خطبة منبرية – الذكر: حقيقته وثمراته


الحمد لله العلي المجيد، أحيا قلوب عباده بذكره وجعله لهم أمانا واطمئنانا، وقال في محكم التنزيل: {الذين تطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب} وأشهد أن لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له أثنى على عباده الذاكرين منهم والذاكرات، وأشهد أن سيدنا محمد عبد ورسوله أعظم الذاكرين العارفين بربهم الذي فتح عليه ربه سبحانه وتعالى من فيوضات الذكر والدعاء، فسعدت بذكره فجاج الأرض وطباق السماء، القائل في جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام >مثل الذي يذكر ربك والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت<(صحيح البخاري)، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين وصحابته الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد،

فإن منزلة الذكر في الإسلام منزلة عظيمة وآثارها على حياة الفرد والمجتمع آثار طيبة كريمة, ومن ثمة كان حريا بكل مسلم أن يعلم حقيقةالذكر أولا وأن يسعى إلى أن يكون في زمرة الذاكرين الذين ينعمون بلذة الذكر التي تقودهم إلى لذة الأنس بالله والاعتصام بحبله المتين وتورثهم فضله ورضاه

ويكفي تعريفا بالذكر أن نقول أنه ضد الغفلة والنسيان ومقتضى الذكر أن يظل قلب المسلم (المؤمن) معلقا بربه متشوقا إلى لقائه مستحضرا عظمته وجلاله واقفا عند حدوده، مؤتمرا بأمره منتهيا بنهيه مستغفرا لذنبه.

لقد امتلأت بالحث على الذكر آي الذكر الحكيم وأحاديث الرسول الكريم.

يقول الله سبحانه وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما}(الأحزاب: 42)

ويقول الله عز وجل : {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة}(الأعراف: 205) ويقول الله سبحانه : وتعالى {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}(الجمعة: 10)

“ويكفي في شرف الذكر أن الله يباهي ملائكته بأهله كما في صحيح مسلم عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله  : >خرج على حلقة من أصحابه فقال ما أجلسكم؟ قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن علينا قال ما أجلسكم إلى ذلك؟ قالوا الله ما أجلسنا إلا ذلك قال: أما إني لم استحلفكم تهمة لكم ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة<(رواه مسلم والترمذي والنسائي).

ويسأل أعرابي رسول الله  : >أي الأعمال أفضل؟ فقال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله<(أخرجه أحمد).

وإذا كان الإسلام يحث المسلمين عل استدامة الذكر والعيش في ظلاله والرتع في رياضه التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم برياض الجنة فإنه قد نهى عن الغفلة والنسيان فقال عز وجل قائلا: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} (الحشر: 19) وحذر من عوامل الغفلة الصارفة عن ذكر الله يقول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}(المنافقون: 9)

ولعظيم فائدة الذكر وجلال قدره عند الله عز وجل دعا عباده إلى أن يجعلوه ختاما للأعمال الصالحة (فقد) “ختم به عمل الصيام فقال : {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}(البقرة: 185).

وختم الحج في قوله : {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا}(البقرة: 200) وختم به الصلاة كقوله : {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم}(النساء: 103) وختم به الجمعة كقوله : {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}(الجمعة: 10).

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمر بأن يجعل ذكر الله ختاما لكل عمل صالح فإنه قد أمر كذلك بأن يكون ذلك الذكر مقارنا لتلك الأعمال.

يقول الله عز وجل “وأقم الصلاة لذكري” (طه: 14). ويقول سبحانه وتعالى في معرض الحديث عن مجاهدة الكافرين: “يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون” (الأنفال: 45).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف: “إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفاء والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله” (حسن رواه الترمذي وأبو داود عن عائشة).

أيها الإخوة المؤمنون، إن عاقبة الذكر لعاقبة حسنة ومآله مآل حميد على الذاكرين في الدنيا والآخرة فبه تزكو نفوسهم وتطيب حياتهم وتطمئن قلوبهم بقول الله سبحانه وتعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}(الرعد: 28) ومما عمت به البلوى في هذا الزمان وانتكست به معيشة الناس فأصبحت ضنكا فشو القلق الذي مزق الأعصاب وجعل قلوب الناس شتى وما ذاك إلا بسبب بعدهم عن الله الذي يملك أمر القلوب ويقلبها كيفما يشاء

أما جزاء الذاكرينيوم القيامة فلا يدرك كنهه أحد ولا يملك أن يتصوره الإنسان بعقله المحدود ولكنه يتطلع إليه بشوق ويعيش على أمل أن يكون ممن يشملهم فضل الله.

