مفهوم التقوى :
مراقبة الله في كل الأحوال
إن الحديث عن التقوى طويل، المهم أنها حالة من الرقابة على جميع الجوارح. في الأكل مثلا هل الذي تأكله حلال أم حرام، هل هو طعام مستورد، هل ذُبِح ذبحا شرعيا؟ هذه أسئلة تدل على إنسان فيه خير. وهكذا أمرنا الإسلام أن نكون، أن نكون بضمائر وقلوب حية تحاول أن لا تخالف الله عز وجل. وهذا هو معنى التقوى بكيفية جامعة.
تقوى الله عز وجل على قدر الاستطاعة هي تقوى الله حقا وصدقا
الله تعالى يأمرنا في هذه الآية فيقول {فاتقوا الله ما استطعتم} الحديث يجب أن يتركز على كلمة {ما استطعتم}.
ونرجع إلى بعض التفاسير فنجد فيها أقوالا كثيرة، بعض المفسرين قالوا : إن الذي نزل في القرآن أولا هو قول الله تعالى : {فاتقوا الله حق تقاته} أي أمرنا أن نتقي الله حق تقاته،قالوا : فشق ذلك على المسلمين وربما سألوا النبي وقالوا من يستطيع أن يتقي الله كما يستحق أي حق تقاته. إن التقوى بهذا المعنى الحقيق أن يطاع الله فلا يَُعْصَ وأن يُذْكَر فلاَ يُنْسَى وأن يُشْكَر فلا يُكْفر. من يستطيع أن يبقى على هذه الحالة دائما. طاعة بلا معصية، وذكرٌ بلا نسيان وشكرٌ بلا كفران.
الصحابة استعظموا هذا الأمر فسألوا : ومن يستطيع ذلك؟ فأنزل الله تعالى فيما بعد : {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال بعض العلماء: إن هذه الآية ناسخة للأولى، أي الآية الأولى التي يأمرنا الله تعالى بأن نتقيه حق تقاته هذه نُسِخت بهذه الآية الثانية. وهذا الكلام في الحقيقة ليس سليما لأن المحققين من المفسرين ومن علماء الأصول لم يروا أن هناك ناسخا ومنسوخا في الآيتين. أي الآية الثانية ليست ناسخة للآية الأولى أبداً. إنما هي موضِّحة ومبيِّنة وكاشفة، بمعنى : أنت مفروض فيك أن تتقي الله حق تقاته ولازلت مطالَباً بذلك، ، ولكن وأنت تتقي الله عز وجل وتريد أن تتقيه حق تقاته لا تستطيع أن تخرج عن إنسانيتك وقُدْرتك. لا يمكنك أن تأتي إلا بالأشياء التي هي في طوقك ومقدورك، بمعنى تقوى الله حق تقاته مطلوب منك، وأنت تسعى إلى هذا الأمر، لكن سعيك له مرهون بطاقتك أنت وقدرتك. فأنت إن أردت أن تتقي الله حق تقاته مثلا لا يمكنك أن تصوم الدهر كله ولا تفطر أبداً، لكن جسدك لا يساعدك على ذلك. إنك ترى أن من حق الله عليك أن تَخْرُج لله عن كل مالك لأن المال كله له، ولكن حياتك أيضا لا تساعدك على ذلك. فأنت تحتاج إلى بعض المال لتتقوى به ولتستمر في الحياة. إذن فتقوى الله مطلوبة لك ولكن يمكن مع ذلك أن لا تؤدي هذه التقوى إلا في حدود طاعتك واستطاعتك. فلا تناقض بين الآيتين : الأولى والأخرى، وليس هناك ناسخ ولا منسوخ أبداً، لأن الإنسان حينما يريد أن يأتي عملا عظيما، حينما يريد أن يُهدي شيئا فإنه يُهدي لمن أهْدَى له شيئا في نظره هو أغْلَى ما يملك، وأحْسنُ ما عنده. لذلك قالوا : >الهدِيَّةُ على قَدْر المُهْدِي لا على قدر المُهْدَى له< هذا مثلا إنسان له مَرَتَّبٌ ومنْصِبٌ عظيم كبير، وأراد الناسُ أن يُهْدُوا له أشياء فجاء إنسان لا يملك شيئا أصلا، إنما وجد مثلا أمامهُ زَهْرةً فقَطَفها وأهداها له. فهذه الزهرة بالنسبة لما يملك ذلك الإنسان المُهدى له ليست شيئا، لأنه يملك من الأموال الشيء الكثير، ولكن الزهرة ليست معبرة عن مقدار ذلك الشخص، وإنما هي دالة على قدرة المُهدي ويأتي من هو أحسن من هذا حالا فلا يُهدي ذلك وإنما يهدي له شيئا مثلا له قيمة وثمن مادِيّ. ويأتي رجلٌ أغنى فيُهْدي له سيارة، ويأتي آخر فيُهْدي ما هو أكبر من السيارة أو نوعا فاخراً وهكذا ترون أن الهدايا تتدرج بحسب مواقع الناس وطبقاتهم والمُهْدَى له ليس إلا شخصاً واحداً، فهل قيمةُ ذلك المُهْدي ترجحت أم أن قِيم وطاقات المهدين هي التي اختلفت. فطاعات المُهْدين هي التي اختلفت. لذلك قيل إن الهدية على قدر المُهْدي لا على قدر المُهْدى له.
