من أوراق شاهدة : (لـَحْنِـيْـن فَالــدَّارْ يَوْرَثْـهَا)


توطئة في السياق

كان صيفا ساخنا ذلك الذي مر علي هذه السنة، لا بالمقياس الحراري الدنيوي ، بل بمقياس الأحداث التي تعاقبت تثرى على شاشة ذاكرتي، فظلت جلية المحطات ، حية النبض تستحثني لأصوغها شهادة يتيمة، أعجل بها إلى ربي، لعلي أمرق من شعوري الـمتعاظم بقصوري ونكوصي في أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الفريضة التي تعتبر بمثابة الوتد الذي قـوضه خوفنا من قوى الإستكبار تحت طائلة الاتهام بالإرهاب، فركنا إلى هذه الفوضى الأخلاقية المخزية التي غدونا نرى معالمها على امتداد هذا الوطن حيث الشعار : “أنا وبعدي الطوفان”، “تفوتني وتجي فين بغات!!”

وهاهي ذي النتيجة : موت بالتقسيط بضواحي البيضاء.

كان الوقت غروبا حين توقفت سيارتنا بداخل أحد الدواوير النابتة على مشارف البيضاء.وكنا قبل ذلك قد اجتزنا طريقا ساحليا احتفاليا تكتنف مساحاته أعراسُ زفاف، ونساءٌ بقفطانات سخيّة الفتحات، وخيامٌ وحوانيتُ للمرطِِّّبات وكلِّ المأكولات الصيفية، يتوسطها مطعم  “الماكدونالد” بشعاراته الأمريكية المعتزّة في أوج ذبـح الأشقاء بالعراق، تجاوره مقاه هادرة الموسيقى، ضاجّة بمصطافي الساحل وبينهم طوابيرُ المهاجرين العائدين لقَطِران الوطن بسياراتهم وألبستهم المرفهة، ولعب إليكترونية عملاقة، وروائح شواء وقلْي وطواجينَ سوسية ومراكشية، وصبايا هنا وهناك بالبطون العارية، وفتية يحتاج المرء إلى مكبِّرة من النوع الممتاز ليتبين معالم ذكورتهم!!، ورجال شرطة وديـعي الملامح، لاأحد يَعْبَأُ بوجودهم من العابرين المُحْتضنين لخليلاتهم، وهم مستغرقون  بمهامهم الأمنية،  بوجوههم الملوّحة بالشمس، المتـعبة جراء ذهاب وإياب وظيفيٍّ لا يتوقف بشارع الساحل..

نحن في عطلة لا داعي للقلق قالت زوجة أخي، وهي تراني واجمة أراقب هذا التهافت الاستهلاكي المحموم..

و هدأ محرك السيارة ونحن  نلج ذلك الدوار الكئيب السَّحنة، وعلى غير انتظار تداعى إلى سيارتنا كل صبية الدوار.. وشعرت أنها بالحرج الشديد والاستحياء وطفليّض يترجلان ويقفان مشدوهين أمام مخلوقات صغيرة لا تغطيها غير أسمال لا معالم لها ولا تضاريس من كثرة الرقع التي تتخللها..

ودلفنا إلى أحد الأزقة، نطلب أحد البيوت بحثا عن خادمة طيبة تعينني على نوائب الدنيا وركْضي التائه فيها ركض الوحوش في البرية..

وقرعنا بابا متهرِّئا تسنده حيطان متسخة بارزة النتوء، كأنها لخبطات حجارة وتراب ، يتبعنا الصبية.. وخرجت امرأة في مقتبل العمر، اكتهلت قبل الأوان، من غرفة مظلمة عطنة أشبه بكهْف مهجور تتبعها صبية زرقاء اللون كأنها عصرت حد الخنْق، أو كأنها حبست تحت شمس قائضة لأيام متوالية..

قلت بخجل شديد من هيأتي الناضحة التباين مع سحنتهما

ـ “السلام عليكم أبحث عن المساعدة /ف/ أرسلتني عندكم السيدة /ن/”.

رمقتاني شزرا وهما تتمعنان في  ملامحي و سرعان ما أجابت الأم بـغلظة :

ـ “ماعندناش حتا خدَّامة”.

أدركت بحزن عميق إلى أي حد اختلطت الأوراق أو كما يقول أبي رحمه الله “حوتة خنـزات الشواري”، إلى أي حد هؤلاء الغلابى يائسون من الجميع بلا استثناء، مقرفون من خلقتنا، ناقمين على سُلَّم دُنْيوي ارتقى بنا إلى الأعالي كما يتصورون وتركَهم على السفح!! لو تعلم كم هي ثقيلةٌ عليَّ الدنيا وفقيرةٌ أنا في مناكبها مادمت مشدودةً إلى سفوحها محجوبةً عن أعاليها الحقة!..

