ولا بأس أن نورد نماذج من الخطاب الأدبي مستقاة من صفحات الرسائل، للتمثيل وليس للحصر، لنحث القارئ على استجلاء الصور والمعاني الأدبية، أثناء التمعن في فكر النورسي:
< في مطالعته لسريان ذرات الأشياء إلى حدود معينة تحقيقاً لفوائد وثمرات، يتيقن من ضرورة آمر يأمرها، علمه محيط، ينجلي في القَدَر، فينعكس في مقدار، يصير قالباً..” كما يأمر القالبُ الذهبَ الذائب بلسان حديدٍ، وينهى بـ: لا تَسِلْ واستَقِرْ! فما عيَّنَته لك معاطفي وتلافيفي المصنوعة، لِحكَمٍ!”(1).
< يُنبهُ إلى غرائب ما أودع الله تعالى في ماهية الإنسان الذي لا تسعه الدنيا فيضجر من ضيقها كالمسجون، مع أن خردلة وحجيرة وخاطرة ودقيقة تسعه حتى يفنى فيها:” فإن في كل شئ جهة من عدم التناهي يطيق أن يغرقك، ولا يضيق عن بلعك. فانظر إلى مرآتك كيف تغرق فيها السماء بنجومها!”(2).
< يُفَطِّن النورسي إلى أن “آية النظام في سطر الميزان من صحيفة الحكمة” المتجلية في الكائنات تدل على وجود مسبحين من غير الإنسان والجان. هذا النظام الظاهر بزينتها وزخرفها في النباتات والحيوانات (مثلاً)، “وأكثرها لا تشعر بما أودع في أنفسها من المحاسن الرائعة واللطائف الفائقة. فليست تلك اللطائف والمحاسن لحملتِها البُهْمُ العُجْمُ، بل ما هي إلا لغيرها: السميع البصير.. ومنها إلى ما لا يحد و لا يعد”(3) فيستنبط بحسه الرهيف أن هذه الزينة التي لا يدري بها صاحبها، إنما هي لغيرها. فوجه منه يتوجه إلى خالقها وبارئها السميع البصير، وأوجه إلى مسبحين من ذوي الأرواح في الكون من غير الثقلين نجهلها نحن، ويدل عليها هذا الحس المرهف! فلا عبث في خلق هذا الجمال والحسن.
< ويطلق النورسي بتحكمه في الجناس والمقابلة والإيجاز والمجاز وفنون الكلام، جملاً بمعان لطيفة عالية تصلح أن تسير مثلاً في الناس. فيقول: “في انكسار الجنّة وخَفْضِها، انفتاح الجَنّة وفتحها”(4)، مشيراً إلى أن كسر “الجيم” في “الجنة” وخفضه، كسر للشياطين ومكايدهم، وأن فتح الحرف نفسه في الكلمة انفتاح للجنة وفتح لها. كذلك، يقول: ” إن زوال الألم لذة، وأن زوال اللذة ألم”(5). في إشارة إلى أن اللذائذ الهزيلة في الدنيا هي مقدمات لذات عظيمة في الآخرة، وأن زوال آلامها اليسيرة هي سعادة بذاتها، في معرض نفيه للفناء، وإيمائه إلى ضرورة الآخرة والاطمئنان بالإيمان. وفي تقرير له أن التملك ظاهري ووهم يقول” من ظن أنه مالك فهو هالك” ويقول أيضاً: ” إن تركتَ الدنيا انسللتَ من شرها وأوتيت خيرها، وإن تركتْك انسللت من خيرها وأثمرتْ لك شرها”(6).
وله: “لله در المصيبة والذلة، ما أحلاها وهي مُرة! إذ هي تذيقك لذة التضرع والمناجاة والتضرع والدعاء”(7). “أن النظر التبعي قد يُري المحال ممكنا، كالمُستَهل الذي رأى الشعرة البيضاء من أهدابه هلال العيد”(8). ويصف النبي بقوله: “رأس كمال البشر في سن كمال البشر”(9).
< وفي استدلال على ردّ الشرك الخفي بمداخلة الأسباب او إسناد قوة التأثير إلى شيءٍ في الخلق، باستنباط لطيف من هيمنة النظام والموازنة في الكائنات، وأن الميزان مبني على الموازنة، والموازنة يرفض تدخلاً ولوحقيراً، إذ يختل به” فالميزان الذي في كفتيه جبلان، يتأثر بوضع جوزة على كفة”(10) وغير هذه الحكم والأمثال كثير لا يحصى.
< يُعَظم النورسي أنعم الله على البشر، بل يصور تسخير الموجودات له تصويراً لطيفاً أثناء البيان لِحكم الخلق وأهمية الإنسان: “أن الإنسان يستفيد من الأرض عَرْصة لبيته، والسماء سقفا له، والنجوم قناديل، والنباتات ذخائر! فحق لكل فرد أن يقول. شمسي وسمائي وأرضي”(11).
< ويورد تصويراً فائقاً في الحسن في قياس حاله في الكشوفات بحال غيره من بعض أهل التصوف وخصوصاً محي الدين أبن عربي، فيقول: “لما كنت أخوض في البحث معتمداً على القرآن الكريم، فأستطيع أن أُحَلّق أعلى من ذلك الصقر وأسمى، وإن كنت ذبابة”(12).
هذه شذرات تواردت عن الخطاب الأدبي في رسائل النور. ونعلم يقيناً أنها لا توفي بحق الأستاذ النورسي ومبلغه في الأدب. ورُبّ مبلغ إلى من هو أوعى منه. ونسأل الله السداد والإخلاص وحسن الختام.
ذ. عوني لطفي أوغلو
———–
1- المثنوي العربي النوري، ذيل الحبة، ، ص 245
2- نفسه، زهرة، ص 264
3- نفسه، ذيل الزهرة ص 286
4- نفسه، ذرة ص 309
5- نفسه، ذرة ص 309
6- نفسه، ص 309 // 7- نفسه، ص 309
8- بديع الزمان سعيد النورسي، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، استانبول ، ص 152، 1995
9- نفسه، ص، 165
10- نفسه، ص 213
11- نفسه ص 162
12- بديع الزمان سعيد النورسي، اللمعات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، سوزلر، استانبول ، ص 52