أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس: قال: قال عمي أنس بن النضر ولم يشهد بدرا مع رسول الله فكبر عليه فقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله فيما بعد ليرين ما أصنع. فشهد مع رسول الله يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن مالك فقال: إلى أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية، تقول أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه، فأنزل الله عز وجل فيه وفي أمثاله قـــوله تعالى : {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}( الأحزاب : 23).. هذه الآية تحدد بعض المواصفات الأساسية التي تعد شروطا ضرورية في التمكين والنصر، منها صدق عهد الله عز وجل والثبات عليه والصبر.هذا الوصف الرباني لخيرة أصفيائه من المؤمنين ليس رهينا بزمن دون زمن، ولكنه وصف يتجدد كلما تجددت عزائم الرجال الذين لهم قضية ينافحون عنها، وكما أن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها من العلماء، فكذلك الشأن مع المجاهدين الذين يقدمون المثال الرائع في تجسيد الشخصية الإسلامية التي نشأت وتربت وترعرعت في أحضان كتاب الله وسنة رسول الله .
لقد عاش المسلمون رحيل علم من أعلام الأمة رجل من المجاهدين صدق ما عاهد الله عليه، عاهد الله على طلب العلم والعمل من أجل قضية الإسلام والمسلمين قضية فلسطين : إنه شيخ مقعد ظل ثابتا على المبدإ صابرا عليه مدافعا عنه حتى قضى نحبه، وما بدل وما غير وما تنازل عن الهدف، فنال بذلك الوسام الرباني، نال الشهادة التي ظل لسانه يلهج بذكرها ويطلبها إلى أن لقي ربه، أحمد ياسين، لو كان للأمهات أن يفتخرن بتسمية أبنائهن لما وجدن أفضل من هذا الإسم في العصر الراهن لتظل الأمة موصولة برموزها، هذا الرجل العالم المجاهد صورة متجددة لنموذج العلماء العاملين المجاهدين. رحل الشيخ الشهيد وقد أدى ماعليه -ولانزكي على الله أحداً- أدى ماعليه نحو دينه وقضيته وأمته. فأين المسلمون بعددهم من هذا الرجل الذي شل جسده طيلة اثنتين وخمسين سنة وظل يتحرك عبر كرسي، فإذا به يحرك الأمة من أقصاها إلى أقصاها. ما السر في سمو هذا الرجل، وما السر في سقوط غيره؟ لماذا هبت الأمة واهتزت لموت رجل لا يملك سلطانا ولا مالا ولا قوة، لا يملك سوى سلطان الصدق وقوة العلم وسرعة العمل؟ لماذا صنع الشيخ أحمد ياسين كل هذا الاعتزاز والفخر؟ لقد مسح الشيخ الشهيد العار عن وجوه العرب والمسلمين ورفع هاماتهم الملطخة بأوحال الذل والخنوع، لماذا كبر في أعين المؤمنين والمنافقين واليهود على حد سواء؟ لماذا جن جنون اليهود أمام رجل مشلول؟ أكان هذا الشيخ خطيرا إلى هذا الحد فاحتاج اليهود إلى إبادته بأعتى الأسلحة المتطورة؟ ياللعجب كتلة لحم استدعت قصفا بثلاثة صواريخ؟ ما السر في ذلك؟ ما هي دلالات جريمة الصهاينة؟ لماذا انتصر الشيخ وانهزم اليهود؟ استشهاد الشيخ ياسين انتصار للمشروع الإسلامي واندحار للمشروع الصهيوني. كيف ذلك؟
مكانة الإنسان بقدر علمه وصدقه وعمله
فلا قدر للإنسان في ميزان الإسلام ولا مكانة له في المجتمع إلا إذا كان صاحب علم وعمل يجسد به العلم والصدق مع الله عز وجل. إن الشيخ أحمد ياسين قد التحق بركب الرجال الصالحين الذين جمعوا صفات العلم والإخلاص والعمل، وأولهم رسول الله الذي وضع اللبنة الأولى فقد جمع النبي بين النبوة والعلم والدعوة والجهاد والصدق والإخلاص، ما عرفنا النبي مقصرا متقاعسا مستسلما أو راضيا بأنصاف الحلول على حساب قضية الإسلام، وعلى دربه سار الخلفاء الراشدون والعلماء العاملون من أمثال العز بن عبد السلام وابن تيمية وابن المبارك والإمام مالك وحسن البنا رضي الله عنهم أجمعين، فشاء الله للشيخ أحمد ياسين أن يلحق بركب هؤلاء الصالحين العاملين ليجدد العزم في الأمة حتى تظل ثابتة من أجل تحقيق الأهداف.
