قضايا فكرية : إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها : 14 – حُسْنُ الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش والغذاء


الأرض أعظم مصادر العيش والحياة بدون منازع، ويعتمد مستقبل أية أمة إلى حد كبير على الطريقة التي تستعمل بها الأرض. وحين كان الإنسان يحسن التعايش مع الأرض، كانت الحضارات تقوم، وحين يسيء هذا التعايش، تنهار الحضارة، وترحل إلى مكان آخر يحسن فيه إنسان آخر التعامل مع الأرض، وهذه قاعدة تنطبق على أكثر من ثلاثين حضارة شاهدتها الأرض.

3- اشتراك الأمة كلها في الانتفاع بمصادر الثروة العامة، وعدم احتكارها من قبل فئة أو طبقة

وهو ما يوجه إليه قوله تعالى :

{كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} (الحشر : 7)

وفي تفسير الطبري : أن الحكمة من قوله تعالى :  {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (البقرة : 188). إشارة إلى أن المال للأمة مجتمعة. ف”الباطل” هو أن يحتكره البعض دون البعض الآخر، أو يستأثر بوافره دون الآخرين. لأن الأصل في مفهوم الأمة المسلمة أنها كالجسد الواحد، وأن الغاية هي توفير أمنها مجتمعة، فإذا ظهر التفاوت وصار المال دولة بين الأغنياء وحدهم، انعكست آثار ذلك على الجميع، ولم ينج من الأمة أحد، وإنما الأمر يختلف بتوقيت الهلاك، حيث يهلك المحرومون أولا، ثم يتبعهم المحتكرون. فالأصل في المال أنه لله، وأن الأمة كلها مستخلفة فيه، ولها مجتمعة حق الانتفاع به، شريطة أن لا يخرج مفهوم المال عن كونه “ماعونا” يعين الناس على إقامة أمور دينهم ودنياهم. وفـــي تفسير الصحابة لقوله تعالى :

- {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}(التوبة : 34).

هناك تفاسير متنوعة تتكامل جميعها لتقرر وجوب انتفاع الأمة كلها بمصادر الثروة، وعدم احتكارها من قبل فئات أو طبقات معينة.

ففريق على رأسه ـ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ـ يرون أن الكنز هو كل ما زاد عنأربعة آلآف درهم، أديت فيه الزكاة أم لم تؤد.

وفريق على رأسه ـ أبو ذر الغفاري وسالم بن الجعد ] يرون أن الكنز هو كل مال وجبت فيه الزكاة، ولم تؤد زكاته(1).

ولقد قدم رسول الله  الأشعريين نموذجا يجسد ” الإيواء” ويمثل التطبيق الأمثل لمبدأ المشاركة العامة بالثروة. والأشعريون هم جماعة من المسلمين ينسب إليهم الصحابي أبو موسى الأشعري ]. ولقد كان من “فقههم” ل” الإيواء” والمشاركة العامة في الثروة أنهم لا يكنزون شيئا دون بعضهم. فإذا انتابهم قحط في أيام السلم، أو حلت بهم ضائقة اقتصادية في أيام الحرب، جمعوا ما عندهم من المال والغذاء، ثم اقتسموه بالتساوي.

ولقد وصف رسول الله  عملهم هذا بقوله : “إن الأشعر يين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم، في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم”(2).

أي هم على سنتي، وهم النموذج الذي يمثل هذه السنة.

ولا شك أن كلا من الآية والحديث المذكورين يشير إلى أن الأصل في الاقتصاد الاسلامي هو ضمان حاجات الأمة مجتمعة. ولذلك يتوجب على التربية الإسلامية أن تضع في محور القيم الاقتصادية التي تنميها وجوب الاقتداء بأمثال “فقه الأشعريين”، و”فقه علي بن أبي طالب”، و”فقه أبي ذر وسالم بن الجعد” من الصحابة بهدف بلورة : علم اقتصاد إسلامي، ونظم اقتصادية إسلامية قادرة على إعادة التوازن في حاجات الأمة، كلما نزلت بالأمة أزمات اقتصادية، أو حدثت في صفوفها فروق طبقية، وهو الأمر الذي عزم الخليفة عمر بن الخطاب ] على فعله حينما قال : عزمت على أخذ فضول أموال أغنيائهم وردها إلى فقرائهم.

والواقع أن تربية الرسول  للمجتمع الذي بناه، قامت على جعل هذا التوازن الاقتصادي محور الحياة الاجتماعية، لأنه يجسد المظهر الاجتماعي للعبادة. وهذا المظهر هو محور صدق العبادة. والأمثلة لهذه السياسة النبوية كثيرة جدا. ومن أمثلتها قوله  :

- “المسلمون شركاء في ثلاث : في الماء، والكلأ، والنار”(3).

والإشارة إلى الموارد الثلاثة بالأسماء الواردة في الحديث، إنما هي إشارة إلى  مقومات الحياة الرئيسية في تلك البيئة الصحراوية، في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الإسلامي، فإذا تبدلت البيئة وتطورت المرحلة انسحب حكم الشراكة على -مقومات الحياة الرئيسية- للعيش فيها أيضا. إذ الأساس في “الإيواء” هو توفير الأمن الاقتصادي والاجتماعي، المفضي إلى الأمن الديني في مهجر الأمة. وكل ملكية فردية تزول وتتحول إلى الأمة، إذا قامت الحاجة لذلك، ومن توجيهات الرسول   في ذلك :

- “كل شيء سوى جلف هذا الطعام، والماء العذب، أو بيت يظله، فضل ليس لابن آدم فيه حق”(4).

