رسائل جامعية : أحكام ولاية العلم والعلماء تجاه الدولة والـمجتمع(ü)


إن الدارس لحركة تاريخ الأمة الإسلامية منذ عهد الرسالة والخلافة الراشدة إلى اليوم، يدرك أن تقدم المسلمين وسيادتهم رهين بقوة اعتنائهم بقضية العلم عامة ، وبعلوم الشريعة وفقهها خاصة، وأن تخلفهم وانحطاطهم رهين بتلاشي اعتنائهم بهذه العلوم ، وجمود العقلية الفقهية ، وعدم قدرتها على الإجتهاد والتجديد ، واستيعاب قضايا الحياة ، ومستجدات العصر، وحل معضلات الدولة والمجتمع .

وعلى هذا الأساس ، فإن ازدهار العلوم الشرعية وفي مقدمتها الفقه الإسلامي ، هو المعيار الحقيقي الذي توزن به حياة الأمة وتقدمها في مختلف المجالات ، إذ إن الفقه في الدين – بهذا المقياس- هو جامعة الأمة الإسلامية ورابطتها، تدوم مادام وتنعدم ما انعدم .

ومن هذا المنطلق ، فإن إعادة الإعتبار للأمة، واحتلالها موقع الريادة والإمامة، في العالم رهين بقيام نهضة علمية جادة، وهذا يتطلب تجنيد جميع فعاليات الأمة وطاقاتها، وفي مقدمة ذلك علماؤها وفقهاؤها المخلصون، باعتبارهم ورثة الأنبياء وحفظة الشريعة وولاة الأمر في الأمة، فهم الذين يطلب منهم العناية بالبحث العلمي توجيها وترشيدا، والتركيز في ذلك على أهمية المنهج ودوره في الإقلاع العلمي والحضاري ، إذ بقدر تفقهنا في المنهج ورشدنا فيه، يكون مستوى انطلاقنا العلمي والحضاري كما وكيفا.

وعلى هذا الأساس فإن العودة بالمسألة العلمية عامة، وبعلوم الشريعة وفقهها خاصة، من الجمود والركود إلى الحيوية والنشاط ، ومن التقليد إلى الاجتهاد والتجديد، ومن التسيب والفوضى إلى الضبط والانضباط ، ومن العجلة إلى الحكمة، ومن السطحية إلى العمق والرسوخ، ومن الجهود الفردية العشوائية إلى الجهود الجماعية المنظمة الهادفة، تحتاج إلى أن يجعل المشروع العلمي الإسلامي عامة، والفقهي منه خاصة، من أولوياته الدفع في اتجاه التفقه في الدين وفهمه وتجديده، في إطار الثوابت والأصول، والمقاصد  الشرعية، كما تحتاج أيضا إلى فقه النظم الإسلامية، فقها حيا يبرز قدرة الشريعة الإسلامية على تأطير قضايا الدولة والمجتمع وحل معضلات الحياة واستيعاب مستجداتها.

إن الأمة الإسلامية اليوم، تمر بمرحلة دقيقة وخطيرة، وهي مرحلة تتسم بالضعف والوهن العلمي والحضاري ، ولا مخرج لها منها، إلا بالوعي بخطورة المرحلة التي تمر بها، والتخطيط العلمي الهادف لمرحلة جديدة، تستشرف آفاق مستقبلها العلمي والحضاري ، في إطار منهج قويم، يعتمد الاجتهاد في البحث والتحليل، ودراسة الأسباب والسنن المطردة، والمؤثرات السلبية التي آلت بالأمة إلى ما هي عليه، والدفع بها نحو الانتقال من الجهود العلمية الفردية المبذولة في هذا الاتجاه إلى جهود جماعية مؤسسية منظمة هادفة.

وبهذا تستعيد الأمة عافيتها وخيريتها من جديد، بفضل عودة ولاية العلم إلى الصدارة والريادة، باعتبارها أجل ولاية دينية ورثها العلماء عن الأنبياء، وعودة ولاية العلماء باعتبارها أعظم ولاية دينية وأشرف مؤسسة شرعية، إلى موقعها المطلوب شرعا وواقعا في حياة الناس ، حتى تؤديان وظيفتهما الرسالية تجاه الأمة والعالم .

