قندوز أبشع من “أبو غريب”!!


ما حصل في مدينة قندوز الأفغانية كان أبشع مما حصل في سجن “أبو غريب” العراقي؛ فالأمريكيون ذهبوا إلى هناك من أجل (التحرير) أيضًا، وكان لا بد أن يذوق الأسرى طعم الحرية المغموس بالدم.

حدث ذلك في أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2001. وبعد حصار مرير لقندوز وافق مقاتلو حركة طالبان على التفاوض لتسليم المدينة للتحالف الشمالي الأفغاني الذي تدعمه القوات الأمريكية، وأشارت مجلة نيوزويك إلى أنه تم التوصل إلى اتفاق بإشراف أمريكي بعد 3 أيام من المفاوضات يقضي بعودة المقاتلين الأفغان إلى بيوتهم وقراهم، وعودة الباكستانيين إلى بلدهم بعد فرزهم من قبل الأمريكيين واعتقال المشتبه منهم في انتمائه إلى تنظيم القاعدة، وتسليم المقاتلين العرب والأجانب إلى الأمم المتحدة أو منظمات دولية أخرى.

لكن الأسرى هلكوا في مقتلة جماعية على يد القوات الأمريكية وحلفائها الأفغان.. عدد كبير من المقاتلين العرب والباكستانيين المتهمين بالانتماء إلى القاعدة (ويقدرون بـ 800 مقاتل) اقتيدوا إلى قلعة جانجي -حيث تمرد بعضهم، على حد المزعوم- وهاجمتهم القوات الأمريكية بطائرات “إف 18″ وأمطرتهم بعشرات القنابل العنقودية التي قلبت الأرض، مخلفة مئات الجثث المتفحمة لرجال كان كثير منهم مقيد اليدين، وهو ما ينفي رواية تمرد هؤلاء الأسرى، أو على الأقل اشتراكهم جميعًا في التمرد.

قرابة 3000 أسير آخرين (خليط من أفغان وعرب وباكستانيين وشيشان) قيدت سواعدهم وعصبت أعينهم، واقتيدوا لوضعهم في حاويات ضخمة لسيارات شحن، تمهيدا لنقلهم -كما قيل- إلى سجن شبرقان، والذين قاوموا حملوا بأيديهم وأرجلهم ورموا على وجوههم داخل الحاوية. كانت كل حاوية تحتوي 200 إلى 300  شخص. عرف السجناء وقتها أنهم غدر بهم، وأنهم لن يذهبوا إلى بيوتهم، وربما أدركوا، كما قالت مجلة نيوزويك، أنهم سيموتون بطريقة مبتكرة، طريقة رخيصة للقتل الجماعي البطيء : الموت بالحاوية.

بعد ساعات من حشر الأسرى في الحاويات، بدءوا يصيحون ويولولون ويضربون جوانب زنازينهم المكتظة.. كانوا يصرخون: “نحن نموت، أعطونا ماء، نحن بشر ولسنا حيوانات”.

نيوزويك التقت شابا بشتونيا نجا من جحيم الحاوية أو الهاوية.. قال الشاب: “بعد مضي 24 ساعة من بقاء الأسرى بلا ماء استبد بهم العطش، فبدأ كل واحد منهم يلعق عرق جسد الآخر. من الأسرى من فقد رشده، وبدأ يعض ويمضغ جلد من حوله.

ويقول ناجٍ من حاوية أخرى: إنه بعد 8 ساعات تقريبًا بدأ الأسرى يستغيثون طلبا للماء والهواء، ولما لم يجب أحد، بدأ بعضهم في استخدام عمامته لاعتصار العرق وشربه. وبعد مرور بضع ساعات أخرى بدا الجنون على كثير من الأسرى، وشرع كل منهم يعض أصابع الآخر وذراعيه وساقيه.. اقتربت رحلة الموت التي استغرقت 24 ساعة من سجن شبرقان، وحينهاكان الهدوء المخيف يخيم على القافلة برمتها.. إحدى الحاويات التي كانت تضم نحو 200 أسير، لم ينج منها أحد. يقول سائقها: “لقد فتحوا الأبواب، فاندلقت الجثث مثل السمك، كانت كل ملابسهم ممزقة ومبللة” (مجلة نيوزويك، 26 آب/ أغسطس 2002).

