لا ينازع باحث جاد أو متتبع لأحوال العرب والمسلمين في أن حياتنا الثقافية والسياسية تشهد منذ سنوات موجة تدين متعاظمة، وأن دائرة هذه الموجة تتسع يومًا بعد يوم، وأنها تشد إليها أعدادًا متزايدة من الكبار ومن الشباب.
لا ينازع باحث أو مؤرخ في أن من بين روافد الفكر السياسي والاجتماعي السائد وسط هذه الموجة رافدا يتزايد تأثيره وتزداد نبرة المتحدثين باسمه حدة وارتفاعًا، وهو رافد درجنا على تسميته “تيار الغضب الإسلامي”، ودرج كثير من الساسة والحكام في كثير من البلاد العربية والإسلامية على تسميته “التطرف الديني”، كما أطلق عليه المحللون والساسة في الغرب اسم “الأصولية” والأصوليين، ثم نقلوا هذا الاسم- عامدين- من أن يكون وصفا لجماعة مخصوصة إلى أن يصير عنوانًا على كل حركة ثقافية أو سياسية تتخذ من الإسلام وقيمه أساسًا لبرنامج عملها وللنهضة التي تبشر بها أو تدعو إليها. كل ذلك- فيما نظن- لا خلاف عليه من أحد. ولكن الذي نسعى- بهذه السطور- إلى تقريره وتسليط الضوء عليه، والتصدي لمواجهته، هو أن هناك جهدًا مقصودًا لجر حياتنا الثقافية والسياسية إلى سلسلة من المواجهات الساخنة مع أتباع هذا الرافد من روافد الثقافة والحركة في إطار الإسلام، وليتحول الأمر في مراحله التالية إلى مطاردة عامة لكل ما ينتسب إلى التيار الثقافي الواسع الذي يسعى لتحقيق نهضة الأمة على أساس من مبادئ الإسلام وثقافته وقيمه الحاكمة.
كسر الدائرة الخبيثة
وكذلك نحاول أن ننبه إلى ضرورة كسر هذه الدائرة الخبيثة، ووقف مسار هذه السلسلة من المواجهات التي تزرع القلق وتبث الفرقة وتشتت الجهد، والتي توشك أن تتحول إلى مشكلة أمنية وسياسية مزمنة تكتوي بآثارها المدمرة كل مجتمعات العرب والمسلمين.
إن الظاهرة التي نتحدث عنها تتمثل في أمرين متداخلين، يغذي أحدهما الآخر:
الأمر الأول: الترويج النشط والمستمر لمقولة خبيثة مؤداها أن روافد التيار الإسلامي كلها سواء، وأنها جميعًا- وبغير استثناء- تحمل بذور الأصولية والتطرف، وأن من يعرضون الإسلام اليوم على الناس في رفق وتعقل واعتدال وتواصل مع سائر الناس، ليسوا في حقيقتهم إلا رافدا من روافد الرجعية الدينية المتخفية وراء أقنعة براقة شديدة الذكاء، وأنهم لا يمارسون الاعتدال ولا يحترمون حريات الآخرين إلا من باب “التقية” والتكتيك السياسي المحسوب وأنهم حين تلوح الفرصة وتتغير الموازين لن يترددوا في خلع هذه الأقنعة، والانضمام من جديد إلى الكتيبة الأم، كتيبة الغضب والرفض والرجعية والعدوان على الآخرين.
وحين تنجح هذه المقولة الخبيثة في الاستيلاء على عقول الأبرياء وضمائر الشرفاء، فإن المجتمع ينفر من كل ما هو إسلامي، ويتباعد عن كل من يرفع شعارات الإسلام، أو يدعو إلى مبادئه، وبذلك تسقط الحضارة الإسلامية بكل أركانها ومعالمها، وبكل روافدها وتياراتها، كخيار حضاري مطروح على ساحة العمل الإصلاحي والنهضوي، ولا يبقى أمام العرب والمسلمين إلا خيار التبعية لحضارة القوى الكبرى ولأنظمتها وهياكلها السياسية والاجتماعية، ليتحقق بذلك الانتصار النهائي لتلك الحضارة وتتحقق معه مقولة نهاية التاريخ التي اكتسبت- رغم سذاجتها- بريقًا خاصًا في أعقاب سقوط الخيار الاشتراكي القائم على الماركسية وانفراد الخيار الرأسمالي الغربي بساحة الحركة الفكرية والسياسية للأمم والشعوب.