وباتباع هذه الخطوات المنهجية ، تستمد العقلية العلمية عامة والفقهية خاصة قوتها وحيويتها، وتستأنف حياتها من جديد، فيتمكن بذلك الفقه الإسلامي من حل مشاكل الناس واستيعاب كل الأقضية والمستجدات ومواكبة تطورات الحياة، يقول الطاهر بن عاشور -رحمه الله – في هذا الإطار : ” الأمة الإسلامية بحاجة إلى علماء أهل نظر سديد في فقه الشريعة، وتمكن من معرفة مقاصدها وخبرة بمواضع الحاجة في الأمة ، ومقدرة على إمدادها بالمعالجة الشرعية لاستبقاء عظمتها، واستر فاء خروقها ووضع الهناء بمواضع النقب من أديمها …”(1).

ومن هاهنا كان البحث في قضية العلم والعلماء ورسالتهما تجاه المجتمع والدولة، من البحوث العلمية التي تستوجبها الشريعة، ويقتضيها العصر ويفرضها واقع الأمة وحاجتها، لما لذلك من أهمية في بعث أمتنا وإخراجها للناس من جديد.

ومن منطلق الإحساس بالواجب الشرعي نحو المسألة العلمية والعلمائية، والشعور بالمسؤولية تجاه الأمة، فقد اخترت البحث في هذا الموضوع ، فاستقر رأيي بعد تقليب نظر وتشاور، على أن يكون بحثي لنيل دكتوراة الدولة بعنوان : ” أحكام ولاية العلم والعلماء تجاه الدولة والمجتمع ” ، وأقصد بالأحكام : الأحكام الشرعية والفقهية التي تتعلق بقضية ولاية العلم والعلماء في واقع الناس وحياتهم، وبالعلم : العلم الشرعي باعتباره ولاية دينية وخطة شرعية- ورثها العلماء عن النبوة- لها أحكامها ومنهجها ومقاصدها ووسائلها، وبالعلماء : علماء الشريعة وفقهاؤها باعتبارهم ولاية دينية ومؤسسة شرعية، لها  أحكامها ووظيفتها الرساليةالتي ورثتها عن النبوة، لقوله  : >العلماء ورثة الأنبياء>(2) .

وقولـه أيضا : ( العلماء أمناء الرسل على عباد الله<(3) ، وهي وظيفة حفظ الشريعة وحراستها، وأمانة التفقه فيها وتفقيه الناس وتزكيتهم وإنذارهم، يقول الخطيب البغدادي في بيان هذه الوظيفة : ” وجعل – الله – شريعته مؤيدة إلى يوم الدين ، ووكل بحفظها من الصحابة والتابعين من تقوم به الحجة، وترتفع بقوله الشبهة وهم الفقهاء الذين ألزمهم حراسة شريعته والتفقه في دينه، فقال تبارك وتعالى : {كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}(4) ، وقال سبحانه : {وما كان المومنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}(5)”(6).

وقد أوجب الله تعالى الرجوع إلى طائفة العلماء في النوازل وإفتاءها في الحوادث الدينية والدنيوية، فقال سبحانه : {فاسألوا أهلالذكر إن كنتم لا تعلمون}(7) ، وقال أيضا :   {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}(8) ، فجعل سبحانه العلماء هاهنا هم ولاة أمر المسلمين، فأوجب طاعتهم لأنهم وراث النبوة في توقيع الشريعة على أفعال الناس وواقع حياتهم ومستجداتها، يقول الإمام الشاطبي في هذا المعنى: “وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي ، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ، ولذلك سموا أولي الأمر، وقورنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(9)”(10).

