قبسات من مدرسة النورسي : قرأت لكم : طرق الإرشاد في الفكر والحياة


من نافلة القول إن طرق العمل الدعوي الإسلامي تعددت وتنوعت، وتنوع معها الخطاب الدعوي من مركز على التربية إلى آخر مركز على السياسة وثالث على الثقافة… وفي هذه الصفحة سنعيش ـ على مدى حلقات بحول الله ـ مع الأستاذ محمد فتح الله كولن أحد قيادات العمل الاسلامي في تركيا وأحد الناهلين من معين تراث الشيخ بديع الزمان النورسي رحمه الله، وسنطل على التجربة التركية الغنية من خلال كتابه (طرق الإرشاد في الفكر والحياة) الذي يعتبر كتابا في (فقه المعاناة والألم من أجل الدعوة إلى الله) والذي ترجمه إلى العربية ذ. إحسان قاسم الصالحي رئيس مركز رسائل النور بتركيا.

وقد تطرق الأستاذ كولن في الأعداد الماضية إلى مهمة التبليغ التي تقلل الانحرافات في المجتمعات البشرية وتنير دروب الظلام لبناء مجتمع القيم الفاضلة، ولا يتحقق ذلك إلا بقيام الإنسان بمهمته الاستخلافية في الأرض كما تحدث عن الحاجة إلى التبليغ ومكتسباته. ونواصل في هذا العدد هذه الرحلة الممتعة مع الأستاذ كولن في الحلقة السادسة :الحلقة السادسة : التـبــــليغ يتطـلـب الاستمــرار  2/2

دور الدولة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والجهة الأخرى من الأمر هي شمول هذه المهمة. بمعنى أن دوام مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مسؤوليات الدولة أيضا. لأن الدولة في موقع تغيير المنكر باليد. حيث إنها قادرة على تغيير منكرات باليد كالفحش والخمر والقمار والاحتكار وما شابهها. فهناك مواقع لا ولن تصل إليها يد الفرد، وتصل إليها يد الدولة، فالفرد لايمكنه أن يعاقب الزاني وشارب الخمر وممارس القمار، ولا يستطيع أن يصرفه بيده عن هذا المنكر.

ولقد ذكرنا آنفا ميدان مداخلة الفرد. أما هنا فنذكر إنسان العالم الخارجي. فهذه المهمة في هذا الموقع تتعهدها الدولة، لأنها لا تدخل ضمن نطاق تغيير الفرد للمنكر. فهي من مهمات الدولة، وعليها أن تؤديها ما بقيت. فإذا هي أرخت عنان الأمر فالشعب يذكرها بمهمتها في الانتخابات مثلا. وهذا أيضا ـ من جهة ـ يولد جزءا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولنضرب مثلا من خير القرون :

سعد بن أبي وقاص ] أحد العشرة المبشرين بالجنة(1)، والقائد العام للجيش الفاتح لإيران في عهد عمر بن الخطاب ] أصبح واليا على البلاد التي فتحها.

شكا الناس سعدا إلى سيدنا عمر بأنه نصب على بابه حرسا، والحال يجب ألا يكون شيء حائلا بين الوالي والناس. وعندما سأل سيدنا عمر: هل لديكم شكاوي أخرى؟ قالوا : إنه لا يحسن أداء الصلاة(2) على رأيهم، إذ لا يمكن أن نقبل أو نوافق بأن صحابيا جليلا كسعد لا يُحسن أداء الصلاة بأركانها. ولكن الذي نريد أن نقف عنده هو إظهار كيف يستطيع الناس أن يُقوِّموا الدولة ويراقبوها. فالشعب يقوم الدولة دائما، والدولة بدورها تراقب الشعب وتنضبط به، وبهذا تتوازن الأمور ويصان العدل، حيث الدولة تنجو أيضا من الولوج في المنكرات مثلما ينجو منها الشعب.

فإذا ما قيمنا العالم الإسلامي الحاضر ضمن هذه الأطر، لا يمكننا أن نقول إن الدولة وكذا الناس يؤدون المهمة التي عليهم. فالناس في الوقت الحاضر يرتكبون الرذائل بكل أنواعها، والدول تبقى في وضع اللامبالاة والمتفرجة عليها. حتى أنها تضع قوانين بأسماء وعناوين متنوعة للحفاظ عليها. وأوضح مثال على ذلك ما تُرتكب من منكرات في دول مختلفة حاليا، علما أن وظيفتها الأساس منع المنكرات والحد من سوء الأخلاق. ولأجل تحقيقها لهذه المهمة، أي منع المنكرات، تستعمل القوانين الرادعة. فالفرد لا يمكن أن يعاقب السارق ولا أن يقيم الحد على الزاني. بل لا يمكن أن يقيم أيا من الحدود الجزائية باسمه. فلو أقام كل شخص الحد على من يقابله فهذا هو الفوضى واضطراب النظام بعينه. ومن هنا يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة :

إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حدودا تخص الدولة لا يمكن أن يتجاوزها الفرد وحدودا تخص الأفراد وهي التي يمكنهم أن يؤدوها بالقلب واللسان.

فمثلا : إفهام الناس العاقبة الوخيمة للزنا والقمار والسرقة والربا والاحتكار والسعي لمنع انتشار مثل هذه المنكرات في المجتمع وظيفة كل فرد ومسؤولية اجتماعية. بمعنى أن التغيير باليد تخص رجال الدولة بينما التغيير باللسان هو وظيفة كل مؤمن. وهذه الوظيفة تتعلق بالعلماء أكثر من غيرهم.

أما الذين يكتفون بالوضع الثالث أي البغض القلبي فهم العاجزون عن أداء المهمة على وجهها. فلئن كانت الأمة برمتها تكتفي بالبغض القلبي لما يُرتكب من المنكرات في العالم فهي إذا أمة عاجزة بائسة مسكينة.

ويمكن أن نقسم هذه المهمة على الفرد نفسه كما قسمناها سابقا على الأمة.

فهناك مواضع يؤدي الفرد مهمته باليد. مثلا : محل للقمار غير مجازمن قبل الدولة، فالذهاب إلى صاحب المحل وإبلاغه بأني سأخبر الدولة عنكم، يعني إزالة المنكر -من جهة- باليد. ولكن إن كان المحل مجازا من قبل الدولة والفرد لا يستطيع إنكار هذا المنكر، فعليه أن يفهم صاحب المحل بلسان لين أن هذا العمل منكر. وإن لم يستطع هذا أيضا فعليه أن يعيد النظر في علاقاته مع هذا الشخص أي صاحب المحل ويقطع علاقته القلبية معه وينبه الآخرين على القيام بمثل هذا الاجراء. وليس بعد ذلك أمر رابع.

توضح مما سبق جليا، أن معنى “كنتم” في الآية الكريمة التي تعني “أصبحتم” والتي تفيد الدوام والثبات وأنهما موجودان في جميع الأحوال.

فعلينا إنكار المنكر باللسان والقلب فيما إذا أهملت الدولة والأمة قاطبة واجبها المقدس. ولكن يجب ألا ننسى “أن الغلبة على المدنيين (المتحضرين) إنما هي بالإقناع وليس بالإكراه”(3).

……………

1-  ابن الأثير، اسد الغابة، 2/366؛ بان عبد البر، الاستيعاب، 2/513؛ ابن حجر، الإصابة، 3/73

2- البخاري، الأذان، 95؛ مسلم، الصلاة، 158، المسند، 1/180، 179، 176.

3- سعيد النورسي، صقيل الاسلام ص 527.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>