علماء في وجه الطغيان: سعيد بن جبير في مواجهة الحجاج



نشأته

نشأ سعيد نشأة دينية ممتازة، فصحب ابن عباس وورث علمه، وبرع في الفقه براعة أجلسته مجلس الصدارة بين زملائه ومناظيره، وتصدر للفتوى الشرعية، فسار الركبان بآرائه، ونهل الرواد من علمه، وأوجد بالكوفة حركة فقهية ممتازة.

ولا يمكن لمن يلاحظ تطور التشريع في أدواره المختلفة أن يغفل دور التابعين في توجيهه وإنمائه، أو يجحد مكان سعيد في إنعاش الحركة العلمية لعصره، واعتماده في ذلك على عقل بصير واطلاع شامل، فقد بدأت لعهده تظهر الفروق الأولى بين مذاهب الرأي والحديث، و تتجمع الأحكام المختلفة، والآراء التي مهدت لظهور أبي حنيفة ومالك!!

ثم أعقبت هذه الذخيرة الحافلة التي يعتز بها تراثنا الفقهي، ولو تأخر الزمن بسعيد إلى عهد التدوين والتأليف لقرأنا من كتبه ما يعين على تحديد موضعه بين أفذاذ الفقه الإسلامي، على أننا نلاحظ من آرائه المتفرقة في شعاب الكتب ما ينبيء عن فضل سابغ، ومجد تليد، وقد اعترف أئمة العلم والورع ببراعته في فقهه وتقواه، فقال الإمام أحمد بن حنبل : لقد قتل الحجاج سعيدا وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، وقال حصيف : أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس، وبالتفسير مجاهد وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير. وقال الحسن البصري : اللهم ائت على فاسق ثقيف، فوالله لو أن من بين المشرق والمغرب اشتركوا في دم سعيد بن جبير لكبهم الله على وجوههم في النار!!

جراءة سعيد في الحق

وعالم فقيه له هذه المنزلة في فقهه وتقواه لابد أن يحتل مكانه اللائق في النفوس، وقد كان إلى ذلك كله شجاع اللسان جرئ القلب، يقول الحق السافر دون أن تأخذه في الله لومة لائم.

رأى ابن جبير مظالم الحجاج وقسوته، فلم يشأ أن يعتزل الناس في مسجده، بل عمل على تخفيف حدة الطاغية بالنصيحة والموعظة، وشارك في بعض الوظائف مشاركة فعالة، يدرأ بها ما قد يحيق من حيف وعدوان، فكان نصيرا للضعفاء، يبذل جهده الجيهد في تخفيف الويلات ودرء المصاعب، كما يفرق ما يتجمع لديه من أموال، على من مسهم العوز والاحتياج، وقد أخذ عليه بعض الكتاب إسهامه في القضاء والمشورة، ولسنا مع من يقول ذلك، فكفاح المناضل المخلص يجلب منافع صائبة، ويدفع نوائب كارثة، وإذا تعاون المصلحون  -في أوقات الطغيان- على الخير وأسهموا في الكفاح، فإنهم لابد واصلون إلى بعض ما يبتغون من السداد، ولئن لم يمكنهم إخماد النار المشتعلة، فهم على الأقل يحصرونها في نطاق أضيق.

جهاده

ولم يتخلف سعيد بن جبير عن الغزو والجهاد، فقد خف إلى مقاتلة (روتبيل) ملك الترك حين تحرش بالمسلمين، وهاجم سجستان، فدك الحصون، وأزهق الأرواح، ووقع العرب في رعب شديد، وفزع هائل، وقد سار الجيش الإسلامي بقيادة عبد الرحمان بن الأشعث لتأديب الطغاة.

وقد خطب عبد الرحمن جنوده وصور الموقف الدقيق داعيا إلى الحمية والاستبسال، ثم أخذ يتقدم فيحتل مواطن أعدائه بلدا بلدا، وقد فكر في أمره طويلا، فرأى من الحيطة أن يكتفي إلى أمد قريب بما أحرز من نجاح، فلا يدفع بكتائبه المُجْهَدَة في مطارح نائية دون أن تأخذ نصيبها من الراحة والاستجمام فتنقطع بها الأسباب وينقلب النصر هزيمة نكراء، ثم كتب إلى الحجاج ينبئه بما أصاب من غنم، وما عزم عليه من هدنة مؤقتة يتم بعدها الاستيلاء التدريجي على البلاد وكان على الحجاج أن يقدر له موقفه، فيشجعه بعبارات تفعل فعلها الحميد في نفسية القائد المناضل وجنوده المغاوير، ولكنه عارض الهدنة معارضة شديدة، وأرسل إلى عبد الرحمن خطابا مليئا بالزراية والاستهجان، ثم أعلن عزله وتوعده مهددا منددا..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>