وبهذا صار العلماء يقومون في الأمة مقام النبوة، فاستحقوا بذلك وراثتها في ولاية العلم وإمامة الناس في قضايا الدين والدنيا، فكانوا بذلك حجة الله على عباده، فاكتفى بهم عن بعثة نبي وإرسال نذير(11).

ويدخل في هذا المعنى الولايتي للعلماء، علماء الخبرة وكل من يساعد بعلمه وتجربته في فقه الدين وتجديده، واستنباط أحكامه وحفظ شريعته، انطلاقا من منابعها الأصلية : القرآن والسنة، وذلك بالاسترشاد بكليات الدين ، وأصول الاجتهاد والاستنباط ، وضوابط التجديد المعتبرة عند علماء الأمة وفقهاء الشريعة.

وأقصد بالدولة : الدولة الإسلامية باعتبارها نظاما مؤسسيا، يقوم على الولايات والخطط الدينية والنظم والمؤسسات الشرعية، التي تقوم بمجموعها بوظيفة إقامة الدين وسياسة الدنيا به، وإصلاح أحوال الناس واستقامة أمورهم بقانون الشريعة.

وباعتبارها سلطة سياسية حاكمة، تتولى أمر تدبير الرعية وشؤون المجتمع وفق هدي الإسلام وأحكامه ومقاصد شريعته وسياسته الشرعية العادلة.

وأقصد بالمجتمع : جمهور الأمة أو ما يصطلح عليه بالرعية أو الشعب ، وكذلك الهيئات السياسية والمؤسسات المدنية، الاجتماعية والثقافية والعلمية والتربوية والدعوية وغيرها،المستقلة عن أجهزة الدولة ومؤسساتها.

انطلاقا من هذا التحديد ، فإن موضوع هذه الأطروحة ينتمي إلى أخصب مجال من مجالات العلوم الشرعية وأوسعها، وهو مجال الفقه الإسلامي عامة وفقه السياسة الشرعية خاصة.

هذا الفقه الذي يعتبر القانون الإسلامي المنظم لحياة البشرية، وأحوال المسلمين وعلاقاتهم الفردية والجماعية تجاه الخالق والأنفس والآفاق الكونية في عالم الدنيا، ويحدد علاقاتهم أيضا بعالم الآخرة ومصيرهم فيها. إنه بحق النظام الأجدر بإيجاد التشريعات المناسبة، والحلول الشرعية الملائمة لكل ما يستجد من تطورات، وما يحدث من وقائع وأقضية في حياة الإنسان الخاصة والعامة، وفي واقع الدولة والمجتمع، وفي العالم كله.

ولهذا فلا غرابة إذا وجدنا فقهاء السلف قد اعتنوا عناية خاصة بفقه الشريعة، وفقه مقاصدها إدراكا منهم لفضله وشرفه، وخيرية أهله لقوله  : >منيرد الله به خيرا يفقهه في الدين<(12).

وعلى هذا الأساس، فإن ما يمكن تقريره هاهنا، هو أن الفقه يمثل قمة العلوم الشرعية وعصارتها، إذ به يمكن للشريعة الإسلامية في الحياة، ويحكم لها بالصلاحية لكل زمان ومكان ، وبالاستيعاب لكل التطورات والتغيرات الإنسانية على اختلاف أنواعها ومستوياتها، ويرجع ذلك لما يتضمنه مصدراها الأصليان – القرآن والسنة- من كليات وأصول تخضع لها الفروع والجزئيات، وتنضبط لها الوقائع والأقضية كلما طرأت واستجدت.

وبهذا تتبين أهمية المجال العلمي الذي ينتمي إليه هذا البحث، فهو مجال حيوي مرتبط بحياة الناس وواقعهم، ويعالج قضاياهم وهمومهم الدينية والدنيوية معالجة شرعية، وقد كان هذا أحد الدوافع التي جعلتني أفكر في هذا الموضوع وأخوض  البحث في مضماره، ومن جملتها أيضا ما يلي :

> أولا : أحوال الأمة العلمية التي آلت إليها في هذا الزمان ، إذ بالنظر في هذه الأحوال يمكن أن   نلحظ عدة أمور منها:

أ-  إهمال المسألة العلمية إهمالا خطيرا لدى الخاصة والعامة ، “فما العامة من شدة طلبها أجبرت الخاصة على التعليم، ولا الخاصة من شدة حرصها اضطرت العامة إلى التعلم”(13).

