الأرض أعظم مصادر العيش والحياة بدون منازع، ويعتمد مستقبل أية أمة إلى حد كبير على الطريقة التي تستعمل بها الأرض. وحين كان الإنسان يحسن التعايش مع الأرض، كانت الحضارات تقوم، وحين يسيء هذا التعايش، تنهار الحضارة، وترحل إلى مكان آخر يحسن فيه إنسان آخر التعامل مع الأرض، وهذه قاعدة تنطبق على أكثر من ثلاثين حضارة شاهدتها الأرض(1).
من قواعد حسن الانتفاع
والأساس في حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش، قاعدتان :
> الأولى : الإقامة في الأرض حيث تتوفر الحرية ـ خاصة حرية العبادة : {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} (العنكبوت : 56)، أي هاجروا واستقروا حيث تستطيعون عبادتي عبادة شاملة غير مجزأة. وعبادة متحررة من الضغوط المادية والنفسية والاجتماعية والفكرية.
> والثانية : حرية السفرفي مناكب الأرض كلها للتجارة والعمل، وإلى هذه الحرية الثانية يشير القرآن بتعابير : “الضرب في الأرض” و “السعي في مناكبها”، وتتكرر هذه الإشارة في كل من سور البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والمزمل.
ولا يجوز أن يحول بين الناس وبين الضرب في الأرض والسعي في مناكبها والأكل من رزق الله، عوائق التقسيمات الجغرافية، والجنسيات العصبية، وأيديولوجيات العلو والاستكبار، وأخلاق الجشع والإسراف :{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}(الملك : 15).
ولا يجوز -أيضا- أن تقف المعتقدات الدينية حواجز مانعة أمام الانتفاع بمصادر العيش في الأرض، ولذلك حين دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يخص “المؤمنين” من ساكني البلد الحرام بالأمن والثمرات ـ أي بنعمة الإيواء الأمني والمعيشي ـ جاءه الجواب الإلهي أن هذا “الإيواء” سوف يتمتع به “الكافرون” أيضا في فترة الحياة الدنيا القليلة، ثم يجزون على كفرهم في نــار الآخرة :{وإذ قال إبراهيم رَبِّ اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر، قال : ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}(البقرة : 126).
ومن هذا المنطلق نزل الوحي على رسول الله ، يأمر أبا بكر أن لا يوقف نفقته على من قذف ابنته عائشة أم المؤمنين، ويأمر الأنصار أن لا يوقفوا إنفاقهم على القربى والأنسباء من اليهود، الذين لم يستجيبوا للرسالة -كما مر في أعداد سابقة- لأن توفير الإيواء للكافر، يهيئ له أن يتفرغ للتأمل في آيات الله، وبراهين قدرته في الآفاق والأنفس.
وتتكرر التوجيهات الإلهية لأن يقوم الانتفاع بالأرض كمصدر العيش على تسميته ” أكل الحلال الطيب” والتحذير من أساليب الشيطان التي توجه إلى “الحرام الخبيث” : {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا،ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}(البقرة : 168).
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} (البقرة : 267).
{قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل ءآ الله أذن لكم أم على الله تفترون) (يونس : 59).
منهج الانتفاع بالأرض
وللانتفاع بخيرات الأرض منهجان، لا ثالث لهما :
- فإما منهج الله في “الحلال الطيب” الذي يفرز مفاهيم في الاقتصاد تهيئ لجميع الناس الانتفاع الجسدي والنفسي والعقلي، وتشيع التعاون والتكافل بينهم، وتوفر للجميع التمتع ب “الطيب” من الغذاء المؤدي إلى العافية والرخاء.
- وإما منهج الشيطان في “الحرام الخبيث” الذي يفرز نظريات في ـ الانتاج والاستهلاك ـ تصيب البشر كلهم بالضنك النفسي والجسدي والعقلي، وتشيع الاستغلال والاحتكار والابتزاز ونهب مقدرات الأفراد والشعوب، لصالح أقليات مترفة، تاركة للأكثرية الردىء ـ أو الخبيث ـ من الغذاء الجالب للأسقام، ومضاعفات المجاعات والفتن في الارض، والفساد الكبير.
ويوجز الرسول الآثار المتبادلة للمنهجين بقوله : “ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث” (2).