إننا نلمح في العديد من الأقطار الإسلامية نذر تصاعد خطير في موجة سوء الظن المتبادل بين الحكومات الإسلامية وتيار الإصلاح الإسلامي بجميع روافده، ونخشى- خشية لها ما يبررها- أن يكون أوان النظر الموضوعي الهادئ إلى هذه المشكلة قد فات، وأن يندفع الجميع إلى مواجهات ساخنة تخسر بها الشعوب العربية والإسلامية على جميع الجبهات. الإسلام والميراث المشترك
الأمر الثاني: الترويج لمقولة أخرى أشد خبثًا وأفدح خطرًا مؤداها أن الإسلام يلزم أتباعه بنسق فكري وسلوكي مناقض تمامًا لكل عناصر “الميراث المشترك” لسائر الأمم والشعوب، وهو نسق- في زعمهم- يناقض العلم، ويحارب العقل، ويروج للغيبية الفكرية والسلوكية، ويرصد جهوده لمحاربة الآخرين، ويضيق بحرياتهم، ويعد العدة لإكراههم على ما لا يحبون، ويمارس أتباعه- في ذلك كله- ما لا آخر له من وسائل القسر والعنف وتصفية الآخرين، وآن الإسلام- بهذا كله- خطر على الحضارة والتقدم، وأن المسلمين- بهذا كله أيضا- لا يمكن أن يكونوا شركاء في مسيرة البشرية نحو نظام عالمي جديد.
وفي ظل هذه المقولة الخبيثة، وكثمرة من ثمراتها، بدأنا نشاهد في العديد من الدول الأوربية مطاردة حكومية وشعبية للعرب والمسلمين، ودعوة صريحة للتضييق عليهم، ومنعهم من ممارسة حضارتهم وثقافتهم تمهيدًا للتخلص منهم وإبعادهم.
إن المأساة الحقيقية في هذه المواجهات العقيمة العابثة لا تكمن فيما تسفر عنه من خسائر وضحايا وما تستنزفه من طاقات وجهود وأموال، بل تكمن فيما تنطوي عليه من تفويت فرصة تاريخية كبرى يستأنف بها المسلمون- والعرب في مكان القلب منهم- دورهم التاريخي في تنوير الأمم والشعوب، وفي إضافة عنصر الرشد الأخلاقي إلى عناصر التقدم المادي والعلمي التي أتقنت فنونها أكثر شعوب الدنيا في هذا العصر. إن الإسلام الذي أرسل الحق سبحانه به رسله وأنبياءه، والذي من به على الدنيا نعمة كبرى، كالحياة نفسها وكالماء والهواء، رحمة بالناس وإصلاحًا لأمورهم وليملأ حياتهم عدلا وحقًا وحرية ورحمة وسلامًا، هذا الإسلام العظيم يختزل هكذا- في غمار حملات حمقاء شديدة الجهل والغباء، ينساق إليها مع ذلك كثير من المخلصين والشرفاء- إلى مجرد خطر أمني يهدد استقرار الناس وسلامهم الاجتماعي، كما يهدد سعيهم نحو مزيد من التقدم على أساس من قيم الحرية واحترام كرامة الإنسان وحرمة دمه وماله، كما يقف عقبة كئودًا في وجه تعايش الأمم والشعوب في ظل نظام عالمي جديد يقوم على التعددية الثقافية والسياسية، وعلى أساليب جديدة للتعايش جوهرها إحلال السلام والاعتماد المتبادل محل الصراع والتهديد بالقوة والسعي لاستعباد الآخرين.
ترى هل يدرك المنساقون بحسن نية- في تيار هذه المواجهة- إلى أي مصير يساقون؟ وهل يعرفون أنهم يستدرجون للمشاركة في ” كربلاء ” عالمية لا يكون المسلمون وحدهم ضحيتها، بل تكون ضحيتها الحقيقية فرصة تاريخية نادرة لبناء حضارة عالمية رشيدة تنهض على ساقين قويتين فارعتين، إحداهما ساق العقل والعلم، والأخرى ساق الهدى والرشد التي من بها الله على خلقه، والتي توجتها وعبرت عنها حضارة الإسلام. غير أن هذا كله لا يعدو أن يكون نصف القضية وهو نصفها الذي يملكه ويتحكم فيه “الآخرون”، أما نصفها الآخر فيتمثل في سلسلة من الأخطاء الجسيمة التي تقع فيها ولا تزال تكررها كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة، وهي أخطاء نرى من واجبنا أن ننبه إليها في غير مواربة ولا مجاملة ولا خشية من أحد.
