يعتبر التساؤل عن الأسلوب الكفيل بإعادة صياغة الثقافة الاسلامية في المرحلة الراهنة، صياغة تأخذ بعين الاعتبار اعادة تأسيس منطلقات الأمة على أرضية الاسلام ومذهبيته من جهة، والعمل على الحضور الفعال على أرض الواقع المعاصر من جهة ثانية; من أهم التساؤلات المطروحة علينا، بل وأكثرها إلحاحاً على الذهنية الإسلامية المعاصرة، التي تعاني، من جراء تاريخ ثقيل ومثقل بالمحن والانحطاط والمعاناة، من شرخ عميق يبين، بشكل واضح، عمق القطيعة الموجودة بين ما جاء به الاسلام وما أمر باتباعه وبين ما تعيشه الأمة على المستوى الملموس.
انها مسألة تحيلنا إلى التعرف على دقة المرحلة الراهنة التي تأخذنا، أبينا أم كرهنا، إلى قرن جديد، مليء بالتحديات، وعلى كافة المستويات، مما يجعلنا نعيد النظر في مجموعة من المواقف والمبادىء، خاصة وأننا الأمة التي تستهدفها بشكل كبير جداً مخططات الاختراق الحضاري بأساليبه المتعددة والمتطورة.
لقد تعرضت الأمة لعدة تحديات، دخلت خلالها في مواجهات شتى، حفاظاً على الهوية وخصوصية الانتماء، مما يجعل من صراعنا الحضاري الراهن ضد كل أشكال الاختراق، حلقة جديدة من حلقات الصراع التاريخي بين (الاسلامية) و(العلمانية الغربية)، وبين (الاسلامية) و(الصهيونية); صراع عبر من خلاله الأعداء / الغرب، عن المنطق الذي يحكم الأيديولوجية الاستعمارية، منطق (المركزية الغربية) التي انبثقت من (المركزية الأوروبية)، حينما كانت أوروبا الغربية خاصة، هي المركز ومجمع أطروحات الغزو والاستعمار، المؤسسة على أطروحة تفوق الرجل الأبيض، على كافة الأصعدة، وهي الأطروحة نفسها التي تبلورت مع التفوق الحضاري للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة على المستوى التقني والعسكري، الشيء الذي ظهرت معه أفكار نشر السلطة الأيديولوجية، وما تحمله من تلوينات اقتصادية وسياسية وثقافية..، على باقي بقاع الأرض; كما أنها تعبر عن الاحساس العام الذي تكون بداخل هذه الأيديولوجيا من جراء الخوف من الاسلام وامتداده الجغرافي والخطابي أو كما يعبر عنه بـ(الاسلاموفوبيا)، مستفيدين من تاريخ الصراع بين المسلمين والصليبيين، وما حققه المسلمون من انتصارات كان لها الأثر البالغ في تغيير معالم التاريخ البشري طوال قرون وقرون.
إن مجموع الكتابات التي صدرت خلال السنين الأخيرة، الساعية إلى تأكيد (نهاية التاريخ الكوني) أو (صدام الحضارات والثقافات)، تكشف عن حقيقة الموقف الذي تشكل بداخل الوعي الغربي المعاصر، خاصة لدى أصحاب القرارات الاستراتيجية، من تنامي الصحوة الاسلامية وتطور أسلوب الخطاب الاسلامي، بل وحضور هذا الخطاب وتلك الصحوة داخل المجتمع الغربي ذاته، مما بيَّن للمراقبين أن خيار الاختراق الثقافي هو السبيل الكفيل برد وايقاف الزحف الثقافي الاسلامي الذي أصبح يتنامى، لما للثقافة من اتصال مباشر بحياة الانسان وتصوراته ونظرته ومنهجه في التفكير والتحليل، بل ولما لهذه الثقافة من اتصال وثيق بالمرجعية التي تؤسس كيان الانسان وتمنحه خصوصية الهوية والانتماء. ولذلك ركزت الهجمة الثقافية الغربية المعاصرة بشكل كبير على ضرب هذه الخصوصية وتشويهها ونسف القوة التي يمنحها إياها ارتباطها بالاسلام، عقيدة وشريعة. ولعل أخطر ما تستعمله الأيديولوجية الاستعمارية الجديدة في هذه الحرب الثقافية، الوسائل السمعية ـ البصرية، خاصة مع تنامي انتشار (الهوائيات الفضائية) بداخل المجتمعات الاسلامية، من جراء الغياب شبه الكبير للوسيلة الاعلامية المحلية التي تتكفل بتحقيق الاشباع الثقافي للانسان، اضافة إلى ما تعرفه غالبية البلاد العربية من انحلال على مستوى القيم والأخلاق والسلوك، من جراء الغياب الكبير للتربية العقدية التي تمنح المسلم كل مقومات المناعة الحضارية، مهما بلغت درجات الغزو الحضاري وتنوعت أساليبه ومناحيه وقنواته.
