علماء في وجه الطغيان : يحيى بن يعمر… بطل صريح


< عالم العربية

لقد كان يحيى بن يعمر العدواني أحد المتضلعين في علوم الشريعة والعربية من أفاضل التابعين، وقد شارك مشاركة مثمرة في غرس بذور النحو مع أبي الأسود، ثم إنه كان كاتباً لا يتلقى العلم مشافهة فحسب، بل يدون ويسجل، وقد عثر على بعض الصحف الأثرية ممهورة باسمه، كما أنه المخترع الأول لنقط الحروف بعد أن خاف اللبس من الإهمال فابتكر الإعجام، هذا إلى جانب تضلع واسع في اللغة، إذ كان لا يسأل عن كلمة ينطق بها بدوي مصحر إلا شرحها واستشهد عليها من محفوظه، وقد دعاه هذا التتبع الواسع لمهجور الكلام في بطون القبائل وأفخاذ البداة أن ينطق في بعض حديثه بالغريب، حتى اشتط بعض الكتابين فعده من المتقعرين، وما أظن هذا صحيحاً، لأن المتقعر هو الذي يجمع الحوشى من هنا وهناك، ليتشدق به عن عمد، على سبيل المباهاة! هكذا كان يحيى فيما ينطق به من الغريب، حتى اشتهر عنه وتنوقلت منه طرائف وأفاكيه، روى أن يزيد بن المهلب كتب إلى الحجاج : لقد لقينا العدو ففعلنا وفعلنا حتى اضطررناه إلى عرعرة الجبل، فقال الحجاج : ما لابن المهلب وهذا الكلام! فقيل له : إن يحيى بن يعمر لديه، فابتسم قائلا : هو ذاك. هذا بعض ما يشير إلى مكانته في علوم العربية، أما آراؤه العلمية في الفقه والتفسير والحديث فأكثر من أن يلم بها ملم في نطاق وجيز، ولسنا هنا بصدد إيضاح مركزه العلمي، ولكننا نمهد لإيضاح عظمته النفسية وعزته الخلقية، فقد كان من الشجاعة الأدبية في الحق، والجرأة الخلقية في مواجهة الطغيان بالمكان السامق، والمنزل المرموق، وقد شاء الله له أن يبتلى بالحجاج أو يبتلى الحجاج به، فواجه وكابر وأدى دوره مرفوع الرأس عالي الجبين.

< محنته مع الحجاج

لقد رأى الحجاج أن الكوفة تهيم حباً بالحسين ابن علي، وتجعل من ذكراه المأساوية منحدراً للدمع ومصعداً للزفير، وقد كافح وجاهد في تبديد هذا الحب الوثيق فما استطاع، وكان يعلم أن قرابة السبط الشهيد من رسول الله تجمع عليه القلوب وتضعه بين الجوانح والشغاف، ففكر وقدر، ثم رأى أن يعلن أن الحسين هو ابن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب وليس من ذرية محمد بن عبدالله، لأن انتسابه لفاطمة لا يغير من الأمر شيئاً، فالأب هو المعتبر في النسب دون الأم على قول من قال :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وقد خطب في ذلك وأطال، وأخذ يتتبع مخالفيه سجناً وتشريداً، ويرسل عيونه في الكوفة ليأتوه بمعارض يصدر عن غير رأيه، فيجعل من عقابه مثلا رادعاً لغيره، وسرعان ما جاءه الخبر أن يحيى بن يعمر سئل عن الحسين وانتمائه لمحمد  فأجاب في المسجد الجامع أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله! وأن الحجاج يحكم ولا يفتي، فإذا أفتى فعن غير علم واعتقاد!!