يقول المنتج الأسكتلندي جيمي دوران -منتج البرنامج التلفزيوني الوثائقي “قافلة الموت”: إن أسرى طالبان كانوا يتوسلون طلبا للرحمة، وإن أحد الجنود أطلق النار على إحدى الحاويات من أجل التهوية -كما قال- فانسكب الدم من خلالها، وقُتل عدد من الناس داخلها.

لكن أمانة هذا الجندي -كما يقول دوران- تخفي وراءها وحشية هائلة.. لقد كانت أكثر الرصاصات في وسط الحاوية وأسفلها لا في أعلاها، ما يعني أن الهدف لم يكن هو التهوية، بل كان القتل.

ويشير دوران إلى أن بعض السجناء تُركوا 4 أو 5 أيام ليموتوا من الاختناق أو الجوع أو العطش… “عندما فتحت الحاويات في النهاية، لم يكن هناك سوى خليط من البول والدم والغائط والقيء واللحم المتعفن”.. ويؤكد دوران أن جنودًا أمريكيين حضروا المشهد، وأنهم طلبوا من أهل شبرقان محو آثار المحرقة، ونقل الجثث إلى خارج المدينة قبل أن تلتقطها صور الأقمار الصناعية (ليموند ديبلوماتيك، أيلول/ سبتمبر 2002).

وبالرغم من صعوبة الإفلات من طريقة (القتل بالحاوية) فقد نجا منها عدة مئات من أسرى طالبان، وكان لا بد من طريقة أجدى وأسرع. فاقتيد هؤلاء إلى منطقة صحراوية مجاورة لشبرقان، تعرف بـ”دشت ليلى”، وكانوا مثقلين بالجراح وفاقدين للوعي، وهناك أطلق الجنود عليهم وابلاً من الرصاص، وأبادوهم على بكرة أبيهم.

وبعد تسعة أشهر من المذبحة لم يكن من الصعب تمييز ما جرى؛ جثث كان يمكن ملاحظتها بسبب ضحالة القبور، وأخرى برزت للعيان من تحت التراب. لكن الملابس في كل مكان: عمائم سوداء بالية، أحذية محترقة، وسجادة صلاة.

كانت هناك بقايا أسنان وأضلاع وشعور وجماجم بشرية لا تخطئها العين (صحيفة الجارديان البريطانية، 14 أيلول/ سبتمبر 2002).. ضمت “دشت ليلى” جثث قتلى لما يزيد على 3000 من الأسرى، هم مجموع قتلى الحاويات ومن نجا منها وأُجهز عليه لاحقًا.

وتشير نيوزويك إلى أن المذبحة تمثل “إحدى الأسرار الصغيرة القذرة للحرب الأفغانية.. وأن تحقيق نيوزويك توصل إلى أن القوات الأمريكية كانت تعمل بحميمية مع “حلفاء” ارتكبوا ما يمكن وصفه بجرائم حرب”.

جيمي دوران نقل عن أحد سائقي الشاحنات تأكيده أن 30 – 40 من أفراد القوات الخاصة الأمريكية شهدوا عملية الإعدام الجماعي للأسرى. كما نقل عن جندي أفغاني قوله: إنه رأى جنديا أمريكيا يكسر رقبة أحد الأسرى، ويقذف الأسير في وجوه آخرين، مضيفا: “لقد كان الأمريكيون يصنعون ما بدا لهم، ولم نكن نستطيع إيقافهم، كل شيء كان تحت سلطة القائد الأمريكي”.