أهمية العبادة في صنع هذه النماذج
شاء الله عز وجل لشيخنا الجليل أن يلقى ربه ويغادر الدنيا بعد أداء عبادة الصلاة، فكان آخر العهد بالدنيا عبادة الصلاة.
إن الحرص على عبادة الصلاة له دلالة كبرى، فالعبادة في الإسلام تجسيد صادق لعبودية الإنسان لله عز وجل. لقد ظل الشيخ الشهيد منذ صغره يتردد على المسجد بانتظام يناجي فيه ربه ويضرع إليه بالدعاء في خشوع دائم، في اتصال رقيق بالله عز وجل يشكو إليه ضعفه ويبثه آماله ويرجو نصره، فكانت الصلاة والمحافظة عليها بحق الخزان الذي يضخ دماء الإيمان في قلبه، كان الشيخ الذي لا يستطيع حراكا يحافظ على الصلوات في المسجد، كان قلبه معلقا بالمسجد الذي انطلقت منه أولى شرارات الانتفاضة المباركة، فهل يحافظ المسلمون على الصلوات بانتظام في المساجد؟ ويعيشون حلاوة العبادة ومتعة اللقاء بالله عز وجل في الصلاة؟ وهل تفعل الصلاة فيهم ما فعلته في الذين يجودون بأنفسهم ودمائهم من أجل المسجد الأقصى وأرض فلسطين؟ أم أن الصلاة أصبحت حركات نؤديها ونتخلص من عبئها بشتى الوسائل؟ هذا درس بليغ.
الزهد في الدنيا وطلب الآخرة
لقد عاش الشيخ أحمد ياسين بسيطا في عيشه، في مسكنه، لم يكن من طلاب الدنيا أو لاهثا وراءها، وهذا شأن الرجال الصادقين الذين يوقنون أن الدنيا متاع زائل، لا خير في دنيا تمنع خير الآخرة، ولا خير في دنيا تعود بالشقاء في الآجلة، ولذلك كان الشيخ زاهدا فيها ، يجسد زهده بكرسي متحرك، ظل شامخا مرفوعا على رؤوس أتباعه بعد وفاته وكأنهم يقولون لليهود: إن قتلتم شيخنا فهذا العهد الذي بيننا وبينه،ترك فينا ميراثا دنيويا زهيدا لكنه حمل عقلا وروحا وهدفا وقضية، مشهد الكرسي المرفوع يذكر بحقيقة الإنسان وقيمة الدنيا، لقد ظل الشيخ يسعى لطلب الآخرة ويسأل ربه الشهادة والرضى عنه، فأجاب الله دعاءه فاختاره شهيدا إلى جواره، وكفى بالشهداء فخرا أن أرواحهم في حواصل طير في جنات النعيم، نعم الجزاء على عظم البلاء، هذه الروح أعز ما يملك الإنسان حين يطلبها الله عز وجل فيهرع المؤمن الصادق بالإجابة، حين يريد الله عز وجل اختبار العبد فيساومه على روحه، وكأن الله يقول لعباده : من يبيعني نفسه؟ فيأتي مثل أحمد ياسين والشهداء قائلين: لقد بعناك أرواحنا ياربنا فارض عنا. يقول الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بـــأن لهــــم الجنة}(التــوبـة :111)، درس بليغ في الزهد في الدنيا وطلب الآخرة، فهل نحقق هذا المطلب في الحياة أم نعيش النقيض: زهد في الآخرة ولهث وراء الدنيا؟ واقع الحال يشهد على الركون إلى الدنيا إلا من رحم الله، فلتكن شهادة الشيخ محطة لتصحيح المسار.