-   فمؤسسات التربية والتعليم ، من مدارس ومعاهد وجامعات، تثير بحالها التساؤل عن وظيفتها أهي التعليم أم التجهيل ؟ أهي الترغيب في طلب العلم أم التنفير منه؟ أهي تخريج أجيال حاملة للأمانة بعلم، قادرة على الإستجابة للتحديات التي تواجه الأمة في مختلف المجالات بعلم، صانعة للمستقبل المنشود بعلم ، أم إنها تفريخ خلوف يجهلون أين يتجهون ، ويقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ؟(14).

-   ومؤسسات البحث العلمي الأكاديمي ، توجد في بعض البلاد وتنعدم في أخرى ، والموجودة منها على قلتها ، تعاني من الفقر وعدم الاهتداء بالتي هي أقوم منهجا وعلما، ولو أنها وجهت التوجيه المطلوب، واعتني بها العناية اللازمة من لدن العلماء ومؤسسات صنع القرار في بلاد المسلمين، ومن لدن الأغنياء في الأمة، لأحدثت نقلة نوعية وخيرا كبيرا في حياتنا، وفي تأثيرنا على غيرنا من الأمم ، بدل تأثرنا السلبي بها وتبعيتنا لها.

وبهذا فالأمة اليوم تعيش مرحلة الوهن العلمي ، مما أثر تلقائيا في ذاتيتها تجديدا وابتكارا وإبداعا، إذ قلما تجد بحوثا علمية تتميز بذلك، وهذا نتيجة طبيعية، إذ كيف يتصور تجديد واجتهاد وإبداع علمي متميز في أمة، مع الإهمال شبه التام للقضية العلمية فيها عامة، وللبحث العلمي خاصة .

- إلى جانب هذا فإن مساجد الأمة معطلة عن رسالتها الحضارية والعلمية ، التي أدتها في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وفي مراحل تاريخية أخرى ، مع مالها من قدرة اليوم أكثر مما مضى لو شغلت، في إحداث تحول عظيم في تعليم سواد الناس ، لانتشارها ويسر كلفتها على العلماء والمتعلمين والدولة، ولأثرها الرباني في متخرجيها.

- وكذلك مؤسسات الإعلام في بلاد المسلمين، فهي أيضا تؤدي رسالتها في الاتجاه غير الصحيح، بسبب ارتماء معظمها في أحضان سلبيات إعلام الآخر، وكأن الأمة لا تتميز عن غيرها بخصوصية إسلامية إعلامها، فأصبح بذلك معول هدم ووسيلة خطيرة للتجهيل والتضليل، في حين كان يمكن للإعلام الإسلامي الرسمي والمستقل أن يسهم ، بكل وسائله المتنوعة أكبر إسهام في تثقيف الأمة وتعليم سوادها، والرفع من مستواها العلمي والتربوي والخلقي، وتوعيتها برسالتها الحضارية في الحياة، يقول الدكتور الشاهد البوشيخي في هذا السياق:  “نظرة سريعة إلى كل ذلك، تكفي لمعرفة الدرك الذي تدنى إليه أمر الإهتمام بالعلم في الأمة اليوم، فتدنت بتدنيه وهانت بهوانه،  ومن يهن يسهل الهوان عليه”(15).

إن هذه الأحوال العلمية التي تعيشها الأمة تختلف تماما عما كان يجب أن تكون عليه أمة اقرأ التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهذا يفرض وقفة للتأمل ، ومراجعة تامة للسير العلمي، بدءا من التعليم ، فالإعلام، فالبحث العلمي، مادة ومنهاجا وأطرا، حتى نستجيب لحاجة الذات، ومصلحة الأمة بدل الاستجابة لأغراض الغير والانخراط في مشروعه(16).