أحد جنرالات التحالف الشمالي تحدث لـ”دوران” عن معاملة الأمريكيين للأسرى قائلا: “لقد كنت شاهدا.. رأيتهم يطعنون سيقانهم، يقطعون ألسنتهم، ينزعون شعورهم ولحاهم. كان يبدو أحيانا أنهم يفعلون ذلك من أجل المتعة.. أحيانا يأخذون أحد السجناء إلى الخارج فيضربونه، ثم يعيدونه إلى السجن، وقد لا يعود، ويختفي، السجين يختفي”.

ويؤكد دوران أن كل الشهود في برنامجه الوثائقي مستعدون للإدلاء بشهاداتهم في أي تحقيق دولي، ولتحديد هويات العسكريين الأمريكيين الذين ارتكبوا جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الأسرى.

لكن أين بقية الأسرى؟ يتساءل دوران عن مصير 5000 رجل من أصل 8000 تم أسرهم. ربما هرب القليل، وربما اشترى بعضهم حريته، ولكن الأغلبية -كما يشير دوران نقلا عن شهود عيان خلال تحقيقه الذي استمر 6 أشهر- ترقد تحت التراب. يؤكد دوران أن قادة البنتاجون يمارسون التعتيم على المذبحة “مختفين خلف جدار من السرية، آملين أن تتوارى القصة، ولكنها لن تتوارى”.

آدم جونز أستاذ الدراسات الدولية بمركز أبحاث سايد بمدينة مكسيكو يشير إلى أن وزير الدفاع الأمريكي كان قد صرح بعيد سقوط نظام طالبان بأنه لا يحبذ تفاوضا يؤدي إلى استسلام قوات طالبان. وفي تصريح لاحق “أوضح” رامسفيلد كلامه، مشيرا بالتحديد إلى المقاتلين الأجانب: “أمنيتي أن يقتلوا، أو يؤخذوا أسرى”. ويعلق جونز قائلا: “في النهاية، حصل رامسفيلد على الحسنيين: يبدو أن آلاف الرجال أخذوا أسرى، ثم قتلوا” (موقع كاونتر بنش، 8/9 أيار/مايو 2004).

لماذا يرتكب الجنود الأمريكيون هذه الجرائم؟ لماذا يعاملون الأسرى في أفغانستان والعراق بهذه الوحشية؟…

يجيب عن ذلك الصحفي البريطاني روبرت فيسك متحدثا عن المعاملة السادية للسجناء العراقيين: “نعم، إنها جزء من ثقافتنا، تقليد قديم يعود إلى الصليبيين (مؤداه) أن المسلمين قذرون، فساق، غير مسيحيين، غير جديرين بالإنسانية… وحربنا هذه المومسية وغير الشرعية وغير الأخلاقية قد أثمرت الآن صورا تكشف عنصريتنا” (موقع كاونتر بنش، 7 أيار/مايو 2004).

لقد ارتكب الأمريكيون والبريطانيون في أفغانستان والعراق جرائم إبادة تضاهي ما فعله حلفاؤهم الصرب بمسلمي البوسنة والهرسك، وإن من المهم ألا تمر هذه الجرائم دون حساب، فعلى الأقل يجب أن يتم توثيقها وتسجيلها في ذاكرة التاريخ.

وما حدث في سجن “أبو غريب” على بشاعته وعلى قلة ما نعلم عنه يجب ألا يحجب أعيننا عن ممارسات قد تكون أكثر بشاعة وأوسع نطاقا كالتي ارتكبت في أفغانستان بعد سقوط قندوز.

في ظل ذلك ينبغي ألا نكثر الحديث عن قيم التسامح وقبول الآخر لدينا بمعزل عن مطالبة هذا الآخر بالشيء نفسه. كما يجب أن نشدد في خطابنا على قيم أخرى تثمر مشاعر القبول والتسامح، كالعدل والمساواة ورفض الهيمنة والاستغلال والعدوان.. وفي غياب هذا التوازن تخلو الساحة للعنف الأعمى، ويسود قانون الغاب، تماما كما يفعل الأمريكيون وحلفاؤهم اليوم في أفغانستان والعراق.

==================

(ü) أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الملك سعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>