لم يدهش الطاغية لما بلغه، فهو يعرف في يحيى جرأةوشجاعة، وكثيراً ما اصطدم معه في جدل مذهبي، فكان صاحب الحجة الفاصلة والمنطق الراجح دون أن تعصف به رهبة أو يلين من ثباته إيعاد، ثم هو بعد يتشيع في اعتدال، فلا يوازن بين الصحابة لينصر فريقاً على فريق، ولكن ليضع الحق في نصابه مستعصماً بالعروة الوثقى من الإيمان، على أنه من وراء ذلك مسموع الكلمة، محترم الرأي، فإذا أفتى بما يعارض الحجاج فقدتمكن من قلوب الناس وذهبت دعوى الطاغية في الحسين أباديد، ماذا عسى أن يصنع به وقد اصطدم منه بداهية دهياء، لابد أن يتمكن من إسكاته عن طريق الادعاء والتعنت فيلزمه بنص واضح من القرآن يؤيد دعواه!

وليس في القرآن في منطق الحجاج ما يثبت ذلك، فإذا أعلن يحيى عجزه عن الاستشهاد بالقرآن فقد قامت عليه الحجة في رأي الجمهرة من العامة، وللطاغية بعد ذلك أن يتطاول عليه مستكثراً بالسلطان والجبروت حتى يخذله خذلاناً لا نجح بعده، هكذا قدر الحجاج وأراد،ثم تعجل فعقد مجلساً حاشداً من أعوانه ووجهاء الكوفة، ودعا معهم شيعة يحيى ومقدري علمه وفضله، لينكشف أمامهم في المعمعة، فيضيع ما ينسب إليه من علم وثبات، ثم أرسل من يحضر يحيى ليتجرع كأس الهزيمة في انكسار، وحانت الساعة المرتقبة، فحضرالرجل ليرى حفلا غاصاً بالجموع، وقد تصدره الحجاج كالح الوجه، مقطب الجبين، وقد امتدت العيون، واشرأبت الأعناق لترى العالم الوقور يتقدم في اطمئنان، فيلقى تحية الإسلام ثم يهم بالقعود فيصيح به الحجاج : >لا تقعد يا يحيى وأوضح لنا رأيك في صلة الحسين برسول الله!<.

فيرد يحيى في كبرياء : الحسين والحسن من ذرية رسول الله، وإن غضب الحجاج!!

فيتنمر الحجاج متحفزاً ويصيح : ألديك دليل من كتاب الله؟

فيرد يحيى في ثقة بالغة : معي الدليل من القرآن!!

فيضرب الحجاج كفاً بكف ويقول متهكماً : ما شاء الله، أفي القرآن أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله! لقد قرأتهمئات المرات فما وجدت ما تقول يا رجل!

فيتطلع يحيى إلى الحاضرين ثم يصيح بصوت مجلجل، وإيمان وثاب :

قال الله تعالى : {وتِلْكَ حُجَّتُنا ءَاتَيْنَاهَا إِبْراهِيم على قَوْمِه نرْفَعُ دَرَجَاتِ مَّن نَّشاءُ إنّ رَبَّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ. ووَهَبْنا لَهُ إسْحَاقَ ويَعْقُوبَ كُلاَّ هَدَيْنا ونُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْل ومن ذُرِّيَّتِه دَاوُدَ وسُلَيْمَان وأيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسَى وهَارُون وكَذَلِك نجْزِ ي المُحْسِنِين. وزَكَرِيّاء ويَحيَى وعِيسَى وإِلْيَاسَ كُلٌّ منَ الصّالِحِين}(الأنعام : 83- 85).

ثم تلفت إلى الجمهور قائلا : أيكون عيسى بن مريم من ذرية ابراهيم بنص القرآن ولا يكون الحسين من ذرية رسول الله، وبينهما من القرابة الدانية أكثر مما بين عيسى وإبراهيم أيها الناس؟!

لقد جاء الدليل صاعقاً قاصماً، وقد اعتصم الحجاج بذكائه ليسعفه برد مضلل فما استطاع، وبدت الفرحة والشماتة في عيون الجالسين، فزادت من ضيق الحجاج وانبهاره، ثم رأى أن يتراجع في موقف ضائق يضغط عليه بأصاره، فابتسم في تصنع، وقال : اجلس يا يحيى، فقد فاتني هذا الاستنباط!

