كأن شيئا حدث بغتة لهذا العالم، فأصبحت الدول القوية تهتم بحالة ومصير شعوب العالم، و”تغضب” للانتهاكات التي تقع هنا وهناك، ولو بعدت المسافات، فتنزعج للدكتاتوريات و”تنشد” الديموقراطية والحرية لجميع سكان الأرض، والأعجب والأغرب أن هذا لم يعد يقتصر على البيانات والشجب والتنديد والمطالبة بالتغيير بل يتعداه إلى إعداد العدة من جيوش جرارة، وأسلحة متطورة فتاكة تخرج لأول مرة لميدان التجربة، وتُخصص الميزانيات الضخمة التي لا تصدق أرقامها، وتعقد مجالس الحرب، وتعد الأحلاف.
والأكثر غرابة، بل وندرة، أن تدخل الدول العظمى في أزمات سياسية خانقة فيما بينها تصل لحد القطيعة والصدام الديبلوماسي الحاد، فتلوح بعضها باستعمال حق الفيتو لمنع استصدار قرارات مصيرية ومهمة في مجلس الأمن.
لماذا يا ترى هذه العاصفة الهوجاء؟ وهذا الزلزال المدوي الذي أصاب الأرض؟
قيل، لأن هناك حاكما، طاغية، متجبرا اسمه صدام حسين، يحكم بغير ما أنزلت الديموقراطية الغربية، فيظلم شعبه ويسيء إلى جيرانه وللعالم، بل إنه يصنع أسلحة تسمى أسلحة الدمار الشامل فيخزنها فوق الأرض وتحتها، وقد يستعملها ضد شعبه أو دول الجوار، ومن يدري لعله يستعملها ضد العالم كله!!.
إذن، باسم الحرية، والديموقراطية، وحقوق الانسان والدفاع عن المثل العليا، والقيم الراقية تنطلق حاملات الطائرات، والبواخر الحربية، وآلاف الدبابات والمدرعات، ومئات الطائرات المقاتلة والمروحية، والغواصات وعشرات آلاف الجنود في ما سمي بأكبر وأحدث وأقوى حملة عسكرية عرفها التاريخ من حيث النوعية لتحرير شعب من شعوب العالم البعيدة في صحراء العرب من دكتاتور، طاغية، شرير… (وللعلم, فقد كان في الحكم منذ أكثر من 25 سنة!!).
يبدأ الهجوم والقصف، والزحف، فتُدمر البلاد عن بكرة أبيها، وتُقتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وتيتم وترمل الملايين، وتسجن الآلاف المؤلفة من الشباب، بل النساء، وتلغى جميع مؤسسات الدولة، ويكون أول احتلال لبلاد وشعب في القرن 21.
تعم الفوضى في ربوع البلد بأسره، تتوقف جميع آليات الإنتاج، تدمر البنى التحتية وكذلك الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي. يلاحق العلماء والباحثون فيقتلون أو يختطفون أو يهددون لإرغامهم على الرحيل، ويصبح البلد الذي يعد من أغنى دول العالم ثروة نفطية يعيش على التسول الدولي ومساعدات المنظمات الإنسانية، كل هذا بعد حصار لم يشهد له العالم مثيلا، دام أكثر من 12 سنة ذهب ضحيته أكثر من مليون طفل!!
وبعد شهور من بداية هذا المشهد الرهيب، المقيت، إذا بالإعلام العالمي يعرض علينا صورا لعجوز أشعث، أغبر، في حفرة من حفر الصحراء، لا يبدو عليه تمام التوازن العقلي في مشهد من مشاهد المهانة والإذلال لا لشخصه فقط بل لجميع بني جلدته وبني قومه…، ويقال لنا :
اليوم أمسكنا بالشر بعينه والشيطان نفسه، إنه صدام حسين، فليفرح العالم، سوف تنتهي المعاناة، ويبدأ المستقبل الزاهر، والتقدم والرخاء، والأمن والاستقرار…
وتتوالى الأيام والشهور، فيزداد الأمر سوءا، والوضع تفاقما قتلا وتدميرا، وظلما و سجنا، بل تَطلُع علينا صور يشيب من رؤيتها الولدان، وتقشعر الأبدان، ويندى لها الجبين من تعذيب وهتك للأعراض في سجون الاحتلال، ويستمر مسلسل الرعب القاتم…
ثم تقدم لنا من جديد، حلة أخرى من حلل العدل والديموقراطية المثالية في صورة صدام مكبل اليدين والرجلين ليمثل أمام السادة المحققين “العراقيين”، فتقدم له لائحة الاتهامات السبعة التي أعدتها له ولرفاقه قوى “الخير والتحرير”.
ولعلنا في مقبلات الأيام، نرى صدام السجين في محاكمة القرن الشهيرة أمام القضاة والمدعين والمحامين فيُسْأَلُ :
لماذا شن الحرب على إيران؟
ولماذا دخل الكويت واحتل أرضها وطرد حكامها؟.
ولماذا أرسل طائراته لتقصف الأكراد بالغازات السامة
ولماذا قتل المعارضين وسجنهم ونفاهم خارج البلاد؟ ولماذا أقام المقابر الجماعية؟
وخصوصا ثم خصوصا (ولعل ذلك بدون عدسات الكامرات)
لماذا تعدى الحدود الحمراء المرسومة له ولأمثاله، بأن حاول امتلاك ما لا يحق له أن يمتلك من أسلحة متطورة محظورة على كل دولة عربية وإسلامية؟
ولماذا أقام معاهد ومعامل للتكنولوجيا النووية والبيولوجية قد تهدد يوما من الأيام أمن “إسرائيل” وهي مَنْ هي في حسابات واشنطن الاستراتيجية؟
ثم لماذا أصبحت العراق وهي دولة عربية مسلمة تمتلك كما هائلا من العلماء والأدمغة في جميع المجالات العلمية والتقنية قد تؤسس لنهضة علمية وقفزة نوعية نحو ركب التقدم؟ وهذا بطبيعة الحال في غاية الإزعاج بل والخطورة لصناع سياسة العالم الاستراتيجية في واشنطن وتل أبيب.
