف، خلقها قابلة للاضمحلال وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده ولذلك نجد قانون الخلفية منبئا في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلا وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافا عن الأفراد عند اضمحلالها، وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان، والبذر في (النبات)، والنضج في المعادن والتولد في العناصر الكيماوية، ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أو ل دليل على أن موجدها قد أراد بقاء الأنواع، كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة، لاختلال أو انعدام صلاحيتها”(5).

وأصل الدفاع الإنساني بهذا المفهوم القرآني كليات يستمد منها حجيته منها قوله تعالى “ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره إن الله قوي عزيز وقوله عز وجل وهو أرقى الكليات المؤصلة لهذا المفهوم “ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين”.

والكليتان معا تدلان بالأصالة على حكمة المدافعة بين الناس، وتقع أخراهما موقع التذييل الذي يراد به تعميم الحكم بعد إناطته ببعض الأفراد، ذلك أن درء الفساد عن الأرض الذي هو الغاية من المدافعة ـ على اصطلاح القرآن ـ قد يقع بالحرب باعتبارها أرقى أشكال الدفاع كما هو الحاصل في قصة طالوت وجالوت الواقعة قبل الآية، كما قد يقع بغير الحرب مما هو من صور الدفاع “نحو المدافعات الفكرية القائمة اليوم، والتي ينبغي أن تحسم من قبل أهل القرآن بمنهج القرآن دون غيره أي بالحكمة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن، عسى أن يُهتدى فيها للتي هي أقوم،  والآية عموما تكشف عن حكمة تاريخية وحقيقة اجتماعية بكر لم يهتد إليها أحد قبل نزول الآية، قال ابن عاشور”ذيلت هذه الآية العظيمة كل الوقائع العجيبة، التي أشارت بها الآيات السالفة لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم ومضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان وحكمة من حكم التاريخ ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية، وقبل إدراك ما في مطاويها”(5) مما تختزنه في إيجاز بليغ من وظائف الدفاع الإنساني، المركزة في قوله تعالى {لفسدت الأرض}.

وظيفته

لم تقف وظيفة الدفاع الإنساني عند حد إرادة البقاء، وإن كان ذلك قاسما مشتركا بين أنواع الموجودات وأفرادها بمقتضى ناموس الدفاع العام كما سبق. وإنما تجاوزت ذلك إلى حفظ هذا البقاء وحمايته من كل ما يخل بصلاح الأكوان والعمران من أشكال الفساد، ولذلك كان معنى قوله تعالى {لفسدت الأرض} ـ سواء أريد به “فساد الجامعة البشرية، كما دل على تعليق الدفاع بالناس، أي لفسد أهل الأرض. (أو أريد به) فساد جميع ما يقبل الفساد فيكون في الآية احتباك. والتقدير: لولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض. أي من على الأرض ولفسد الناس”(6). إلا على المعنى الوظيفي للدفاع الإنساني. ذلك أن الانسان هو الميهمن بما زوده عز وجل من أدوات على بقية الموجودات، فكان بذلك عالما بما في أنواعها من الخصائص وبما في افراد نوعه أيضا من الفوائد(7). وبهذا استحق مقام الخلافة عن الله في الأرض حفظا لصلاحها.

ولما كان معظم الفساد الواقع في الأرض جاريا على يد الإنسان بمقتضى قوله عز وجل {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} وكان في فساده هلاك العمران بموجب قوله عز وجل {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} كان لابد للدفاع الإنساني ـ على مصطلح القرآن ـ أن يتجه إلى توقيف أسباب هذا الفساد عن الامتداد. وإنما يتفجر الفساد من القوة الشاهية التي لو تجاوزت حدها الطبيعي “لاشتد طمع القوي في إهلاك الضعيف لاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيرها فابتزها منه… ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضا. وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره وكل قوي على ضعيفه، فيهلك القوي الضعيف ويهلك الأقوى القوي وتذهب الأفراد تباعا… حتى لا يبقى إلا أقوى الأفراد… (فتعوزه) حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه، وكان يجدها في غيره… كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض، أو من نوع آخر كحاجة الانسان إلى البقرة فيذهب هدرا(6).

وإنما يلحق الفساد القوة الشاهية بحكم تطلب اللذات العاجلة الآنية، وجنوح أكثر النفوس إلى تحصيل المفاسد، فيصير ذلك مع الاعتياد فيها كسبا. لا تراعي معه إضرار غيرها من الحرث والنسل فكان لا بد من الدفاع الذي يعيد الأمور إلى نصابها والأرض إلى صلاحها. ولا يتم ذلك إلا بالقوة الغاضبة التي تسعى إلى كبح جماح شهوة القوي، حتى يلقى المشقة في جلب ما يبتز من منافع غيره فيعتريه اليأس والسأم. قال ابن عاشور وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي ـ وهو ظاهرـ وسلامة الضعيف لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع، سئم ذلك. واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة.

وإنما كان الحاصل هو الفساد، لولا الدفاع، دون الصلاح لأن الفساد كثيرا ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة القصيرة الزمن. ولأن في كثير من النفوس أو أ كثرها الميل إلى مفاسد كثيرة، ولأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها، بخلاف النفوس الصالحة. فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها وانتشارها فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات. فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين لأسرع ذلك في فساد حالهم ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت”(7).

وبهذا يتضح أن الدفاع الإنساني الذي أراده البارئ عز وجل إنما هو الدفاع القائم على مبدأ “البقاء للأصلح” إذ الأصلح مضغة يصلح بصلاحها جسد الكون كله. ومن ثم كانت “الآية مسوقة مساق الامتنان. فلذلك قال تعالى {لفسدت الأرض} لأنا لا نحب فساد الأرض في فسادها ـ بمعنى فساد ما عليهاـ اختلال نظامنا وذهاب أسباب سعادتنا. ولذلك عقب بقوله “ولكن الله ذو فضل على العالمين”(8).

………………….

(ü)خريج وحدة الفتوى والمجتمع ومقاصد الشريعة شعبة الدراسات الاسلامية  مكناس

1- نفسه 2/502      //   2- نفسه 2/502

3- نفسه 2/500/501      //  4- نفسه 2/501

5- نفسه 2/501      //   6- نفسه 2/503

7- نفسه 2/502        //    8- نفسه 2/503

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>