ب- الإضطراب في الرؤية والمنهج ، فالناظرون في أمور العلم والتعليم ومستقبل المسألة العلمية في هذه الأمة مختلفون، منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة، ومنهم من يريد العلم بمفهومه الغربي ، ومنهم من يريد العلم بمفهومه الموروث التقليدي ، ومنهم – وقليل ما هم- من يريد العلم بمفهومه القرآني الكلي الذي مصدره عالم الغيب والشهادة، وهو علم يتميز بثبات كلياته وأصوله، وهيمنته على علوم عالم الشهادة الجزئية المتجددة، التي يجب أن تدور في فلكه، فهو باعتباره وحيا المؤطر والموجه للعلوم الكونية المادية والإنسانية .

وعلى أساس هذا المفهوم يجب أن تصنف العلوم، ويكون إبصار المستقبل العلمي للأمة، وتكون الرؤية واضحة منطلقا وغاية ووسيلة، حيث تنطلق من الأصول حتى تؤمن الوصول .

> ثانيا :  حال علماء الأمة ، وهو ثمرة لحالها العلمي، حيث غاب دورهم وماتت رسالتهم أو كادت، حتى صار وجودهم كالعدم أو كاد، فلم يعد لولايتهم أثرها في توجيه الأمة وترشيدها، وفي تولي أمرها وسياستها ، وصنع القرار الذي يهم البلاد والعباد، ويؤطر الدولة والمجتمع، وليس لهم مؤسسات شرعية هادفة ومؤثرة تنظم أمورهم، وتؤطر    جهودهم ، وتوحد رؤيتهم، وتضبط اجتهاداتهم وعطاءاتهم العلمية، حتى يعم نفعها وتنفخ الروح في جسد هذه الأمة، فتحيى بحياة علمائها.

>  ثالثا : غياب المؤسسات الشرعية والولايات الدينية والنظم الإسلامية ، التي تقوم عليها الدولة والمجتمع في النظام الإسلامي، في مختلف مجالات الدين والدنيا، غيابا كليا أو شبه كلي، فحلت محلها نظم وولايات مستوردة، مما أفضى إلى تعطيل نظام الإسلام وشريعته وسياسته العادلة في حياة المسلمين .

> رابعا : جهل الكثير من أبناء الأمة قادة ومثقفين وغيرهم ، بصلاحية الإسلام وقدرته على تدبير شؤون الحياة كلها، وسياسة أمر الناس فيها، وأن علماء المسلمين المجتهدين أبدعوا في هذا المجال إبداعات عظيمة، وما علينا نحن في هذا العصر إلا أن نستمر في طريق الإبداع والإجتهاد والتجديد،لإبراز صلاحية هذا الدين الخالد، وقدرة شريعته الخلاقة على إدارة شؤون الدولة والمجتمع وتدبير أمور الناس في هذه الحياة .

كل هذه الدوافع ، جعلتني أستشعر خطورة الوضع الراهن لقضية العلم والعلماء والأمة عامة ، فحملتني على البحث في هذا الموضوع رغبة في التفقه في الدين ، والإسهام قدر المستطاع في الدفع نحو بعث المسألة العلمية في الإسلام ، باعتبارها ولاية دينية وخطة شرعية هي أساس بعث هذه الأمة والنهوض بها .

والدفع أيضا في اتجاه بعث رسالة العلماء، باعتبارهم ولاية دينية ومؤسسة شرعية وباعتبارهم وراث علم النبوة ووظائفها في الأمة .

والدفع كذلك في اتجاه بعث النظم الإسلامية، باعتبارها نظما مؤسسية متجددة ، تبرز هيمنة الإسلام على الحياة كلها، وأنه دين ينظم شؤون الدنيا والآخرة معا في تناسق وانسجام تامين .

