سبقت إثارة هذا الموضوع في نفحة سابقة، ويبدو أن الرجوع إليه أمر ضروري، ولا سيما بعد أحداث 11 مارس وحجم المشتبه فيهم من المغاربة جيران إسبانيا، مما جعل المغربي هناك متهما إلى أن تثبت براءته، بما ترتب عن ذلك من تفجير الكوامن لدى عدد كبير من الاسبان وتأجيج مشاعرهم المتوجسة حينا، والحاقدة حينا آخر، تجاه المهاجرين المغاربة، وأيضا يثار هذا الموضوع بمناسبة زيارة رئيس الحكومة الاسبانية الجديد إلى المغرب باعتباره أول محطة لزيارة خارجية له، جريا على عادة أسلافه، بما لهذه الزيارة من دلالات كثيرة وعميقة بالنسبة لإسبانيا وللمغرب في الوقت ذاته.
ليس المهم الآن هو الوقوف على الأهداف القريبة والبعيدة كما يتصورها الجانب الاسباني، ويلخصها في عدة نقط، منها التعاون على مكافحة الإرهاب، والعمل من أجل القضاء على الهجرة السرية، واستعادة الحوار الذي عرقلته أحداث طارئة ومواقف سابقة دون مراعاة رغبة الشعبين في التعايش، ولا حق الجوار، ولا الإرث الثقافي المشترك، ولا الملفات العالقة التي تضيع مع تجميدها حقوق المغرب، ولا التطلع المشترك إلى التعاون الاقتصادي بما فيه خير الجانبين، وهكذا.
بل المهم أن هناك أفقا جديدا يبشر بانفراج، ويمهد لحوار قائم على التفاهم ومراعاة جميع الأواصر المشتركة بين الجارين، ليس انطلاقا من الآني والراهن فقط، بل مراعاة للماضي المشترك، وبما يضمنه من عبق التراث الحضاري الشامخ الذي نبت غرسه السامق في التربة الأندلسية الخصبة، وطعمتها نوافح من هنا وهناك، وظلت أفنان هذه الغرس تفوح بالقيم الحضارية والإنسانية العميقة، مؤكدة ما لعبقرية التمازج والتعاون والحوار الثقافي والترفع عن الاعتبارات الضيقة الطارئة من دور وأثر بالغين في خدمة البشرية بصفة عامة، وفي دعم العلاقات الإيجابية المتبادلة بينالمغرب وإسبانيا بصفة خاصة.
إن طبيعة المرحلة تفرض اليوم إثارة مجموعة من التساؤلات التي تتطلب إجابات حكيمة في تصوراتها ورؤاها، بعيدا عن كل انفعال سياسي، أو تصادم مفاجئ وفي مقدمة تلك التساؤلات :
ما هو تصور كل من المغرب وإسبانيا للعلاقات المتسقبلية بينهما؟
وكيف يمكن تحقيق هذا التصور والاقتناع به بالنسبة لكل من الطرفين؟ وما هوالإجراء المناسب الذي يتيح معالجة الملفات العالقة بطريقة تحفظ كرامة الجانبين وتصون حقوقهما، وتجنبهما كل توتر أو تشنج مهما كانت أسبابه ودرجاته؟ ولا سيما وأن الظروف الراهنة تختلف جذريا عن ملابسات الماضي الذي لا تزال ظلاله تهيمن على كل حوار مفترض أو فعلي راهنا أو مستقبلا؟ وما هي الضمانات التي تكفل للمغرب استرجاع حقوقه المهضومة بأسلوب حضاري يناسب الرصيد الغني للدولتين، ويزكي حسن النية عند كل منهما؟ متى وكيف وعلى يد مَنْ؟ وتتوالى التساؤلات، ولكن يبدو أن صوت السياسة بما يرتبط به من ملابسات لا يمكن أن يضطلع وحده بتحقيق الأهداف النبيلة التي يتطلع إليها الأحرار النزهاء في الضفتين، لأسباب كثيرة يعرفها الخبراء في مجال السياسة، ولذلك فلا بد من صوت المثقف المستقل، الحر، النزيه، الواعي بأبعاد الماضي، وبملابسات الحاضر، وبآفاق المستقبل، المراعي لطبيعة الجوار الجغرافي، المقدر للرصيد التاريخي المشترك وما حققه من تعايش على امتداد قرون متوالية، ولأن الثقافة تترفع عن التوترات والانفعالات، وترتبط بالقيم الإنسانية النبيلة، وتراعي المصالح الكبرى، وتتوخى البناء الحضاري الدائم، وتسعى إلى تحرير الناس وتنقية عقولهم من ترسبات المرحلة الاستعمارية وبقايا الحروب الصليبية الممقوتة، ولأن المثقفين يطلبون الحقيقة، فهم الجديرون برفع الالتباس، وإزالة الغموض، ودحض الافتراءات، ورفع كل مبهم أو سلبي يعوق الحوار المأمول، وهم الذين يستطيعون توظيف منجزات الماضي لفائدة الحاضر، وهم الذين يمكنهم إذابة ما يخيم على الحاضر من جليد بارد وبث الدفء في أوصاله من أجل بناء المستقبل، وهم الذين يعرفون كيف يتجاوزون السلبيات والرواسب وتخليص لا وعي ساكنة الضفتين من عقدها وتداعياتها، وهم الذين يستطيعون تغيير الصورة القاتمة لهذا الجانب أو ذاك، هنا أو هناك، وتعويضها بصورة بديلة مشرفة تعكس ما في المشاعر والأذهان من نقاء ونبل وأمل إنها مسؤولية مثقفي البلدين، تعززها جهود المنابر الثقافية والإعلامية، ومؤسسات المجتمع المدني.
إن المثقفين المغاربة والاسبان هم المؤهلون لإعادة الجسور وتوطيدها، وهاهي الفرصة التي أتاحتها السياسة أمامهم تنتظر المبادرة تلو المبادرة، وقد خرجت بعض الإرهاصات إلى الوجود، وظهرت بعض الجهود الجدية الواعية بما يجمع بين البلدين من أواصر تجعل العلاقة بينهما حميمية بالضرورة، وفي ذلك الخير كل الخير للطرفين.