علماء في وجه الطغيان: سعيد بن جبير في مواجهة الحجاج


ثورته على ظلم الحجاج

لقد ثار عبد الرحمن على الحجاج! وثار معه أتباعه، وفي طليعتهم سيد التابعين سعيد بن جبير!!، وكان سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن ليلى وعامر الشعبي، وغيرهم من أعلام الفقه وأئمة العلم في مقدمة الثائرين، وقد لاقت الثورة تأييدا إجماعيا من العراق، وكاد يتم لها النصر الساحق في مواقع متتالية أخذت تتلاحق، إلا أن عزيمة الحجاج الصخرية قد استطاعت أن تتغلب على الصعاب، وقد وردت إليه جحافل الشام، واستعان الطاغية بمكائده الكثيرة، فاندحر ابن الأشعث وفر هاربا تتقاذفه السبل والمشارف وتفرق جيشه أباديد، فقبض الحجاج على ناصية الأمر، وعقد المحاكمات الدامية للثائرين، فأزهق مئات الأرواح.

محاكمته من قبل الحجاج

تصدر الحجاج مجلس المحاكمة، وأخذ يرسل ضحاياه إلى الجلاد شهيدا وراء شهيد، لا يعبأ بعذر واضح أو يتشعر خشية مرهوبة، وكانت محاكمة سعيدبن جبير حدثا رائعا يسجل آيات البطولة من مسلم يثق بعدل الله ورحمته، ويرى من المحتم المؤكد عليه، أن يجابه الطغيان في جبروته، ولا عليه إذا كانت نتيجة ذلك قاسية أليمة،  وقد كان في وسعه أن يتفادى مصرعه بكلمات معسولة تظهر تضرعه واستكانته، ولكنه وجد الحرج الزائد في ضميره، واستشعر الرغبة المخلصة في الشهادة، فأعلنها ثورة سافرة على الظلم البغيض، وواجه الأسئلة القاسية بإجابة تعدلها قسوة وصلابة، فأذن كبرياء الحجاج وحم غروره الكاذب في موقف يترقب فيه المديح والإطراء، بل إن سعيد قد أبى أن يهرب في طريقه إلى المحاكمة، وقد مهد له الحارس سبيل الفرار، أبى ذلك ورفضه كي لا يؤخذ بجرمه حارس ضعيف!! وكيلا تسجل الأجيال عليه نكوصا عن مواجهة الطغيان في موقف تقشعر منه الجلود، وترتعد الفرائص الشداد!! وإليك بعض ما دارت به المحاكمة الرهيبة بين الطاغية الظالم، وغريمه الأبي الصبور!!

لقد انتفخ الحجاج في جلسته، وسأل في استخفاف :

ما اسمك؟

فسمع سعيدا يجيب في صلابة وعزة :

“اسمي سعيد بن جبير”!!

ولكن الطاغية يتهكم فيقول مبالغا في استخفافه : بل شقي ابن كسير!!

فيندفع سعيد ليجيبه بقوله : أبي كان أعلم باسمى منك!!

وإذ ذاك يتضايق الحجاج فيصبح في تبرم وغيظ : لقد شقيت وشقى أبوك، ويظن أنه بذلك قد قطع الرد على غريمه! ولكنه يسمعه يجيب : الغيب إنما يعلمه غيرك، فيستشري غيظه ويلجأ إلى الوعيد والتهديد، فيصيح : لأبدلنك ناراً تتلظى!

وهنا يرده سعيد إلى حقيقته فيقول له في بساطة هادئة : لو علمت أن ذلك لك ما اتخذت إلها غيرك!!

لقد طالت الأسئلة، ولم يصل الرجل إلى إفحام غريمه كما يريد، فليسلك مسلكا آخر يقرب الفريسة من فخها المرصود!! وكان الكلام عن بعض الصحابة -آنذاك- مثاراً للكيد، والاتهام بمناوأة الدولة، والثورة على سياستها العامة، ولاسيما إذا تطرق الحديث إلى الإمام علي -كرم الله وجهه- وقد فطن الحجاج إلى ذلك، فأدار الدفة إلى أهل البيت، وسأل سعيدا : ما قولك في محمد؟ وهو سؤال لا يتطلب رؤية من عالم بصير كسعيد، فصاح يقول: نبي الرحمة وإمام الهدى، بعثه الله رحمة للعالمين.

وهنا نفذ الطاغية إلى هدفه فقال : وما رأيك في علي؟ أهو في الجنة أم في النار؟ واستمع الرد فوجد حزما بالغا وحيطة تامة في قول سعيد : >لو دخلتها وعرفت من فيها لعرفت أهلها”، فقد أقفل بسداده الحازم باب اللجاجة في وجه أموي حاقد، يتربص الدوائر بشيعة علي وعشاقه!!

فتميز الحجاج حنقا وصاح : ما قولك في الخلفاء؟ ولكن الرد يأتيه في قول سعيد : لست عليهم بوكيل!!

وسار النقاش في طريقه الدقيق من باب إلى باب دون أن يزل ابن جبير باتهام يدع حيثية الإعدام في يد عدوه، فاصطرعت في نفسه أعنف ضروب الانفعالات المتناقضة، فكان رأسه يغلي بأفكاره كما يغلي القدر الفائر، ثم هدأ قليلا، وقال في سخرية مريرة >أتريد أن أعفو عنك؟! فإذا سعيد يقول في ثقة وإيمان : >إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا تملك عفوا عن إنسان<!

لو كان الحجاح ممن يخشون لهيبة الله لقنع بما سمع، ولقدر للرجل إيمانه الراسخ، ويقينه العميق!! ولكن حمى الانتقام الرعناء ترتعش في كيانه، ثم تصدع رأسه فيصيح : اختر أي قتلة تريد أن أقتلك بها؟ فيجيبه سعيد في هدوء الصابر وإيمان المحتسب : بل اختر يا عدو الله لنفسك، فو الله ما تقتلني اليوم قتلة إلا قلتلتك في الآخرة بمثلها!!

خاتمة سعيد الدنيوية

ثم تكون الخاتمة الأليمة فيساق الشهيد إلى المذبحة الحمراء، وكانت آخر دعوة ترددت بها أنفاسه الطاهرة : اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي!! وكأن السماء قد سمعت دعاء المظلوم الشهيد، فمات الحجاج بعد مصرع غريمه بخمس عشرة ليلة دون أن يريق دما لإنسان، وحسم الموت شره عن الناس!!

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>