يضاف إلى هذا النوع من الاختراق، اختراق العولمة، خاصة على المستوى الثقافي، حيث أتاحت هذه القناة الجديدة من قنوات الغزو، استكمال ما رسخته القنوات الأخرى من قيم اجتماعية تغريبية، مست بشكل كبير المجال السياسي والاجتماعي والتربوي والفكري والأخلاقي، استطاع خلالها الساهرون على تطبيق خطط الاختراق في عالمنا الاسلامي، الوصول إلى اعادة صياغة عقول الكثيرين من أبناء الأمة، في إطار حملة جماعية محمومة لغسل الدماغ، حتى يصبح قابلاً للانتظام بداخل الثقافة الغربية.
وإذا كان الانسان في المجتمع الاسلامي يعيش صراعاً مزدوجاً في المرحلة الراهنة، حيث صراعه مع ذاته لتحقيق هويته واعادة ربط حاضره ونظراته إلى المستقبل بماضيه وعقيدته من جهة، ثم صراعه مع الآخر، على كافة المستويات، في محاولة جادة لاستثمار قدراته وثرواته الطبيعية والبشرية، للحد من ضغط التبعية من جهة ثانية; فإن أبرز صراع يعيشه اليوم هو صراع الهوية الثقافية في زمن العولمة وحضارة الثورة المعلوماتية المذهلة والخطيرة في نفس الوقت. إذ السؤال الطبيعي والحتمي في الآن ذاته الذي تطرحه مجريات الأحداث والمنعطفات هو: كيف ننخرط في الابداع الحضاري ومعسكر التغيرات الجديدة دون أن نفقد هويتنا وخصوصياتنا؟
إنه سؤال لازال يكرر نفسه بشكل قوي منذ ظهرت في سماء المجتمع العربي الحديث الارهاصات الأولى للنهضة العربية، وما تكراره، وبأساليب مختلفة وتلوينات متعددة بحسب الزمان والمكان والأشخاص، إلا لعدم قدرتنا بعد على معرفة المدخل الحقيقي لتحقيق ذلك، الشيء الذي زاد من حدة التحديات، فتكررت الهزائم والتراجعات والنكسات وأخفقت المشاريع الأيديولوجية الكبرى، لأنه كلما أجبرت الجماهير على الفصل بين الدين والواقع، كلما شاعت في صفوفها روح التمرد والعصيان الحضاري، وهي من أبرز سمات هذه الأمة التي بالرغم من المحن التي مرت بها ولاتزال ظلت مرتبطة بالعقيدة الراسخة في النفوس، لأنها هي الوحيدة الكفيلة بالتوجيه والمواجهة ضد كل تيار أو غزو.
إن من أهم خطوات المجابهة الفعلية لأي اختراق، أن نبني الإنسان البناء المتكامل ليكون في حجم التحدي، وتربيته على أخلاقيات عقدية تمنحه المناعة الحضارية المطلوبة، ولعل أهم مرحلة في هذه التربية العمل على اشاعة وترسيخ القيم العقدية والإيمانية لأن بها وقف الجيل الأول من الأمة في وجه كل اختراق، بل واستطاعوا من خلالها ترسيخ المبادئ العامة للإبداع الحضاري الذي يكرم الإنسان، كيفما كان نوعه ولونه وجنسه. فبدون هذه الخطوة الأساسية، ومع تفشي آفة القطيعة بين العقيدة والسلوك في حياة المسلم المعاصر، لن يكون بإمكاننا الوقوف طويلاً في وجه الزيف الحضاري القادم. إنها التربية التي تمنحنا كذلك إمكانية الرؤية المستقبلية الحقة، كما تمدنا بكل الشواهد لفهم طبيعة وحقيقة الصراع مع الغرب، خاصة مع الصهيونية التي استفادت من الوطن العربي والنظام العالمي الجديد، لتفرض نفسها على الأمة بشكل قوي.
إن الثقافة الإسلامية، كغيرها من الثقافات الإنسانية التي تريد لنفسها الإستقلالية، تعيش مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية، مما يجعلنا كل يوم أمام أنفسنا مكررين السؤال: كيف السبيل إلى التحصين الذاتي في زمن الغلبة والإستتباع الحضاري؟ لكن الذي يدرس القرآن والسنة النبوية سيجد لامحالة المنهاج الذي يكشف عن حقيقة الصراع وفقه التدافع الحضاري، ناهينا عن منهج المواجهة وتحقيق الممانعة الحضارية المطلوبة وسنكتفي بايراد مثالين أحسبهما كفيلان بتقريب صورة ما سبق: قال تعالى{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}(البقرة : 120) وقال كذلك جل جلاله {يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لايهدي القوم الظالمين}(المائدة :21).
إنها أدلة على استمرار الصراع الحضاري، لأن منظومتنا العقدية تختلف عن منظومة الآخر، فكلاهما تريدان أن تكون رسالتهما عالمية، مما جعل القرآن الكريم ينبهنا إلى ضرورة اعداد العدة مصداقاً لقوله تعالى {وأعدوا لهم مــــا استطعتم مــــــن قوة}(الأنفال :60) ولا أظن أن هناك من سيخالفني في قولي بأننا فعلاً نمتلك المقومات الأولى لهذه القوة، لكن ماينقصنا هو الإنسان.