ويفصل الرسول التوجيهات القرآنية المتفرعة عن منهج “الحلال الطيب” وتطبيقاتها العملية في أحاديث كثيرة جدا يصعب حصرها، منها ما يلي :
- “مامن مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة”(3).
- “ما من رجل يغرس غرسا، إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغراس”(4).
- “إذا قامت القيامة وبيدك غرسة فاغرسها”(5).
كذلك يوجه إلى وجوب إزالة المعوقات التي تحول دون استثمار الأرض وزراعتها، وأهم هذه المعوقات : احتكارها ممن لا يزرعون ولا يعملون :
- “من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها، فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه”(6).
- “من كانت له أرض فليزرعها، أوفليحرثها أخاه، وإلا فليدعها”(7).
- وعن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ”(8)، وعن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه، فبلغه أن رافع بن خديج يحدث أن النبي نهى عن ذلك، فدخل عليه، وسأله، فقال : كان رسول الله ينهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر بعد(9).
ويلحق بالمعوقات التي تحول دون الانتفاع بالأرض : الاستيلاء عليها ظلما، وعدم تمكين الآخرين من الاستفادة منها. والتحذيرات النبوية في هذا صارمة وحازمة، منها قوله : “من اقتطع أرضا ظالما، لقي الله وهو عليه غضبان”(10).
- “من أخذ من الأرض شيئا ظلما، جاء يوم القيامة يحمل ترابها إلى المحشر”(11).
وأبشع أنواع الظلم المعاصر هو استغلال النفوذ للاستيلاء على الأرض، وتحويلها إلى سلعة تجارية باهظة الثمن، لا يقدر على دفعه إلا من أفنى عمره بالكد القاسي في أرجاء الأرض كلها، من أجل الحصول على مأوى لا يتعدى المائة متر مربع.
الاسلام ومفاهيم التملك
ويرتبط بهذه التوجيهات، ضرورة قيام التربية الإسلامية بإعادة النظر في مفاهيم التملك المطلق، التي أشاعتها عصور الملك العضوض، وبررت استيلاء أصحاب القوة والسلطان على الأرض رغم أنهم لا يعملون. والتربية ـ هناـ ملزمة أن تبني أصولها على نصوص القرآن والحديث وتطبيقات السنة وعصر الراشدين، وكل فهم يستبدل فتاوى “علماء السلاطين والخلفاء” في الماضي، أو “علماء السلطة” في الحاضر، بنصوص الوحي والسنة الصريحة في عدلها وإرشادها، فإنما يندرج تحت قوله تعالى : {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} (التوبة : 31). وحينما سئل عن معنى ربوبية الأحبار والرهبان أجاب : أنهم أحلوا الحرام وحرموا الحلال(12).
ولا بد للتربية الاسلامية أن تجتهد في تنمية حب العمل، وجعله من محاور القيم في الأمة، واعتباره الوسيلة الكريمة للعيش الكريم، حتى لا يفسح المجال للوسائل غير الكريمة التي تنال من عنصر”الإيواء” وتفسده. ولا بد للتربية الاسلامية كذلك أن تنفر من العجز والكسل اللذين عززتهما قيم العصبية، التي تحتققر العمل وتجعله من مهام الخدم والعبيد والمستضعفين. فالعجز مبغوض من الله، مدان من الرسول . ومن أمثال ذلك قوله : “إن الله عز وجل ليلوم على العجز. قابل من نفسك الجهد، وفإن غلبت، فقل : توكلت على الله وحسبي الله ونعم الوكيل”(13).
ولا بد للتربية الاسلامية أن تزكي القيم من المفاهيم الخاطئة للزهد، التي عززت الرضى بالفقر، وجعلته من سمات الصلاح والصالحين. فالمؤمنون مدعوون ـ في القرآن ـ للسعي في مناكب الأرض كلها لجمع المال، فإذا جمعوه بالأساليب المشروعة الكريمة، زهدوا به، فأنفقوه وانتفعوا به، ونفعوا غيرهم بالأساليب المشروعة، التي تحفظ الكرامات، ولا توقع تحت ضغوط الفاقة والحاجة. فهذا هو مفهوم الزهد الذي وجه إليه حين علم أصحابه أن الزهد ليس بإضاعة المال، وتحريم الحلال، وإنما الزهد أن يكون المؤمن أوثق بما في يد الله مما في يده فيعتدل في جمعه، ويسهل عليه إنفاقه(14).