وبهذا ينضاف هذا الجهد المتواضع إلى الجهود المتواصلة، التي سبقت والتي ستأتي بعد في هذا المجال، فيسهم بدوره بإذن الله ، في وضع لبنة أخرى تنير الطريق العلمي للأمة، وتؤسس لحركة فقهية جادة تبشر بمستقبلية الإسلام وقيادة أمته للعالم من جديد .

وقد جاء هذا البحث بعد ما اتضحت جوانبه حسب ما أسفرت عنه الدراسة مادة ومنهاجا، وطريقة واستنتاجا، موزعا على  قسمين  بعد مقدمة وخاتمة .

خصصت القسم الأول لبيان : “أحكام ولاية العلم والتعليم والعلماء في الإسلام” وقسمته إلى بابين :

خصصت الباب الأول لبيان :  أحكـام ولايـة العلـم والتعليــم والمتعلمين في الإسلام” ، والباب الثاني لبيان : “ولاية العلماء وأحكامها في الإسلام”.

وخصصت القسم الثاني للنظم الإسلامية والسياسة الشرعية ، وسميته : “العلماء وأحكام المؤسسات الولائية والنظم الإدارية والسياسية الإسلامية للدولة والمجتمع” ، وقسمته إلى ثلاثة أبواب،الأول : “العلماء والتنظير العلمي في مجال السياسة الشرعية للدولة والمجتمع” ، والثاني : “العلماء وأحكام ولاية رئاسة الدولة الإسلامية ومؤسسة ولاية الشورى” ، والثالث : ” العلماء وأحكام مؤسسة ولاية الإجتهاد والإفتاء والحسبة والقضاء والمظالم والمالية والإقتصاد والزكاة والجهاد”.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن قسمي البحث وأبوابه، وجميع فقراته وعناصره ، تكمل بعضها البعض ، ولذلك فقد جاء متماسك الجوانب متسلسل الفقرات بعضها يفضي إلـى   بعض ، فالتقديم بالباب الأول من القسم الأول أملته الضرورة العلمية والمنهجية للبحث ، ذلك أن البدء ببيان أحكام ولاية العلم والتعليم يجب أن تعطى لها الأولية، فالعلم باعتباره ولاية دينية وخطة شرعية، هو الحاكم والسلطان والإمام الذي يتقدم كل شيء ، ولا ينبغي أن يتقدم عليه في حياة الناس أي شيء ، فهو المؤطر والمنظم لها والحاكم فيها.

ثم إن ولاية العلم هي أساس كل الولايات الشرعية،  ولا قيام لها إلا بها ، بل إن قيام الدين كله متوقف على ولاية العلم فهما وتفقها ، وتبليغا ودعوة ، وتحكيما ونظاما ، ومنهاج حياة شامل ، فاقتضى ذلك تقديم بيان أحكام هذه الولاية تأسيا بسنة الوحي في التنزيل حيث كان البدء بالدعوة إلى القراءة والعلم وتقديمه على كل شيء ، وهذا منهج رباني يجب مراعاته.

و ثنيت ببيان أحكام ولاية العلماء بناء على ما تقدم، فالوصول إلى درجة العالمية، هو السبيل إلى إرث العلماء لعلم النبوة واعتبارهم ولاية دينية ومؤسسة شرعية، وهذه الولاية لا تتم إلا بولاية العلم أولا.

ثم يأتي القسم الثاني لبيان النظم الإسلامية والسياسة الشرعية، وهو أمر لا يتم إلا بولاية العلم والعلماء، إذ لا يمكن الحديث عن نظم الإسلام، وولاياته، ومؤسساته، وأحكامها، وكل ما يتعلق بها، إلا في إطار ولاية العلم الإسلامية ومؤسسة ولاية العلماء الشرعية باعتبارها أجل الولايات، وولية أمرها، والحاكمة عليها، تنظيرا و بيانا وتنظيما وضبطا، مما اقتضى ترتيب أبواب قسمي البحث على هذا النسق العلمي والمنهجي المتكامل .