وتمر الأيام والشهور، وقد يطلع علينا السجين صدام حسين في قفص من حديد، يُؤمر بالوقوف للاستماع إلى حكم المحكمة العراقية، الحرة! المستقلة! بعد المداولات والنقاشات والمرافعات (وقد تُكُهِّن بل يبدو أنه تأكد عند الكثير ومنذ البداية طبيعة الحكم المنتظر صدورُهُ).
وعندئذ تخرج الإدارة الأمريكية، أيا كانت وأيا كان رئيسها لتزف للعالم انتصار الحق والعدل، والحرية، والديموقراطية.
كل هذا عن ماضي صدام، وبطش صدام، وظلم صدام بغض النظر عمن أتى به لسدة الحكم، ومن ساعده، ومن سَلَّحَه، ومن درب جيشه، ومن غض الطرف عن سياسته وأفعاله، لكن، إذا تساءل ذلك الطفل ذو السبع سنوات الذي زارته قنبلة من قنابل بوش الذكية فدمرت بيته، وقتلت أسرته بأكملها حتى أخاه الجنين في بطن أمه، فاستفاق في أحد مستشفيات بغداد بعدما بُترت يداه ورجلاه، ولم يبق إلا ذلك الوجه الحزين والعينان الباكيتان وما بقي من ذلك الجسم النحيف، إذا تساءل من قتل أمي وأبي، وإخوتي وشوه جسمي؟
أُرِيدُ مساءلة المسؤول عن الجرم، ومقاضاة المجرم.
-إذا نطقت أرواح مئات آلاف الأطفال التي ماتت جراء فقدان الغذاء والدواء، ورفرفت فوق الولايات المتحدة الأمريكية وتحديدا فوق البيت الأبيض متسائلة : من منع عنا الغذاء والدواء حتى أُزهقت أرواحنا؟.
- إذا نطقت معاهد وجامعات ومراكز العراق العلمية التي كانت يوما ما نموذجا في الإبداع والاختراع، فقالت : من دمرنا وجعلنا بيوتا للعنكبوت، وأعشاشا للبوم والغربان؟.
- إذا نطق متحف بغداد الدولي الذي كان يعد من النوادر والروائع العالمية لما كان يضمه من شواهد على تاريخ الأمم والحضارات، إذا نطق قائلا : من دمرني؟ من سَهَّل نهبي وسرقتي؟
- إذا تساءلت مئات آلاف الأرامل والأيتام والثكالى : من قتل آباءنا وأزواجنا وأولادنا في القصف الجوي والبحري والبري الذي لم يعرف له العالم ولا التاريخ مثيلا؟
- إذا خرج ملايين العاطلين عن العمل إلى الشوارع هاتفين : كان لنا عمل، وكانت لنا أجور فمن حولنا إلى متسولين ومتسكعين في شوارع بغداد؟ ومن حول نسبة البطالة في العراق إلى أكبر نسبة في العالم؟
- إذا نطق هواء، وأرض، ونبات العراق قائلين : من قصفنا باليورانيوم المخضب فَلَوَّثَنَا لمئات أو آلاف السنين المقبلة؟
- إذا تكلمت سجلات الأمراض السرطانية العراقية لتخرج على العالم بالأرقام المخيفة عن التكاثر التصاعدي المستمر لهذه الأمراض في هذا البلد جراء أسلحة الولايات المتحدة الأمريكية “الذكية” و”النظيفة”.
- إذا احتجت ملايين الجماهير التي خرجت منددة في شوارع القاهرة وطهران ودمشق والرباط ومدريد وباريس وروما وبرلين ونيويورك وواشنطن وباقي دول العالم هاتفة، لا للحرب، لا للعدوان على العراق، إذا احتجت قائلة لماذا لم يُسمع لنداءاتنا وأصواتنا واعتراضنا على الحرب؟
- إذا نطق العراق كبلد حر، مستقل بعدما أصبح سوقا للفوضى والقتل والتدمير وغياب المؤسسات الحكومية قائلا : من حولني من دولة ذات سيادة إلى أرض مستباحة بكل المعايير والمقاييس من طرف كل مرتزقة العالم؟
- إذا تكلم هذا وذاك، ونطق الآخر من هناك، واستفسر هؤلاء وأولئك، ألا يحق لهم جميعا باسم الحرية، وحقوق الانسان والحيوان، والنبات والهواء، باسم الديموقراطية والمدنية والعالم المتحضر، باسم محاربة الظلم والفساد، باسم القوانين والمعايير والتشريعات التي تحاكم صدام، ألا يحق لهم جميعا أن يُسائِلُوا ويراجعوا، ويحاسبوا بل ويحاكموا المسؤول الأول ثم المسؤولين الآخرين عن كارثة العراق العظمى التي يعجز اللسان والقلم عن وصفها؟
ألا يحق لهم أن يطالبوا ألا يكون للجريمة جنسية أو لون أو مذهب أو اتجاه سياسي أو ديني أو عرقي بحيث يعامل الناس سواسية فيعاقبون إن استحقوا العقاب بغض النظر عن كل الاعتبارات؟
ألا يحق لهم أن يطالبوا بالعدالة للعراق وأبناء العراق وشعب العراق، أكان المتهم يدعى صدام حسين أو جورج بوش؟؟