ـ “ماعظمت نعمة الله على عبد إلا اشتد عليه مؤونة الناس. فمن لم يحتمل تلك المؤونة للناس، فقد عرض تلك النعمة للزوال”(5).

-”إن لله أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها إلى غيرهم، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم”(6).

ـ “إن إبليس يبعث أشد أصحابه، وأقوى أصحابه إلى من يصنع المعروف في ماله”(7).

4- حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للمعرفة الموصلة إلى الله تعالى :

إن مظاهر الانتفاع بالأرض التي مرت في البنود (1.2.3) ليست أهدافا نهائية في ذاتها وإنما هي أهداف خاصة تفضي إلى هدف عام أكبر وهو : حسن الانتفاع بالأرض باعتبارها أحد مختبرات الآفاق والأنفس التي يشاهد الإنسان فيها معجزات الله في خلقه، وشواهد ربوبيته، وبراهين توحيده في الطاعة والمحبة والولاية. وإلى هذا الهدف العام الكبير يوجه أمثال قوله تعالى :

- {إن في السموات والأرض لأيات للمؤمنين}(الجاثية : 3).

- {وفي الأرض ءايات للموقنين}(الذاريات : 20).

وتتنوع مظاهر المعرفة التي يوجه القرآن إلى ميادينها في الأرض :

فهناكتوجيهات إلى علوم “أصل الأنواع” ونشأة المخلوقات. والطريقة التي يرشد إليها القرآن في هذا الميدان، هي السير في الأرض، ودراسة ما على سطحها من كائنات ومخلوقات : {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}(العنكبوت : 20).

وهذا المنهج طبقه “دارون” حين سار في الأرض مبتدأ من جنوب أمريكا الجنوبية، ولكنه ـ بسبب منهج المعرفة الذي يفصل بين الوحي والعقل والحواس ـ ضل الفهم، وأخطأ تفسير ظواهر الخلق التي درسها. واليوم يكتشف العلماء الكثير من أخطاء “دارون” ومنهجه في البحث، ولكن يبدو أنه اكتشاف متأخر لأن آثار أخطاء “دارون” قد ترسخت في تطبيقات أفكاره في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية والأخلاق والقيم، وأفرزت أثارا مدمرة في حياة الفرد وعلاقات الجماعات.

وهناك توجيهات إلى مختلف العلوم الطبيعية المتعلقة بالأرض والكواكب، وما على الأرض من كائنات حية وجامدة، ومن أمثال هذه التوجيهات :

- {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا}(فاطر : 41),

ولقد اكتشفت البشرية بعض أدوات هذا الإمساك المتمثلة في الجاذبية وقوانينها، ولكن افتقارها لتوجيهات الوحي أعماها عن ـالحق ـ في هذا الاكتشاف.

- {خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار}(الزمر: 5).

- {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لأيات لقوم يعقلون}(البقرة : 164).

وهناك توجيهات إلى علوم الاجتماع البشري الذي جرى على الأرض، ودعوة للتنقيب في آثار المجتمعات السابقة، واكتشاف الأسباب التي أدت إلى انهيارها، وعمل سنن الله فيها :

- {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}(الروم : 9).

وخلال هذا التوجيه، يلفت القرآن الكريم الانتباه إلى أن كثيرا من الأجيال السابقة، قد عمرت الأرض وجعلت العلوم التي ساعدتها على التمكين في الأرض غاية بذاتها، وفرحت بها، وتكبرت وبطرت وانصرفت عن الغاية الكبرى، وهي طاعة الله، وتجسيد هذه الطاعة في ـ الإصلاح في الأرض ـ فكان مصيرها أن نزل بها ما كانت تستهزئ بالآخرين منه، من ضعف وتخلف وانهيار. وهذا هو الخطر الذي يتهدد الحضارة الحديثة التي فتنها التقدم العلمي والتكنولوجي، فراحت تحارب الله ورسله في كل الميادين، وترتكب نفس الخطأ في الفرح بالعلم، والوقوف عند ثمراته المادية، دون الانتقال إلى غاياته الإيمانية.

- {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون}(غافر : 83 -82).

وتتكرر الدعوة إلى السير في الأرض، شريطة أن تكون غايات هذا السير استعمال أدوات المعرفة من العقل والسمع والبصر للبحث عن مظاهر الحق في خلق الأرض، لا سير الغافلين عما يرون ويسمعون، الباحثين عن المتع الدنسة والشهوات الهابطة :

- {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}(الحج : 46).

والنتيجة النهائية لهذا السير في الأرض والبحث في خلقها، وما عليها، والأحداث التي جرت فوقها، هي تخريج نوع من البشر يظلون في ـ قراءة ـ دائمة لآيات الآفاق والأنفس، وذكر دائم، جوهره : {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}(آل عمران : 191).

———-

1- الطبري، تفسير البيان، ح 10، ص 117 – 121.

2-  صحيح مسلم ح 16، كتاب فضائل الصحابة. صحيح البخاري، كتاب المغازي.

3- مسند أحمد (تحقيق الساعاتي) ح 15، ص 132، رقم 23.

4- كنز العمال، ح 3، ص 398 نقلا عن الطبراني في الكبير.

5- كنز العمال، ح 6، ص 347 نقلا عن البيهقي في شعب الإيمان.

6- المتقي الهندي، كنز العمال، ح 6، ص 350 نقلا عن الطبراني في الكبير، والحلية لأبي نعيم.

7- المصدر نفسه : ص 349 نقلا عن الطبراني في الكبير.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>