ولم يشأ أن يصرف القوم لوجوههم بعد ما لحقه من خزي فاشل، فرأى أن ينهض فيعترف بأن القرآن بحر لا ساحل له، وأن العربية الفصحى لا تسلس قيادها لغير من يحفظ القرآن، وأنه هو وحده الذي أمر يحيى بن يعمر أن يضع النقط على حروف المصحف، لتسهل سبيل الحفظ الدقيق، والاستظهار الصحيح، ورأى أن يجامل يحيى فاتجه إليه سائلا : أتجدني ألحن في قولي يا ابن يعمر؟

فابتسم يحيى ابتسامة المتهكم وقال في لهجة ذات مغزى خاص : الأمير أفصح من ذلك.

فاغتاظ الحجاج وصاح قائلا : عزمت عليك، أتجدني ألحن.

فقال يحيى بملء فمه : نعم أيها الأمير!

فنظر منبهراً وقال : ألحن في أي شيء؟

فصاح يحيى : في كتاب الله؟

فنهض الطاغية مغتاظاً وهو يقول : ذلك أسوأ لو كان، ففي أي حرف لحنت؟ فرد يحيى في تحد : لقد قرأت بالمسجد الجامع : {قُلْ إن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وأبْنَاؤُكُم وإخْوانُكُم وأزْواجُكم وعَشِيرتُكُم وأموالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومسَاكِنُ تَرْضَوْنَها أحبَّ إِلَيْكُم}(التوبة : 24).

فضممت الباء وهي مفتوحة!

فتغير وجه الرجل، وحدثته نفسه أن يهم بصاحبه، ولكن انهياره النفسي أورثه تردداً لا عهد له به، ثم إنه خشى أن يصيبه بسوء فيتناقل الناس في الأمصار قصة حجاجه في نسب الحسين، وينتهي إلى قصر دمشق ما كان من تهوره حين جادل في أمر لا يقبل الجدل، فمكن لخصوم الخلافة من الانتصار.

وشاء بعض الحاضرين أن يصرف الحديث إلى موضوع آخر، فأخذ يسأل الحجاج عن مدينة واسط التي شيدها باذلا جهده الجاهد في التعميروالتثمير، وكان الطاغية قد ارتاح إلى هذا الانتقال المنقذ، فأخذ يسهب في تقدير كفايته، ويبين حسن اختياره للمكان، وسخاءه في الإنفاق والتشييد، ويحصي أعداد من قاموا بالبناء من الفعلة والعمال، وما استخدم من الماشية والحيوان، وما أنفق من الدرهم والدينار، ثم رأى أن يصانع يحيى ليظهر أمام الناس بأن هزيمته لم تنل من نفسه، وأن الأمر لا يخرج عن مجرد رأي يخطئ ويصيب، فربت على كتفه برفق ثم قال : لم تذكر لنا رأيك في مدينة واسط يا يحيى!.

فسكت الرجل ولم يرد!! وتوجهت العيون إليه، فزادت من حرج الحجاج وتورطه، فأعاد السؤال مغيظاً!

فقال يحيى : أيها الأمير، ماذا أقول عن واسط، وقد شيدتها من غير مالك، وسيسكنها غير أهلك.

فلم يعد في قوس الصبر لدى الطاغية من منزع، وتلهب الجمر في عينيه، ثم صاح في انفعال : ما حملك على هذا؟

فقال يحيى في اعتداد : ما أخذ الله تعالى على العلماء في علمهم ألا يكتموا الناس حديثاً!!

فأطرق الحجاج منخذلا، وساد صمت حائر غمر المكان لحظة، ورأى الطاغية أن يقوم بعمل ينقذ خشيته، فصاح بيحيى : لا تساكني ببلد أنا فيه، فاذهب منفياً إلى خراسان!

ثم نهض من مكانه مخذولا ليتفرق الناس، كل إلى مثواه قال الراوي :

وذهب يحيى بن يعمر إلى خراسان، فوجد صيته الطائر يسبقه هناك، ورأى الجميع يتحدثون بمجابهته للحجاج مكبرين مقدرين ودنا خراساني فسأله في تعجب : ألم تخش سيف الحجاج؟

فرد في إيمان الواثق : لقد ملأتني خشية الله فلم تدع مكاناً لخشية إنسان.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>