من نافلة القول إن طرق العمل الدعوي الإسلامي تعددت وتنوعت، وتنوع معها الخطاب الدعوي من مركز على التربية إلى آخر مركز على السياسة وثالث على الثقافة… وفي هذه الصفحة سنعيش ـ على مدى حلقات بحول الله ـ مع الأستاذ محمد فتح الله كولن أحد قيادات العمل الاسلامي في تركيا وأحد الناهلين من معين تراث الشيخ بديع الزمان النورسي رحمه الله، وسنطل على التجربة التركية الغنية من خلال كتابه (طرق الإرشاد في الفكر والحياة) الذي يعتبر كتابا في (فقه المعاناة والألم من أجل الدعوة إلى الله) والذي ترجمه إلى العربية ذ. إحسان قاسم الصالحي رئيس مركز رسائل النور بتركيا.
وقد تطرق الأستاذ كولن في الأعداد الماضية إلى مهمة التبليغ التي تقلل الانحرافات في المجتمعات البشرية وتنير دروب الظلام لبناء مجتمع القيم الفاضلة، ولا يتحقق ذلك إلا بقيام الإنسان بمهمته الاستخلافية في الأرض كما تحدث عن الحاجة إلى التبليغ ومكتسباته. ونواصل في هذا العدد هذه الرحلة الممتعة مع الأستاذ كولن في الحلقة السابعة :
الحلقة السابعة : علاقة العلم والإرشاد
لكل علم تعريفه الخاص به، ولكل عمل فنّه وتقنيته الخاصة به، ومن دون هذا التعريف وهذه التقنية لا يمكن الخوض في أي فرع من فروع العلم ولا أية جهة من جهات العمل. ولما كان التبليغ أقدس عمل للمسلم فلا شك أن له أصولاً وفنوناً خاصة به. وأي تبليغ لا يراعى فيه هذه الأمور لا يجدي نفعاً سوى بذل جهدٍ لا طائل من ورائه. أما ما يحرز من نجاح وقتي فهو إخفاق ضمني، لأنه بلا غد.
سنورد بعض فنون التبليغ وتقنيته على صورة مواد، ولكن نسبق ذلك بالقول: بأن أصول التبليغ والإرشاد وفنونه لا تنحصر على ما نذكره، علماً أن ما نحاول أن نقدمه من أصول وقواعد قد اتخذ فيه جانب التطبيق العملي أساساً وأعدّت في ضوء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ممَّن خبرها في الواقع العملي، فجالس رجالات الإرشاد والتبليغ منذ عهد الصبا، حتى تعهده وظيفة رسمية في نطاق واسع.
هذا وقد لا تتوافق بعض تعابيرنا مع عالم الحقيقة والواقع، وتلك هي من نقصنا وقصورنا.
ودستورنا في هذا الصدد: إن الأفكار التي يُعبَّر عنها بالحياة تستحق الحياة.
لا بد أن يكون مجهزاً بالعلم كل من يتولى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ذلك لأن العلم والتبليغ وجهان لحقيقة واحدة. فعلى الداعية أن ينشئ نفسه جيداً بحقائق دينه الذي يريد تبليغه للآخرين، وإلاّ يكون سبباً لإخفاقات كثيرة، بل قد ينفّر مخاطبيه عنه وعن دينه. وما هذه النتيجة إلاّ تجاوز على الحقوق الدينية والدنيوية له ولغيره.
سنذكر في هذا الفصل مفهومنا للعلم عامة، ثم نسعى لبسط علاقة الإرشاد والعلم والعمل.
العلم في عالم الوجود كله محراب سيدنا آدم، وهو يتجسم ليصبح سفينة سيدنا نوح، ويصبح سيدنا نوح في السفينة ، وهو في سيدنا إبراهيم وديان جارية بمسيل الوحي الإلهي، وهو يتجسم ليصبح الطور في سيدنا موسى ، أو يصبح سيدنا موسى في الطور.. لذا فما يُرى في الكائنات قالب واللب هو العلم.
ما العلم؟ العلم هو معرفة الإنسان لربه بعد معرفة نفسه، أو رؤية الإنسان لربه بجعل نفسه مرصاداً لمشاهدة “الصفات” و”الأسماء” الإلهية، بما يكتشفه في مشاعره، وسعيه للوصول إلى معرفة ربه والعلم به. هذا هو العلم الحقيقي، كما عبّر عنه الشاعر يونس أمرة ضارباً في صميم العلم:
العلم هو أن تعرف
أن تعرف نفسك
فإن لم تعرفها
فالعفاء على ما قرأت
أما قولهم: “من عَرف نفسَه فقد عرف ربَّه” فهو كلام بليغ ذو مغزى دقيق يكاد يُقبل حديثاً نبوياً، وهو ليس بحديث شريف بل دستور رصين قيّم من حيث المغزى والمعنى، والقرآن الكريم يسند هذا الدستور بالآية الكريمة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}(الحشر :19).