الجهاد والصبر عليه برغم المكاره
لقد اجتمعت في هذا الشيخ الجليل مواصفات الجهاد والرباط والصبر مصداقا لقوله تعالى : {ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}(آل عمران : 200)، يقول سيد قطب رحمه الله : “الصبر زاد الطريق في الدعوة والجهاد، إنه طريق طويل شاق حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء، الصبر على شهوات النفس ورغائبها وأطماعها ومطامحها وضعفها وعجزها والتصاقها بالدنيا وحب الحياة، الصبر على استعمال الثمار، الصبر على جبروت الباطل والطغيان، الصبر على قلة الناصر والمعين ووساوس الشيطان في ساعة الضيق والشدة” الظلال. هذا الصبر بأنواعه كان حاضرا في مسيرة هذا الشيخ رغم خطورة الطريق ووعورة المسلك وتهديد الصهاينة بالاغتيال. إنه الدرس البليغ في الثبات والصبر على المكاره لبلوغ الأهداف حتى وإن كان الثمن باهضا يكلف النفس والمال والأهل والولد. فهل يتحقق الصبر والأناة لدى العاملين للإسلام؟ وهل نتعود الصبر على الأذى وعلى شهوات النفس حتى لتجنب السقوط فتضيع الأهداف أو يتعطل تحقيقها؟
العبرة بالفعل لا بالأسماء والمسميات
لقد عاش الشيخ مشلولا لأكثر من خمسة عقود من الزمن، لكنه امتلك قلبا وعقلا وقادا، حفظ القرآن الكريم وسافر طلبا للعلم، لم يقعده المرض والشلل، وإنما جعل من العجز قدرة ومن الشلل حركة، فكيف يكون مشلولا؟ إن الإنسان حين يفقد النور والمنهج الذي ينير الطريق يعيش في ظلمات لا يخرج منها إلا بامتلاك النور الذي أنزله الله، نور الإسلام، وإلا فإن المآل هو الشلل والموت يقول الله تعالى : {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منه)ا(الأنعام : 122). إن النور الذي ظل ينير الطريق للشيخ حتى لقي ربه هو نور الإسلام . فهل يستمسك المسلمون بهذا النور سبيل العافية والسلامة أم يلتمسون غيره؟ إن الشلل الحقيقي هو شلل الإرادة والعزيمة، شلل الفعل والحركة، لقد ظل الشيخ الشهيد مشلول الجسد منذ ربيعه السادس عشر، لكنه ظل متحركا بعقله، بصبره، بتوجيهه، بتواضعه، إن الشلل الحقيقي هو شلل الهمة والنشاط، هو الركون إلى الدنيا، هو الحسابات الدنيوية، هو الرضى بالهوان، هو الاستسلام للعدو، هو الرضوخ والاستجابة لجماح الشهوات، لكن حين تكون الهمة قائمة لا قيمة لشلل الجسد، فالعبادة الحقة والإنفاق في مشاريع الخير وتربية الأبناء وفق النور الرباني عربون على عافية البدن، أما إهمال النفس والتقاعس عن إصلاحها والتقصير في رعاية الأسرة والأبناء والبخل بالمال دليل شلل، الجهاد عنوان على صحة الجسد، هكذا عاش الشيخ مشلول الجسد صحيح الإرادة معاق البدن قوي العزيمة، استطاع أن يؤسس لعمل جهادي مبارك أرعب الصهاينة ولازال وسيبقى بإذن الله. إن الشيخ الشهيد حجة على أصحاء الأبدان مشلولي الإرادة، إن الإيمان بمشروع الجهاد دليل صحة، على عكس الواقع العربي والإسلامي الذي يعاني شللا واضحا في الفعل، تترجمه حالة الضعف أمام المشروع الصهيوني الذي أربك الساسة والقادة، إن الموقف العربي والإسلامي يعبر تعبيرا صادقا عن حالة الشلل التام، فكل الدول العربية عجزت عن ردع الكيان الصهيوني-وهي قادرة- بدون السلاح ولها من الإمكانات ما تصبح حركية فتركع قوى الاستكبار والطغيان، لكنها أبت ورضيت لنفسها حالة الشلل العام، الذي يجسده الأفراد أيضا حين يعيشون غربة عن الدين ويتخلفون عن أداء الواجبات وينتهكون المحرمات.
6- زيف الشعارات: غريب أمر المواثيق الدولية، وشعارات حقوق الإنسان كيف غدت شعارات جوفاء ينكشف زيفها في مثل هذه الأحداث، شعارات ظل المسلمون يسلمون بها ويصدقونها، فإذا بها تخرس ولا يسمع لها صوت، عجز العالم (المتحضر المنافح عن الحقوق) أن يدين الجريمة النكراء، والعبرة، أن على كل مسلم لا زال يحوم خارج حمى الإسلام ويسلم بمفاهيم الغرب أن يراجع قناعاته ويعيد النظر في هذه المفاهيم، فاستشهاد الشيخ أعطى الدليل الدامغ على هشاشة هذه المفاهيم وزيف مضامينها فلم يعد من خيار سوى الرجوع إلى الإسلام الذي هو السبيل الوحيد ولا بديل سواه. والحمد لله رب العالمين