… إن الواحد منا ليشعر بالغبن وغير قليل من الاحباط، و(الحُگرة) كلما شاهد برنامجا وثائقيا أو سياحيا حول أي منطقة مهما بَعُدت في بلاد الغرب، فكل شيء نظيف وجميل وغاية في التنسيق والجمالية : طُرق نظيفة ومنظمة، حدائق فيحاء وجميلة، أماكن عمومية مريحة وهادئة. وكل هذا النظام والجمال يوحي لك بأمرين اثنين :
أولا، يوحي لك بمدى اهتمام المسؤولين وأصحاب القرار براحة المواطن ورفاهيته، فهم يعملون جاهدين على توفير كافة وسائل الراحة النفسية والاجتماعية له حتى يتفرغ لما هو أهم؟ أي بناء مجتمعه والإسهام في نموه ورُقيِّه العلمي والثقافي والاجتماعي والسياسي فالدولة -وعبر مختلف مؤسساتها- توفر لهذا المواطن كافة وسائل العيش الكريم من مأكل ومسكن وتطبيب وتعليم لأبنائه، حتى لا يقضي يومه كله ركضا وراء تحصيل لقمة عيش كما اتفق، وحتى العاطلون عن العمل يُوفر لهم صندوق الضمان الاجتماعي حدا أدنى من الأجور إلى حين يجدون عملا محترما ومناسبا لهم، وهناك مؤسسات تعينهم على ذلك… أما العاجزون عن العمل، فالمؤسسات الاجتماعية تتنافس في تقديم جميع أنواع الخدمات لهم من مسكن وتطبيب وحتى استجمام وسياحة.. في مستوى عال جداً. وأصحاب العاهات والمرضى النفسيون توفر لهم مؤسسات مختصة أماكن خاصة بهم يُعالجون ويُعتنى بهم عناية فائقة وتُنظم لهم رحلات ترفيهية ومسابقات رياضية تتناسب ومستوى عاهاتهم حتى لا يشعرونهم بالدونية والنقص حفاظا على مشاعرهم وكرامتهم، حتى أنك لا تكاد تراهم في الشوارع هائمين على وجوههم يتسلى بهم الأطفال والسفهاء من الناس فيزيدونهم مرضا وتعاسة وحنقا على المجتمع كما هو الحال عندنا في العديد من أقطارنا المصونة.
ثانيا، يوحي لك هذا كله بمدى الوعي الحقيقي لدى المواطن عندهم. فهو يقدر ويُثمن كافة الخدمات التي تقدمها له الدولة -وهذا واجبها تجاهه- ولذلك فلا يبخل هو بأي مجهود لخدمتهما وتقديم يد العون لها والانخراط بكل تلقاءية في مساعدتها وتسهيل مهامها عبر مُختلف تنظيماته النقابية وجمعياته المهنية والاجتماعية وغيرها، فيصبح في نهاية الأمر الكل في خدمة الكل والجميع في خدمة هدف واحد وهو تنمية المجتمع والرفع من مستواه الاجتماعي والثقافي والفكري والسياسي حفاظا وتطويراً لمستوى الخدمات والأداءات الاجتماعية السامية للبلاد.
فالكل يحب بلاده ويقدرها غاية التقدير ويستميت من أجل خدمتها والترفيه عن مواطنيها وحماية مصالحهم من عبث العابثين وانتهاز الانتهازيين مهما كانوا، وذلك عن طريق مراقبتهم بصرامة وفضح جميع الممارسات الانتهازية من خلال الجرائد والمنابر الاعلامية المتعددة من غير خوف ولا وجل. أو من خلال سحب الثقة أو عدم التصويت على من يثبت لديهم عدم أهليته أو خيانته لما وعد به… والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى.. وحتى في الحياة اليومية العادية، فقد يتحول أي مواطن عادي إلى شرطي مرور “متطوع” يحمي سلامة الناس من كل مستهتر بقوانين السير وتعريض المارة للخطر، وقد حكى لي أحدهم أن مواطنا عاديا في إحدى ضواحي عاصمة غربية أوقف سيارتهم وأرغمهم على الرجوع من حيث أتوا لأنهم كانوا يسيرون في طريق ذات اتجاه واحد (One way) فتلك إذن ثقافتهم، وتلك هي تربيتهم منذ البداية، وتلك مفاهيمهم الصحيحة لمعاني الديموقراطية والحداثة الحقيقية لا كما يفهمها البعض عندنا، ولذلك تقدموا وتخلفنا.
