أولائك الأكياس


الحياة حلوة جميلة، ومن منا لا يحبُّها بل ويعشقُها، فهل منا من يكره الرزق الوفير، والفراش الوثير، والعيش الرغيد، والمسكن الفسيح، والظل الظليل، والملبس الأنيق؟!.

وقد يُظن أن المؤمن هو أزهدُ الناس في حياة، ولَعَمْري أقول إنه أكثرُ الناس حبا للحياة، لأنه اختار أجود ما في الحياة وأحسن ما في الحياة، وأصْفى حياةً، وأنقى حياة، وأبقى حياة.

إنه أراد أن يشتري حياة بهذه المواصفات كغيره من التجار في هذه الدنيا، فقلَّب بضاعة الحياة من كل الوجوه، فنظر إليها من حيث مدة صلاحيتها، فرأى نهايتها وفناءها عيبًا ينقُص من قيمتها. ثم نظر إليها من حيث خُلوصُها وصفاؤها من كل ما يشوبها، فوجدها مليئة بالمنغِّصات والمكدِّرات؛ فالهموم والأحزان والخصومة والأحقاد والشيخوخة والأمراض كُلُّها تذهب ببريقها ولمعانها.

إنه هو أيضا يحب الحياة، ولكن أي حياة؟؟ هذه الحياة التي تعيش فيها عبدا للنفس والشهوات والأهواء والملذات؟ أم تلك التي تعيش فيها عبدا للدرهم والدينار والأورو والدولار؟.

أم تلك الحياة العكرة التي ما من صفوٍ إلا وبعده كدرٌ، وما من فرح إلا وبعده قرْحٌ، وما من لقاء إلا وبعده فراق.

أم تلك التي تعيش فيها تحت رحمة من فوقك، تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، تسير حيث سار وتدور حيث دار؟!.

نعم فبعد تمحيصه وتقليبه، وتفكيره وتقديره حسم في الأمر واختار، ونعم ما اختار!!، اختار الجمال الخالص والسعادة الخالصة. لا حزن ولا نصب ولا لغوب (التعب والإعياء) ولا غل ولا لغو.

{وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب}(فاطر).،  {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}(العنكبوت).

الحيوان هي الحياة الحقيقية الدائمة المتقدة بالنشاط والحيوية. حياة خالصة وزينة خالصة ورزق خالص، وهناء خالص، وجمال خالص. {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}(الأعراف) فهي ليست خالصة في الدنيا ولكن في الآخرة.

ومن فضل الله عليهم أنهم لما آثروا وفضلوا الحياة الأخرى وعملوا لها ونصبوا وشمروا على سواعدهم استعدادا لها، جازاهم الله بسعادة الدارين {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة}(النحل) والمقصود بالحياة الطيبة هنا الحياة الدنيا.

لعمري هؤلاء هم الأكياس، الذين اختاروا فأحسنوا الاختيار، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.

ولعمري أولائك هم المغبونون،  أحبوا الدنيا، وجعلوها محور كل اهتماماتهم عاشوا من أجلها ولا يرون شيئا آخر غيرها فكان جزاؤهم أنهم حرموا سعادة الحياتين معا.

{فأمَّا من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الحجيم هي المأوى}(النازعات)

{ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}(طه).

وقد يكون الضنك والضيق والاختناق في وقت توفرت فيه كل مطالب الحياة وحتى كمالياتها.

{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرو}(التوبة).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>