سارعت إلى تطييب خاطرها والانصراف من قَسْوة صَكِّ اتهام أراه متوفزا في عينيها المنطفئتين.. وتلقفتني بيوت الدوار الأشبه في الكثير منها بجحور الضواري،  و بجانبها تربضُ أكوام الأزبال المتفسخة.. وآنذاك كانت هناك عيون نسائية ورجالية تتبع خطواتنا بفضول وكأننا انقذفنا في عالم أصحابه  من كوكب آخر.

كانت في ملامحهم استكانة لوضع لا محتمل،  استكانة غريبة الاصطبار ذكرتني بقصة الروائي الروسي ” أنطوان تشيكوف ” تحت عنوان “المستكينة ” والتي يقص فيها الكاتب حكاية خادمة سيأخذ منها مستخدِمُها كل ما أعطاها في أجرتها تحت ذريعة استرجاع القروض التي قدمها إليها أو الخسارات التي أحدثتها في أثاث البيت، حتى استَرْجع منها كل ما أعطاها إياه، وهي لا تحتجُّ  سوى ببكاء صامت مما جعل مستخدمها يثور في وجهها لاستكانتها وانمساحها أمام مظالـمه.. فهل كان سكان ذلك الدوار نسخة من تلك الخادمة؟؟

ونحن على بعد أمتار من السيارة، ستكذِّب الأحداث ظني وأصوات خصام حاد تنبعُث من أحد الأزقة

تتخللها كلمات سباب نابية، وامرأة من المتخاصمين ترفع ملابسها إلى أعلى مبينـة عن سروالها  وعورتها وتصرخ في منازلاتها : “هَاكُو ماسْوِيتُو” فتجيبها غريمتها : “هاديك هي قاعدتك انتي وابناتك!”

وكانت حلقة الفرجة تتسع حولهن، ترافقها القهقهات والتعليقات..

ونحن نغادر الدوار كان هناك عند المخارج شابان يحتسيان الخمرة بكل الإستعلان البارد بالفاحشة، وتملكني لحظتها الشعور المطلق بالأسى لهذا الضَّلال المقيم، وتذكرت وأنا أستعرض صور ساحل البيضاء الـمرفـه، والدوار الفقير إياه : قول رسول الله  : >إذا عظمت أمتي الدنيا نُزِعَتْ منها هيبةُ الإسلام، وإذا تركتْ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر حُرِمت بَرَكَةَ الوحْيِ وإذا تسابَّت أمتي سقطت في عين الله<.

هل يمكن أن يكون الفقر مطية للشذوذِ أو قتلِ الناس كما في دواوير أخرى، أو للدعارةِ أو لشربِ الخمر على قارعة الطريق ؟ أليس الـمُفقر هو الله سبحانه والمغني والجواد والوهاب والكريم والرزاق هو الله؟!، فلماذا يجْأر العبيد لغير الله تعالى؟؟، ولماذا يعلِّقون آمالهم على المخلوقات؟! يخبتون  إليها يطلبونها مالا أو عزة أو نسيانا أو انتقاما أو كراهية؟!، وهذا السخط العارم على وضع غير مقبول كيف يُترجم إلى هذه النقارات والمعارك الساقطة الحياء وبالتالي الإيمان؟؟. لقد كان رسول الله  وأصحابه الميامين يعصبون بطونهم من الجوع إذ لا يجدون حتى الخبز يسدون به رمقهم، في حين يملأ خبزُنا البائتُ وحتى الطريُّ نواصيَ الدروب، وما كانوا يتسابّون ويعرُّون عوراتهم بهذه الجاهلية المؤلمة , و أينهُم المبلِّغون إرث رسول الله الهيّنين اللينين، والأسخياء الكرماء من ذوي المال، و أينها الفريضة الغائبة الزكاة.. لم لا تشكل كتائب الرحمة من المسلمين لغسل هذه القلوب المكلومة بالفقر والجهل بدينها مع تطييب خاطرها بالصدقة والهدية ومشاريع الإحْياء عوض بعثرة المال الخاص والعام  في مشاريع اللهو و”النشاط”؟؟..

ألا يقول سبحانه : {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}(الكهف : 105).. ثم ألا يقول المثل المغربي : “لْحْنينفالدار يورثها “، وليست الدار إلا هذا الوطن الذي تتفاوت فيه المسؤولية عن رخائه أو عوزه، ولكن لا أحد معـفـًي حكاما ومحكومين من الرعاية والحدب والمحبة لـمواطنيه بكل أطيافهم مع إرشادهم للحق سبحانه والهم والتفكير لهم بل للأمة جمعاء، وإلا فلن نكون إلا أمواتًا سواء كنا بالحُفر كساكنة ذلك الدوار التعساء أو في مبانٍ وقصور مشيدة، وذلك  مصداقا لقوله سبحانه : “{أومن كان  ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}(الأنعام : 122).

وليتمعن الأموات العاضُّون على الدنيا وطينها، غير الآبـهين بساكني القبور من إخواننا، في قولة المسيح عيسى عليه السلام حين سأله الحواريون عن الدنيا فرد عليهم بسؤال بليغ قائلا: “من منكم يستطيع أن يبني بيتًا فوْق أمواج البحر؟!!”.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>