وأما الخاتمة فقد ضمنتها أهم الإستنتاجات التي خلص إليها البحث، وأشرت فيها إلى بعض الإقتراحات العلمية التي تفتح آفاقا جديدة للبحث العلمي في مجال الفقه الإسلامي عامة، والفقه السياسي الشرعي والنظم الإسلامية للدولة والمجتمع خاصة .

وبهذا فإن هذه المحاولة المتواضعة، تعتبر لبنة جديدة تنضاف إلى اللبنات العلمية الجادة، التي سبقتها في هذا المشروع الفقهي العظيم والمتجدد، وهي تمتاز بكونها تفتح الآفاق أمام الباحثين في عدة مجالات فقهية وسياسية، لم يعط لها حقها في البحث والتأصيل ، مع حاجة الأمة إليها، لما لها من دور كبير في تأطير الناس وضبط الحياة الإجتماعية العامة للأمة.

إلى جانب هذا، فإن هذه المحاولة تمتاز أيضا  بكونها تهدف إلى إبراز البعد الولايتي للعلم، والبعد المؤسسي لولاية العلماء، وللولايات والنظم الإسلامية، التي يقوم عليها النظام السياسي والإداري للدولة والمجتمع، وهذا مجال لـه قيمته العلمية المتميزة وخاصة في عصرنا، لأنه يبرز الإسلام  باعتباره نظاما حضاريا، سياسيا، شوريا، مؤسسيا، يؤمه العلم والعلماء، فولاياته ومؤسساته كلها تقوم على قاعدة ولاية العلم وقوامة المنهج والسلوك  المستقيم المستمد من هدايات الوحي وبصائره وأحكام شريعته.

وحاجة الأمة إلى إبراز هذه القضايا التي لا قيام لها إلا بفقهها والعمل بمقتضاها وفي إطارها،هي بمثابة حاجة الإنسان إلى الروح، فالإنسان بدون روح مادة ميتة لا يرجى منها نفع، وكذلك الأمر هاهنا بالنسبة للأمة فهي بدون ولاية العلم والعلماء، وبدون نظم الإسلام التي تؤطر حياتها، وتنظم أمورها، وتدبر مصالحها، أمة ميتة، فالحياة الحقة في هذه الدنيا، هي الحياة في ظل ولاية العلم وإمامة العلماء وقيادتهم، وفي إطار نظم الشريعة الإسلامية وقوانينها العادلة في السياسة والحكم والإدارة لكافة شؤون الدولة والمجتمع .

بهذه الأمور تحيا أمتنا وتهتدي للتي هي أقوم في جميع أمورها، وتعيش حياة العزة والكرامة، كما عاشتها في عصر النبوة والخلافة الراشدة .

———-

(ü) مقتطف من تقرير لرسالة الدكتوراه.

1- مقاصد الشريعة الإسلامية : 151.

2- رواه ابن حبان في صحيحه : 1/289 – 290، باب ذكـر وصـف العلمـاء الـذيـن لهـم الفضـل رقــم : 88. وأبوبكر الهيثمي في موارد الظمآن : 49 ، بــاب طـلب العلــم والرحلــة فيــه رقـــم : 80. وأبـو داود في سننــه : 3/317، كتاب العلم باب الحث على طلب العلم رقم : 3641.

3-  الديلمي : الفردوس بمأثور الخطاب : 3/75 رقم : 4210. والعجلوني :  كشف الخفاء : 2/84 رقم : 1748

4- آل عمران : 78.      //   5- التوبة : 123.

6- الفقيه والمتفقه : 1/1.

7-  النحل : 43.       //    8- النساء : 82.

9- النساء : 58.

10- الموافقات : 4/246.

11- الفقيه والمتفقه : 1/ 2.

12- أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين رقم : 71. ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة رقم : 1037. والترميذي في العلم باب إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين رقم : 2569. وقال : حديث صحيح، وابن عبد البر في التمهيد : 23/78 رقم : 207.

13- مجلة الهدى المغربية ع : 33 ص : 32 .

14-  الهدى : ع  33 ص :  32 .

15-  الهدى : ع : 33 ص : 33.

16- نفسه:  33 .

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>