وتتكرر التوجيهات النبوية في هذا المجال حتى لا تدع مجالا للغموض أو اللبس، من ذلك قوله :
-”خيركم من لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كَلاًّ على الناس”.
- “من استطاع منكم أن يقي دينه وعرضه بما له، فليفعل”.
- “إن الفاقة لأصحابي سعادة، وإن الغني للمؤمن في آخر الزمان سعادة”.
- “يا جابر لا عليك أن تمسك مالك، فإن لهذا الأمر مدة”(15).
- “يأتي على الناس زمان من لم يكن معه أصفر ولا أبيض، لم يتهن للعيش”.
- إذا كان آخر الزمان لا بد للناس فيها من الدراهم والدنانير، يقيم الرجل بها دينه ودنياه(16).
ولقد وعى فقهاء الصحابة هذه التوجيهات، وعلموها للشعوبالتي خرجت إليها بعوثهم الثقافية، من ذلك ما وجه إليه معاذ بن جبل معلم الشام واليمن حين قال :
- ” يا ابن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من ا لآخرة أحوج.
فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا، فانتظمها انتظاما. وإن بدأت بنصيبك من الدنيا، فاتك نصيبك من الآخرة، وأنت من الدنيا على خطر”(17).
والواقع أن القعود عن العمل، وجمع المال، والسيطرة على موارد من قبل غير المؤمنين، أضر بالاسلام والمسلمين والناس أجمعين في الداخل والخارج. ففي الداخل أخرس ألسنة العلماء عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن مواجهة الظالم بظلمه، بل تحول الكثير منهم إلى أدوات تبرر الظلم وتسوغه. أما في الخارج فإن حاجة الشعوب والأمم إلى المال، أجبرتها في كثير من المواقف والسياسات، على التنازل عن كراماتها واستقلالها وقيمها في الفضائل الانسانية.
ولا بد للتربية أن تتوسع في تشخيص “المشورات المدمرة” التي قدمها خبراء التربية الغربيين للأقطار الاسلامية في العصر الحديث. وكان من ثمارها تنظيم المناهج، وبناء آلاف المدارس والجامعات، التي تخرج الآلاف من المختصين بتحليل شعر بعر الآرام، ووصف المواقد ومرابض الجمال، والغزل والتشبيب، وتاريخ الغزوات القبلية، والفتن، بينما لم يؤسسوا إلا مدرسة زراعية أو صناعية واحدة، تقام في زاوية معزولة من زوايا القطر النائية، ثم لا يجد خريجوها العمل، أو الاحترام، ويكونون عينة مرعية، لما سيكون عليه المتخصص في الزراعة أو الصناعة.
……………………………
1- E Fritz, Schumacher Smallis Beautiful (New York : Harper Row Inc 1973) PP : 102- 103
2- صحيح البخاري، كتاب الأشربة.
3- صحيح البخاري : كتاب الحرث. ومثله : صحيح مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة.
4- مسند أحمد، ج 5، ص 415.
5- مسند أحمد، ج 3، ص 184، 191.
6- صحيح مسلم (شرح النووي)، ج 10، باب كراء الأرض، ص 197.
7- نفس المصدر، ص 199.
8- صحيح مسلم، ج 10، باب كراء الأرض، ص 197.
9- مسلم، الصحيح، (شرح النووي)، ج 10، باب كراء الأرض، ص 202.
10- مسلم، الصحيح (شرح النووي) ج 2، كتاب الإيمان.
11- البخاري، الصحيح، كتاب المظالم.
12- الطبراني، المعجم الكبير، ج 22، ص 269، رقم 690.
13- الطبري، التفسير، ج 10 (تفسير آية 31 من سورة التوبة) ص 114-115.
14- الطبراني، المصدر السابق، ج 8، ص 112، رقم 7475.
15- الترمذي، السنن، كتاب الزهد. ابن ماجة، السنن، كتاب الزهد.
16- المتقي الهندي، كنز العمال، ج 3، ص 283- 240.
17- الطبراني، المعجم الكبير، ج 20، ص 278-279 رقم 659، 660.
18- ابن تيمية، الفتاوي، كتاب الجهاد، ج 28، 396.”