نفحات : المجتمع المدني في عهد النبوة بين الخصوصية والقدوة 1 / 2


لقد كثُر في الآونة الأخيرة الحديثُ عن (المجتمع المدني) وما يرتبط به من شروط وملابسات كالتعايش والانفتاح واحترام الحقوق وما إلى ذلك، بما له من انعكاسات على المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وأمام المصطلحات والمفاهيم الجديدة التي جاءت في ركاب التحولات العالمية والنظام الدولي الجديد والعولمة وما إلى ذلك من الأمور، يرى علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد أنها مؤشرات أو إرهاصات  لبناء مجتمع جديد، يحمل معه ملامح انقلابات تناسبه في المفاهيم والقيم والأخلاق، وهذا أمر غدا يشغل العديد من المفكرين والمهتمين، وكُتبت فيه البحوث والدراسات، ولازالت الأيام حُبلى بالمزيد، ولعل نموذج المجتمع المدني في عهد النبوة يكون نموذجاً للاستيحاء في البناء المستقبلي، مع مراعاة الثابت والمتحول في هذا المجال، ولاسيما والأمة الإسلامية بمالها من خصوصيات، وبما يطبع ذاتها من طوابع ومميزات تجد نفسها تابعةً لغيرها في الغالب، منساقة مع الموجة الجديدة ذات التيارات القوية الجارفة، ولذلك فإن مفكريها مدعوون إلى التأني والاحتياط، والبحث عن ذاتهم في هذا الخضم من التحولات وطرحِ التساؤلات والبحث عن المحطات التي تتيح إعادة قراءة التاريخ الغريب والبعيد من أجل رسم ملامح المستقبل الذي يحقق للأمة شروط الانفتاح والتعايش وتبادل التأثّر والتأثير، دون أن تذوب في غيرها أو تفقِد ذاتيتها وقيمتها.

ومن هذا المنطلق جاء اختيار نموذج تأصيلي في هذا المجال هو عبارة عن دراسة أكاديمية رصينة أنجزها أحد المفكرين المسلمين المعاصرين هو الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري رئيس المجلس العلمي ورئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة تحت عنوان : “المجتمع المدني في عهد النبوة : خصائصه وتنظيماته الأولى”.

والدراسة لا تخلو من اجتهاد إذْ يَعُدُّها صاحبها محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد الروايات التاريخية، بهدف إعادة صياغة التاريخ الإسلامي في مراحلة المتتابعة.

ولأن موضوع هذه الدراسة الجامعية هو منطلق التشريع لهذه الأمة في إطاره الشمولي العام، فإنه يحسن التوقف عند المباحث الكبرى لهذه الدراسة، وتلمس الأسس الفكرية والمفاهيم المرجعية الأصيلة التي قامت عليها.

يستهل الدكتور أكرم ضياء العمري دراسته عن المجتمع المدني في عهد النبوة بمقدمة في منهج كتابة تاريخ صدر الإسلام ومصادر السيرة النبوية، منوهاً بما تنبه له بعضُ المفكرين المسلمين منذ بداية الستينيات من القرن العشرين، وفي مقدمته قضيةُ صياغة التاريخ الإسلامي وفق التصور الاسلامي لحركة التاريخ من ناحية التفسير التاريخي، ووفق مناهج المحدثين من ناحية البحث في التاريخ الاسلامي، داعياً إلى ضرورة اضطلاع أبناء الأمة أنفسهم بكتابة تاريخهم والتعريف بحضارتهم ومبادئها وقيمها وفق فهمهم وتصورهم، ومشيراً إلى أن التخلف الحضاريَّ للعالم الاسلامي ينعكس على تقويمه لتاريخه. وإلى أن تخلف الحركة الفكرية في العالم الاسلامي وعدم مواكبتها للحركة الفكرية العالمية، جاء مرتبطاً بما حدث من تباين حضاري بين الشرق والغرب منذ عهد النهضة في أوربا، ونتيجة لذلك لم تظهر في نظره، خلال القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، دراسة تاريخية جادة من قبل المسلمين، بل كان معظم ما ظهر منها انعكاساً لآراء المستشرقين وأفكارهم، وذلك ما جعله يقف عند ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي عارضاً جملة منها بإيجاز، واضعاً إياها أمام أنظار الباحثين المعنيين بدراسات التاريخ الإسلامي لنقدها وتقويمها، لأن المشروع كمايقول الباحث ما زال في أول الطريق.

وأبرز هذه الملامح هي :

أولا : مراعاة الحقائق التي قررها القرآن الكريم : وفي هذا الصدد يؤكد الباحث أن المطلوب من المؤرخ المسلم أن يستوعب كليات التصور القرآني للتاريخ البشري، وأن يلتزم به في الكتابة التاريخية، وأن يقدمها على غيرها من النظريات.

ثانيا : تفسير دوافع السلوك عند المسلمين في صدر الإسلام، ومعرفة أثر الإسلام وحقيقته في تربية أتباعه وتزكية أرواحهم وتثقيف عقولهم وإخلاص عقيدتهم، لأن غياب التصور السليم للإسلام وروحه، ولأثره في المجتمع الاسلامي وحركته التاريخية قصور كبير يمنع إمكان الاعتماد على الدراسات التي تفتقر إلى تطابق النظرية الإسلامية مع الواقع التاريخي.

ثالثا : تقويم الحضارة يرتبط بمدى ملاءمتها لعبادة الله : ذلك بأن الباحث يرى أن المؤرخ المسلم لا يمكنه أن يحكم على المستوى الذي تبلغه أية حضارة من خلال منجزاتها المادية فقط، وإنما ينظر إلى مدى تحقيقها للهدف الأساسي الذي وضعه الخالق عز وجل لخلقه، وبناء على ذلك فإن الحضارة السامية في نظر المسلم هي التي تهيء الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمادية الملائمة لتوجه الإنسان نحو توحيد الله وإفراده بالعبودية والتزام تعاليمه في كل ألوان النشاط الذي يمارسه.

رابعا : رفض منطق (التبرير) كأساس لتفسير تاريخ صدر الإسلام : لأن هذا المنطق، كما يقول الباحث، ما هو إلا أثر للقهر النفسي والفكري الذي يمارسه الغزو الفكري على عقولنا، ولذلك فالتفسير الإسلامي ليس دفاعياً تبريرياً، بل ينطلق من اعتماد راسخ بأن الإسلام حق، وأن ما شرعه الاسلام لا يحتاج إلى اعتذار أو تبرير.

خامساً : استعمال المصطلحات الشرعية في الكتابة التاريخية : والباحث حين يدعو إلى وجوب استعمال هذه المصطلحات فلأنها ذات دلالة واضحة محدّدة، ولأنها معايير شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص، والأحداث، ولذلك فهي أوضح من غيرها، ومن شأن استعمالها أن يحافظ على استقلال التصور الاسلامي ومنهجه في إبراز هويته.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>