أما عندنا في العديد من أقطارنا العربية والإسلامية المحروسة بعين الله، فكل شيء تقريبا يوحي بالبؤس والكآبة والاشمئزاز وما شئت من ألفاظ مماثلة.
شوارع وطرق كلها حفر تقريبا، المحفر فيها أكبر من المعبّد، حتى أن السائق يصبح همه الوحيد تجنب الحفر بدل السياقة، وإذا ما وقعت في حفرة -لا قدر الله- شعرت بارتجاج عنيف في عمودك الفقري وكأن (صرتك طاحت) وكأنك وقعت من مكان علي.
أما حدائقنا أو ما يشبه حدائقنا على الأصح، فقد أصبح معضمها مرتعا خصبا للزواحف ولشتى أنواع الحشرات والقاذورات والكلاب الضالة، ومستودعا لقارورات الخمور والجعة. ولا تتجرؤ على الجلوس فيها مخافة اعتداء اللصوص والمنحرفين الذين اتخذوها مأوى لهم منذ أن غابت الحراسة والعناية بأشجارها وأزهارها التي كانت في زمن مضى بهجة للناظرين، فأصبحت الآن هشيما تذروه الرياح.
وأينما حللت أو ارتحلت إلا وصادفتك وجوه كالحة علاها البؤس والحرمان والمسغبة، فتنسيك ما قد تكون فيه من شبه بهجة أو أمل عابر، فتكتئب أنت بدورك ومن خلالك يكتئب كل من حولك؛ أبناؤك وزوجتك وأقاربك، فيُصبح كل مواطن طاقة مُشعة للاكتئاب والهم والحزن بدل أن نكون مصدر تفريج للهموم والكآبة عن الآخرين كما علمنا ديننا القويم..
تخرج من المسجد أو من أي محل تجاري لتجد أمامك عشرات المتسولين والمتسولات في مختلف الأعمار والأجناس منهم الصادق وكثير منهم كاذبون محترفون، وغير بعيد عن هذه الأماكن، طوابير من ماسحي الأحذية حتى أن عددهم أصبح يفوق عدد الأحذية الصالحة للمسح أصلا، فمرة يمسحون الأحذية ومرة يستجدون المارة وأخرى يشمون مناديل متسخة بأيديهم، وهكذا يقضون يومهم. أما ليلهم فنيام بأبواب العمارات أو محطات القطار والحافلات متلاصقين اتقاء البرد القارس.
هذا غيض من فيض من بعض مظاهر البؤس في العديد من أقطارنا المحروسة بعين الله، وهذا البؤس يوحي أيضا كما في الحالة الأولى بأمرين اثنين :
أولا : عدم اهتمام المسؤولين وصُناع القرار بالمواطن العربي والمسلم، وعدم العمل على توفير حاجياته الأساسية من مأكل ومسكن واستشفاء، وايجاد شغل محترم يقيه ذل السؤال والمسغبة.
ثانيا، عدم وعي المواطن، فهو أيضا يساهم وبقسط وافر في استدامة هذه الأوضاع المزرية ويستمرئها بغيابه التام ولامبالاته عن مسايرة شؤون مجتمعه والانخراط في إصلاحه من خلال جمعيات اجتماعية جادة أو هيئات سياسية فعالة وصادقة.. فتجده عوض ذلك يساهم في تزكية مرشحين يعرف أكثر من غيره عدم كفاءتهم وصدقهم بل أكثر من ذلك فقد يبيعهم صوته وصوت عائلته وحتى الأموات منهم ليضمن لهم الفوز في انتخابات مشكوك في نزاهتها أصلاً.
ويعرف أكثر من غيره أنها (مطبوخة) وغير سليمة. يساهم بتهربه من أداء واجباته الوطنية وتهربه من أداء مستحقاته من ضرائب وغيرها يساهم باستخفافه باحترام قوانين السير وباقي القوانين والمساطير الأدارية في إشاعة اليأس بين الناس وسلوك الطرق السهلة للوصول إلى مآربه الخاصة عن طريق دفع الرشاوي واستغلال النفوذ والعلاقات الخاصة، يساهم ويساهم بأشياء وأشياء كثيرة قد لا يسع المجال لذكرها، وإلى أن يتبدل الحال غير الحال، فكل عام وأنتم في أحسن حال، ولنتذكر جميعا قولهتعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم}(الرعد : 11) صدق الله العظيم.