وعلى رأس هذه الأخطاء خطآن كبيران يفتحان أبواب سوء الظن والتوجس، ويضربان بين دعاة النهضة الإسلامية وبين جماهير الناس بسور غير ذي باب من العزلة والاغتراب:
تطبيق الشريعة بين المنهج والمضمون
الخطأ الأول: الإسراف الشديد في تصوير تميز المسلمين واختلاف تصوراتهم الأساسية للكون والحياة والناس عن تصورات سائر الأمم والشعوب. وإذا كان تميز الإسلام كعقيدة ونظام حياة، وتميز المسلمين كأمة ذات حضارة حقيقية تاريخية وعلمية لا ينبغي إخفاؤهما أو إنكارهما أو الاعتذار عنهما. وإذا كنا نسلم بأن هذا التميز- في حدوده الحقيقية- هو المدخل الطبيعي لإحساس المسلمين بهويتهم وخصوصية حضارتهم، وأن هذا الإحساس هو- بدوره مدخل أداء المسلمين لدورهم الحضاري المأمول إسهاما في تذكية قيم العدل والحق والسلام. إذا كان هذا كله صحيحًا، فإن المبالغة في تقرير هذا التميز وإعلانه والإلحاح عليه في كل مناسبة وبغير مناسبة، من شأنه أن يخلق لدى الآخرين إحساسًا بغربة المسلمين، واستحالة تعايشهم مع الآخرين، وصعوبة إشراكهم في أي جهد عالمي مشترك لإقامة نظام جديد للعلاقات بين الحضارات والأمم والشعوب. إن من شأن هذا الإحساس المتبادل بالاغتراب والاختلاف الشديد خلق فجوة- تتسع ولا تضيق- بين الحركات الإسلامية على اختلافها وبين جماهير الناس، وهي فجو يسهل معها الترويج لحملة معاداة الإسلام والمسلمين.
الخطأ الثاني: طرح قضية “تطبيق الشريعة” و”أسلمة الحياة” طرحًا خاطئًا من زاويتين الأولى تتعلق بالمنهج، والأخرى تتعلق بتحديد المضمون:
1 – فالمنهج الذي تطرح من خلاله كثير من الحركات الإسلامية دعوتها إلى تطبيق الشريعة يصور هذا التطبيق على أنه يبدأ – كخطوة أولى- بإسقاط النظم القانونية والاجتماعية القائمة في بلاد العرب والمسلمين، وهدم كل ما ألفه الناس من أحكام تلك النظم تمهيدا لإقامة الشريعة التي يتصورها البعض كما لو كانت شيئا جاهزا وثابتًا ونهائيًا يستدعى من كتب الفقه أو من أعماق التاريخ، فتصلح به- على الفور- أحوال الناس. وبسبب هذا الطرح، وفي غياب الاطمئنان إلى فقه الداعين إلى تطبيق الشريعة وإلى حكمتهم وذكائهم وبصرهم بواقع الناس وحاجات الشعوب يرى كثير من الناس في الدعوة إلى تطبيق الشريعة- وفق هذا المنهج- تهديدًا لكل ما تمثله النظم القانونية القائمة من سعي لتحقيق العدل.
2 – أما الخطأ الذي يتصل بالمضمون، فيتمثل في الخلل في ترتيب الأولويات، الخلل في تصورها والخلل في عرضها على الناس، وهما يتمثلان في تقديم عدد من الأمور الثانوية أو التي تتصل بما يسميه علماء الأصول “المصالح التكميلية أو التحسينية ” التي يتأخر مقامها في الترتيب بعد مقام “الضروريات” في نظر الشريعة ونظر الناس. وفي تقديم بعض النوافل والأحكام المتعلقة بالآداب على القضايا الكبرى التي تمثل البنية الأساسية. للصرح التشريعي الذي جاء به الإسلام. إن في الإلحاح المتصل- وغير المفهوم- على قضايا ثانوية أو مظهرية كقضايا النقاب؟ إرسال اللحية وتقصير الجلباب، وإصرار البعض- على سبيل المثال- على أن الإسلام لا يقبل الديمقراطية، ولا يعرف إلا نظامًا سياسيًا واحدًا هو نظام الخلافة، وتقديم الحديث عن الحدود الإسلامية والعقوبات على سائر الأحكام التي تضمنتها الشريعة الإسلامية في أبواب بناء الدولة ومعاملة الدنيا وتنظيم المعاملات، هذا الخلل الشديد في ترتيب الأولويات بين المضامين والموضوعات التي تعالجها الشريعة الإسلامية من شأنه أن يلقي ظلالاً كثيفة على مدى صلاحية المنادين بتطبيق الشريعة على هذا النحو لقيادة النهضة المنشودة أو الإمساك بزمام الحياة الاجتماعية والسياسية للشعوب.