روى النبي  عن أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء أنه قال له: >اقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غرسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر<(رواه الترمذي وأحمد وغيرهما)

ومن السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله “رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه” (البخاري كتاب الأذان)

والذكر ثلاثة أنواع : ذكر الأسماء والصفات ومعانيها والثناء على الله بها وتوحيد الله بها، وذكر الأمر والنهي والحلال والحرام وذكر الآلاء والنعماء والإحسان والأيادي (القلب اللسان بالقلب وحده – باللسان المجرد، ولن يكون ذاكرا على الحقيقة إلا من استجمع هذه الأنواع.

نفعني الله وإياكم بكتابه المبين وبأحاديث الصادق الأمين وأجارني وإياكم من عذابه المهين، هو الحي لا إلـه إلا هو فادعوه مخلصين له الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

…. أما بعد،

فمما يؤسف له، أيها الإخوة المسلمون، ويمتلئ له القلب ألما وحسرة أن مجتمعاتها تساق بسرعة جنونية وإصرار عنيد إلى أوضاع مزرية متردية يكون أبرز علاماتها وخصائصها الغفلة عن الله.

وإن مخططات رهيبة واستراتيجيات لعينة تطبق ليل نهار ليصبح مجتمعنا مصيدة للشيطان يستمر فيها الفسوق والعصيان، وقد حقق المشرفون على تنفيذ تلك المخططات أشواطا بعيدة، فأما كن اللهو واللغو والفسوق باتت تحيط بالإنسان من كل الجهات: ملاهي مقاهي خمارات مهرجانات تقام تحت مسمى الثقافة والفن شواطئ تذبح فيها الفضيلة وينحر فيها الحياء وتبرم فيها عقود ممارسة الفساد بين شياطين الإنس وشياطين الجن, وقبل ذلك وخلاله وبعده إعلام لقيط يتولى غسل الأدمغة بشكل هيب, وربط قلوب الناس بمحبوبات وأوثان ما أنزل الله بها من سلطان.

إن هدف هذا الإعلام الفاجر الذي يتهافت عليه الناس تهافت الفراش على النار هو أن يغيب ذكر الله من حياتنا بكل أنواعه وأشكاله, وفي أحسن الأحوال يقع التسامح مع ذكر شكلي بارد فارغ لا يصلح نفوسا ولا يغير منكرا.

فبقدر ما يسعى الإعلام الفاجر اللقيط إلى تجفيف منابع ذكر الله يقع السعي المستميت والحثيث على ملء حياة الناس وإغراقهم بتيار صاحب من الكلام البذيء وبطوفان عارم من الأفكار والمذاهب التائهة وبقاموس من الرموز والأسماء المتخصصة في شتى صنوف العفن المدرجة تحت اسم الثقافة والفن، يضاف إلى ذلك حملة مسعورة وتواطؤ مكشوف لتزكية رموز الباطل والطغيان وتقديم آيات الولاء لها واتخاذها أربابا من دون الله يعتقدون فيها النفع والضرر وأن بيدها الحل والعقد.

ليسأل كل واحد منكم نفسه كم مرة ذكر فيها اسم بوش عبر الإذاعة والتلفزيون على سبيل التعظيم والإجلال والتأييد والنزول عندما مبادرته وخطبه الحاملة للأمر والنهي والوعد والوعيد؟

وكم مرة يذكر الله في إذاعاتنا ويتلى قرآنه وسنة رسوله؟

وكم من برامج تقام في هذه الأجهزة الخربة لخدمة الدين وربط المسلمين بالله وإذكاء جذوة حبه وحب رسوله في أنفسهم وتقوية استعدادهم لامتثال أمر الله والعمل على تطبيق شرعه الحكيم.

أيها الإخوة المسلمون، إن هناك فتنة عمياء تواجه المسلمين أفرادا وأمة ويحال بها بينهم وبين أن يحيوا الحياة الإسلامية التي تسعد بها قلوبهم ويصلح أمرهم.

إن أيادي خفية وظاهرة تعمل بدأب واستمرار على أن تصبح هذه الأمة مهينة حقيرة بإبعادها عن سر عزتها وهيبتها: منهج ربها الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وإن من مظاهر الفتنة على سبيل المثال أن يضيق على الناس في أن ينعموا بعبادة ربهم ويأنسوا بذكر ربهم في يوم الجمعة ويستفيدوا مما أعد للمبكرين فيه بالتوجه إلى بيوت الله من أجر عظيم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه.

{ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}(الأعراف: 23).

د.عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>