نفحات : الدخول المدرسي وهمومه


في مثل هذا الوقت من كل سنة يتجدد الحديث عن الدخول المدرسي بالنسبة لمختلف مستويات التعليم، وتتنوع المواقف والآراء ما بين مرحب متفائل، ومتذمر شاك، ولكل ما يعتمد عليه من أسباب وعلل، وليس الغرض أن نوضح هذه المواقف والآراء، بقدر ما نود تقديم وجهة نظر في الموضوع، فبعيدا عن مختلف الآراء والمواقف ينبغي التعامل مع مجال التعليم بما يستحقه من أهمية، وما يُنتظر منه من نتائج تنعكس إيجابا أو سلبا على مختلف القطاعات، وعلى الأفراد والجماعات، وبعيدا عن الإحصائيات وما تم تشييده من منشآت ومؤسسات، أو إعداده من بنيات ضرورية لمواكبة المستجدات، ينبغي الاقتناع بأن التعليم بناء، بل هو بناء متكامل وشامل، غير أن نتائج هذا البناء تتضح مع مرور السنين، إنها نتائج مستقبلية، ومعنى ذلك أن كل تخطيط في مجال التعليم، وكل إنفاق في هذا الميدان يؤدي بالضرورة إلى تحقيق ما يتناسب وذلك التخطيط وتلك النفقات، ويستفاد من هذه المعادلة أن الإنفاق الرشيد في مجال التعليم ضرب من الاستثمار الإيجابي، وليس استنزافا أو تبذيرا بغير طائل كما يدعي بعض الناس.

وحين نقول إن التعليم بناء فهو تكوين للمواطن الذي يعول عليه الوطن في المستقبل، لأن طفل اليوم هو رجل الغد كما يقال، فأي مواطن نريد  إعداده عن طريق التعليم البناء المناسب، وهذا يعني أن التعليم ليس مجرد تلقين أو حشو للأدمغة بمجموعة من المعلومات التي قد تنتهي بعد اجتياز الامتحان، أو تبقى منها حصيلة هزيلة قد ينتج عنها ضعف في المتخرجين وضعف في أدائهم حيثما كانوا، بل إن التعليم البناء تكوين وتربية، إنه كم وكيف في آن واحد، وما لم تكن العلاقة جدلية بين المنظومة التعليمية والمنظومة التربوية فإن الخلل حاصل لا محالة، غير أن الأمر ليس بالسهولة التي نظن، فمخطِّط المنظومة التعليمية قد لايكون خبيرا بالمنظومة التربوية، علما بأن كليهما غدا اليوم علما قائما بذاته، فيه من المقومات الخاصة الشيء الكثير، وفيه من الروافد الأخرى التي يتيح الانفتاح على الآخر اقتباسها ما يحقق التواصل والتفاعل مع المحيط العام.

وبالإضافة إلى الطابع العلمي للعملية التعليمية والعملية التربوية، وما يرتبط بهذا الطابع من أصول وضوابط ومناهج وتصورات نظرية وتطبيقية، هناك التجربة والخبرة اللتان تتراكمان خلال الممارسة الطويلة، وحين يضاف إلى ذلك كله ما يمكن اقتباسه من الآخر يحتاج الأمر إلى معايير لتحقيق الذات، لأن كل تعليم يقوم على مراعاة مجموعة من الأصول، فإذا ضاعت أو ضعفت ضاعت الهوية، والهوية في مجال التربية والتعليم عنصر جوهري لأنها مرتبطة بحقيقة المواطَنَة وما تقوم عليه من ثوابت ومقدسات، وما يغذيها من مؤثرات، وما يتخلل ذلك من متغيرات لمسايرة الناموس الطبيعي للحياة، وهذه أمور لا تتضح إلا عند الوعيبالمسؤولية وبدور الإنسان في الحياة ووظيفته في الكون، وحينذاك يمكن التمييز بين الخاص والمشترك وما بينهما من حدود، لأن الإنسان (فردا أو جماعة) مهما حاول الأخذ من الآخر واتباعه أو الاقتباس منه لن يكون إلا هو، وإلا ضاعت هويته ما لم يعرف ما يحتاج إلى أخذه واقتباسه وكيفية توظيفه.

إن الحديث عن قضايا التربية والتعليم ذو شجون كما يقال، ولا يخلو من مشاكل، لأن المجال صعب جدا، وكل شكوى لها ما يسوغها، ومن المعروف أن الشكوى من صعوبة المجال عامة، لا تقتصر على الدول الصغرى أو الفقيرة أو النامية، بل تكاد الدول الكبرى المتقدمة تعاني من انعكاسات التعليم، ولكن بنسب متفاوتة، والكل يتطلع إلى تحقيق النجاح المطلوب في العملية التعليمية التي تكاد تكون هي الواجهة الكبرى، لأن جميع مرافق الدول تعول عليها، وتنتظر أن يكون المتخرجون في مستوى المسؤولية، عطاء وإنتاجا ومردودية، بحسب مجالات التكوين، ولذلك فالأمر يتطلب تخطيطا محكما، وليس أي تخطيط، يكون فيه الهدف واضحا، وتراعى فيه أوضاع جميع الأطراف من عنصر بشري، معلما ومتعلما وعناصر مادية، ومناهج ومقررات، مع مراعاة وسائل الارتقاء بالمستوى وسد الحاجات الطبيعية والطارئة.

ولأن مقياس تقدم الدول غدا مرتبطا بما تحققه في مجال البحث العلمي، فإن التعليم يظل فارغا من محتواه، بعيدا عن تحقيق أهدافه، ما لم يحظ قطاع البحث العلمي بالعناية اللازمة. ولأن كرامة الإنسان تتحقق بالعلم، لأن العلم نور، والجهل عار، فإن التحديات تتزايد حين تكون نسبة الأمية حاجزا دون التمتع بهذا النور، فإذا أضيفت الأمية الفكرية والتقنية الضرورية إلى الأمية العادية تفاقم الوضع وتعددت عوائق التنمية، وهذه مشكلات لا يمكن تجاوزها إلا بضروب من التكافل، ومزيد من التآزر بين مكونات المجتمع المدني وما يستند إليه من قيم يعتز بها ويصدر عنها في أعمالهوجهوده في الارتقاء بأفراده.

ومهما يكن من أمر فإن التعليم سيظل أكبر امتحان وأصعب تحد، والنجاح فيه سلَّم للارتقاء والتقدم، وهذا ما ينتظره الجميع.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>