توسمات جارحة:طبيعة الانبعاث الإسلامي


نخطئ كثيرا حين نأخذ كل جزء أو ممارسة حياتية ونحاول إصلاحها أو تجديدها في معزل عن مختلف الممارسات والأجزاء والأفعال الأخرى، ولا ننظر إليها في تكاملها في إطار التصور الإسلامي الشمولي، وفي تعلقها بأصولها الشرعية الحقيقية، وارتباط هذه الأصول بمنبع واحد هو “الأخلاق’، يقول رسول الله  : >إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق<. إن هذا هو منبع الانبعاث الإسلامي الذي يصب في هدف واحد أيضا هو تحقيق العبودية لله في الكون يقول تعالى : {وما خلقت الجِنّ والإِنْس إلا لِيَعبدُون، ما أرِيد منهم من رزْق وما أريد أن يُطعمون}(الذاريات : 56- 67). وكل ما لا يرتبط بعلاقة وثيقة بمنظومة الأخلاق لا يمكن أن يعطي ثماره في التغيير والتجديد، لأنه يجتث جذوره من منبع الحياة التي تسقي أي عمل وأي سلوك يدخل معها في علاقة تداخل وتمازج. وقد وضح رسول الله  في كل موقف أو عمل مدى ارتباط الخلق بإيمان الإنسان، بل جعله أساس كل صلاح وإصلاح في الدنيا والفوز بالآخرة. وقد ضرب مثلا لذلك في الحديث الذي رواه البيهقي حين سأل أصحابه : >أتدرون من المفلس؟ قالوا ؛ المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال : المُفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطي هذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرِحتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار<.  وهو بيان يُرشد إلى خطورة المسألة حين يتم الفصل بين أي عمل وبين إلحاقه بأصوله الشرعية المرتبطة بمنبع الأخلاق. ومن ضمن الأعمال العبادات المكلف بها المسلم. فنحن نرى -والحمد لله- إقبال الناس على ممارسة شعائرهم بعد إعراض، لكن يظل التساؤل : ما مدى ارتباط هذا الإقبال بالممارسات والسلوكيات؟ ذلك أن الأمر كما يقول الشيخ محمد الغزالي ليس عبادة داخل مسجد، بل عبادة في كل مكان(1)، أي مدى تحقق ارتباط مغزى الانبعاث >إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق< بالهدف منه {وما خلقتُ الجِنّ والإنس إلا ليعبدون}، “والعبادة التي شرعت في الإسلام واعتبرت أركانا في الإيمان به ليست طقوسا مبهمة من النوع الذي يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها، كلا فالفرائض التي ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه، هي تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق مهما تغيرت أمامه الظروف”(2). أما أن يقام الدين وشعائره في معزل عن شمولية الأخلاق فإن ذلك ينفي مقاصد الشريعة. وهذا يعني أن المسلم مطالب بتجديد إيمانه كل لحظة من لحظات حياته، واستحضار نية العمل لله ومهما كنا نعتقد في ضآلته أو ضخامته، أو في ارتباطه بالنفس البشرية ومقومات الحياة، أو في علاقته بالمجتمع وقضاياه وقضايا الأمة برمتها، وذلك من أجل تحقيق الغاية من الخلق وهي العبادة الشاملة لكل أعمال الإنسان وممارساته وتصوره. فإذا أخذنا ممارسة شخصية كالأكل مثلا وعزلناها عن أخلاقياتها الشرعية المرتبطة بها تجرفنا إلى مفسدات سرطانية تتناسل في المجتمع وتفرخ فيه بحيث يصعب السيطرة عليها. كذلك إذا أخذنا قضية المرأة مثلا بوصفها قضية إصلاحية تجديدية في واقع المرأة والمجتمع في معزل عن الأخلاق فإننا سوف نظل ندور في حلقة مفرغة لن تبرح المرأة فيها مكانها سوى إلى التطرف نحو الغلو أو نحو الإنحلال. وهكذا دواليك في كل أمر سواء كان قضية من قضايا الأمة أو ممارسة سلوكية فردية.

—–

1- المحاور الخمسة للقرآن الكريم، ص : 191.

2- خلق المسلم، محمد الغزالي، ص : 7.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>