فنحن إن اجتمعنا جميعا على أن نقدم لله شيئا بل لو اجتمع الإنس والجن واتفقوا وتوحدوا على أن يقدموا لله شيئا شكرا له، ويعبرون به عن عظمة الله تعالى لما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. لو اجتمع البشر كلهم على أن يقدموا لله تعالى شيئا في مستوى عظمته لما استطاعوا أبدا. إنما يقدمون أشياء هي في حد ذاتها معبرة عنهم. نحن نهدي لله في عيد الأضحى شاة نذبحها لنتقرب بها إلى الله. ما قيمة هاته الشاة بالنسبة لعظمة الله تعالى لأن هذه الشاة نفسها هي مخلوقة لله، أنت ما تقربت إلى الله بشيء هي له. وهل شياه الأرض كلها لو ذُبحت تستطيع أن يفِي بحق لله عز وجل. أبداً إذن فتقوى الله حقيقة بالنسبة لذات الله غير ممكنة، لكن تقوى الله حقيقة على حسب طاقتنا وفي مقدورنا هي الأمر النسبي الذي نستطيع. أي أقصى ما يمكنك أن تبذله لله عز وجل فافْعَلْ، فلا زلت أنت مطالبا بأن تتقي الله حق تقاته في نفسك، لا في حقيقته هو سبحانه وتعالى. اتق الله بالدرجة التي تراها أنك تكون قد أرضيت بها ربك. اتق الله بالدرجة التي يُهيّأ لك أنك لم تقصر وتظن أنك قد رفعت عن نفسك اللوم والعتاب من الله عز وجل. لا تقصِّر ولا تدَّخِر وُسعاً. إذن بإمكاننا أن نفعل أشياء وأشياء وأن نأتي أموراً كثيرة نُعبِّر بها عن تقوى الله حق تقاته لكن المُوْسِف أننا لا نسعى إلى أن نتقي الله حق تقاته ويبقى عندنا فراغ ومجال كبير للطاعة هو مهجور لا نملأه بالطاعة. من منا مثلا يمكنه أن يتقرب إلى الله بأن يصلي كذا من الركعات ليلا. الكثير منا يستطيع أن يصلي 4 أو 10 ركعات أو أكثر على قدر إيماننا ولكننا لا نفعل.. فالقليل منا ينوي الصلاة في داره بعد الصلاة في المسجد. إذن كم فاتنا من الأجر.
كم منا بإمكانه أن يعطي جهدا لقراءة القرآن وهو قربة عظيمة إلى الله. وكم منا الآن له طاقة مهدرة ذهنية. وكم منا الآن له حافظة قوية خاصة عند الشباب لكنها معطّلة. لو سخرت هذه الحافظة في حفظ شيء من القرآن لكانت تقربااً إلى الله تعالى.
إساءة فهم التقوى على حسب الاستطاعة هي المشكلة
إذن بإمكاننا أن نبذل. القضية التي وقعنا فيها هي أننا نسيء فهم قول الله تعالى : {فاتقوا الله ما استطعتم} حيث نفهمها فهما متدنيا، وهذا فهم عجيب جدا. الإسلام جاء ليرفع من نفوس الناس لا ليحطمهم والحمد لله نقولهابصراحة : المتدينون هم الأحسن بالمقارنة مع الناس الآخرين سواء كانوا تجاراً أو أطباء أو مهندسين أو موظفين، فهم في الحقيقة الذين يقومون بواجبهم ولا يسرقون ولا يرتشون.. على كل حال المؤمنون هم منبع الخير وهم الأمل والرجاء وهم الذين يمكنهم أن يُغَيّروا وجه الحياة والناس من وضع سيء إلى وضع أحسن. الإسلام جاء إذن ليرفع من قيم الناس إذن {فاتقوا الله حق تقاته} و{اتقوا الله ما استطعتم} ليس بينهما تعارض بل بينهما توضيح وبيان وهذا الذي ذكره كثير من المحققين والمفسرين.