نعم إذا نسيتم الله، يُنسيكم أنفسكم وذاتكم. وإذا ما نسيتم أنفسكم تبتعدون عن الله. وعنده تغفلون وتصبحون غرباء عن أنفسكم فتنسونها. وهكذا تتكون دائرة فاسدة تولد إحداها الأخرى وتغذيها، ومن يدخل في هذه الدائرة الفاسدة من الصعوبة بمكان أن ينجو، بل ينقلب على عقبيه، ويذهب هدرا. ويمكن أن نفهم من الآية الكريمة معنى آخر وهو:
احذروا أن تنسوا الله، فينسيكم أنفسَكم، وعنده تنشغلون بالخارج فحسب، فتتحول أنظاركم إلى الآفاق وحدها، فلا توجهون مجال تفكركم ومحاسبتكم إلى أنفسكم. فتجد من يتكلم عن الإسلام، وعن القرآن ولكنه ينتظر تطبيق أحكامه من الآخرين، وربما يهمل أقرب الأقربين إليك أحكام الإسلام ويحقرها جهاراً وفي بيتك، وأنت لا تراهم حيث كثفت نظرك إلى الآخرين منتظراً منهم ما تريد. وكم هو حزين إطلاق الهتافات المطالبة بالإسلام والجولات في الأزقة والشوارع، متتبعاً خطوات الشياطين، ناسياً نفسه من دون أن يأخذها بالمحاسبة الدقيقة. من دون أن يتحرى يومياً مرات ومرات مدى علاقته مع ربه الجليل.
نعم، نحن كمن يتسلق ذرى الجبال، علينا أن نحسب حساباً دقيقاً أين سنضع أقدامنا وأين سنضرب الكلاّب (الخطاّف) ونربط الحبل، لأن أي خطأ نرتكبه – ولو كان تافهاً – يودى بحياتنا.
نعم! أليس عجباً أن ينسى الإنسان نفسه في المعبد والمسجد بل حتى في الكعبة والروضة المطهرة.. وأعترف متألماً أن عدد هؤلاء الذين ينسون أنفسهم في هذه الأماكن لا يحصى. فيا رب ما أعظم هذه الخسارة!
للعلم غاية، وهي أنه ينتج المعرفة الإلهية والمحبة الإلهية. إذ العلم الذي لا يضرم محبة الله في قلب الإنسان ولا يلهب ذوقه الروحاني – وهو ضمان نعيم الجنة – لا يعدّ علماً بلغ غايته. لأن العلم الذي بلغ الغاية وحققها هو منبع حياة لطائفنا، والشريان الدافق لمشاعرنا، وبدونه موت معنوي. فالعلم الذي يثني عليه ويحث عليه القرآن الكريم والحديث الشريف هو هذا العلم وليس غيره. بل هذا هو العلم.
وقد خضنا هذا الموضوع مع أنه ليس موضوعنا الأساس، إلاّ أنني أحب أن أتناول بعضاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تخص العلم:
1- {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}(الزمر:146).
أي هل العلم الذي يأخذ بيد الإنسان إلى الله تعالى سواء مع الذي يسجن الإنسان في المختبر؟ وهل يستوي العلم الذي يوصل من يراقب النجوم أمام التلسكوب ناوياً أن يصعد بمدارج من نور إلى الله والعلم الذي يسمّر نظره في النجوم وأنظمتها؟. وبتعبير أوضح هل يستوي هذان اللذان يملك كل منهما زاوية نظر مختلفة عن الأخرى؟
إن مَن يجول في بطون الكتب كالفأر متتبعاً خزينة الأسرار يصرف جلّ عمره في كتابة الحواشي والشروح من دون أن يقرأ سطراً واحداً من علم الحقيقة، هذا الذي يطلق عليه اسم العالم، هو بالتعبير القرآني كمن يحمل أسفاراً. أين هذا من الإنسان الكامل الذي يقرأ سطراً وإذا به يحلّق في السماوات ويعيش في كل آن في نشوة وانتشاء روحي. أظن أن الفرق بينهما كالفرق بين “لا شيء” و”كل شيء”. فالعلم الموصل إلى الله “كل شيء” والذي يتركك في الطريق “لا شيء”.
2- {(إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(فاطر:28).
واضح جداً الإشادة بالعلم والثناء على العلماء في هذه الآية الكريمة. ولكن الثناء يكون في موصوفه، أي في الإنسان الواقف في خشوع بعلمه تجاه ربه. ولكل علم ثقله وأهميته. والرسول يقول: >إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ<(1).
نعم! لئن كانت زمرة من البشر يرون الحقيقة على نصاعتها دون غبش، فهم الأنبياء عليهم السلام. أما نحن فنستطيع أن ننفذ إلى الحقيقة بوساطة النور الذي يشعّه كلامهم. حيث لا يمكن لإنسان كائناً مَن كان أن يجد الحقيقة المطلقة من دون أن يدخل تحت وصايا نبي من الأنبياء. وربما يكشف عن بعض الحقائق القريبة من الصواب بجهوده وسعيه، أما الصواب المطلق فلا يمكنه الكشف عنه إلاّ بدلالة الأنبياء عليهم السلام. ولهذا فالأنبياء هم الوارثون الحقيقيون لله، ومن بعدهم العباد الصالحون. والقرآن الكريم يشير إلى عباد الله الصالحين الذين يرثون الأرض، وجلي تلك العلاقة بين الحديث المذكور وهذه الآية التي تعني: أن عباد الله الصالحين هم الذين يستحقون أن يكونوا خلفاء الأرض وهم الوارثون للأنبياء وليس غيرهم. ذلك لأن النبي ترجمان الصواب، وبمقدار تحقق أي إنسان ليكون مترجماً للصواب يكون وارثاً حقاً للأنبياء.
———
(1) البخاري، العلم 10.
إعداد : محمد البنعيادي