مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :حــــلاوة الإيــمــــان


عن أنس بن مالك ] قال : قال رسول الله  : >ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب في الله ويبغض في الله، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئا<(رواه البخاري ومسلم)

هذا الحديث النبوي الشريف يعتبر من أروع وأجمع أحاديث المصطفى ، لما يضمه من قواعد تصورية وتربوية تشكل حجر الزاوية في بناء المسلم الحق، والمجتمع الصلب، فهو يحوي ثلاث خصال إن اجتمعت في المرء كمل دينه وصلح عمله فكيف ذلك؟

< الخصلة الأولى : وهي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وهذه الخصلة تتطابق بالضرورة مع أصل التوحيد الذي ينبني عليه الإسلام ويقوم عليه، فالمرء لا يكون خالصا مخلصا في إيمانه وعمله وعبادته لله حقا إن لم يكن قلبه مفعما بحب الله وحب الرسول، بحيث لا يبقى بجوارهما حيز لغيرهما ينازعهما فيه ولو حظا يسيراً، لأن الحب المطلق والكامل لله وللرسول هو الذي يدفع الإنسان إلى إسلام قياده لله والانصياع إلى تعاليمه وتشريعاته بنفس زكية راضية طيبة، ترى في الشعائر التعبدية والتشريعات العملية قربات لله وللرسول.

فالمحب تجده دائما مندفعا بكل فكره وجوارحه ومشاعره نحو المحبوب يطلب رضاه بِالغَالِي والنفيس ولا يبالي بما قدم أو أخر في سبيل نيل رضى المحبوب.

ثم إن التركيز على هذه الصفة في بداية الحديث ليس صدفة ولا اعتباطا، بل لأنها صفة لها ما بعدها، فهي تشكل الحصن الحصين للمسلم من الانزلاق في متاهات الهوى وغوايات النفس والأهل والولد، إذ ما أن يستحكم حب الله والرسول في النفس حتى يكبح جماحها عن ورود باحات الحرمات واقتراف الآثام، لأن العبدكلما همّ بشيء من ذلك، تحرك حبه لله وللرسول ليقول له إن ما  أنت مقدم عليه ليس من شيم المحب، لأنه يغضب محبوبك فيَرْعَوِ ويرجع عن ذنبه، وحتى وإن فُرض وزاغ العبد وزلت قدمه مرة أو أخرى فإن هذا الحب لله وللرسول يمنعه من الاصرار على المعصية ويدفعه إلى التوبة عن قريب لينعم بحلاوة الإيمان التي يقذفها في جوفه حبه لله وللرسول.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل حب الله والرسول يأتي هكذا دون مسببات؟ بحيث يصبح الرجل فإذا بقلبه ينفطر حبا؟.

إن لله سبحانه وتعالى سننا في خلقه، فكل شيء يسير وفق أسباب وينتهي إلى غايات، فكذلك الارتباط بالله ورسوله وحبهما.

فلا يمكن لنا أن نزعم بأن شخصا يقضي معظم وقته في الملاهي والفتن الدنيوية المختلفة التي تربي الغفلة عن الله ورسوله في قلبه، لا يمكن أن نزعم، أن هذا الشخص سيحب الله ورسوله حق الحب، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله لأن الحب بذرة تزرع في القلب إذا لم ترعى وتسقى فلن تشب وتنمو.

فحب الله وحب الرسول إذا لم يغذى القلب بتلاوة القرآن، والتفكر فيه، وذكر الرحمن وتدبر آياته في النفس والآفاق، والاطلاع على سيرة الحبيب الأغلى والأعلى  ومعرفة شمائله  والتأسي بها، فلن يكبر ولن يتحول هذا الحب إلى طاعة مطلقة لله والرسول.

وإن كنا على غير هذه الحال ونزعم حب الله والرسول فلا شك أننا المعنيون بقوله تعالى : {يا أيُّها الذِين آمَنُوا لِمَ تَقُولُون مَالا تَفْعَلُون كَبُر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تَفْعَلُون}(سورة الصف) أو قوله تعالى : {يَقُولُون بأَلْسِنَتِهِم ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهم}. أيها الأخ الكريم إن سيدنا عمر ] حينما قال للرسول  أنه أحَبُّ إليه من كل الناس إلا من نفسه، قال له الحبيب المصطفى أنه لم يؤمن تمام الإيمان وأنه لن يؤمن حقا حتى يكون أحب إليه حتى من نفسه، فعندما أحس عمر بهذه الدرجة من الحب وقالها للنبي  أجابه المصطفى >الآن يا عمر< أو كما قال .إنما سقت هذا الموقف لأؤكد للقارئ الكريم أن النبي كان يعني ما يقول وأنه يعرف تبعات أن يبقى في حب الرجل لله والرسول منْزع ينازعهما فيه. ومن ذلك أن المسلمين ماكانوا ليبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله بنفس راضية وعين قريرة لو لم تكن محبة الله والرسول قد استحكمت حقا من نفوسهم وصارت أحب إليهم من ذواتهم وأموالهم وأهليهم.

< الخصلة الثانية : أن يحب في الله ويبغض في الله : والحقيقة أن هذه الصفة تابعة لتلك إذ لا يمكن لإنسان عرف الله حق المعرفة حتى أحبه الحب الكامل المطلق، وعرف للنبي قدره وفضله وأحبه حبا لا يعدله حب، ثم يأتي ويكون حبه أو بغضه نابعا من مصلحة أو غيرها من البواعث الدنيوية، لأن قلبه المفعم بحب الله لم يعد يستطيع أن يخفق أو يدق إلا على الموجات الربانية، فهو يرى بمنظار رباني، ويشعر بقياس رباني، وبالتالي فقلبه يميل بشكل تلقائي إلى من يذكره بالله، ويرى فيه سمتا ومعاملة وسلوكا ربانيا، وينفر ويبتعد سليقة من كل من يرى فيه خبثا وبعداً عن المنهج الرباني ثم إن الإنسان المؤمن يستحضر في هذا المقام الجائزة العظيمة التي وعده بها الحق سبحانه إن هو أحب الناس لا يحبهم إلا في الله، يستحضر أنه سيكون من السبعة الذين يظلهم الرحمان بظله يوم لا ظل إلا ظله، فيزيد من تجرده في حب الناس، ويبتعد عن الانتهازية والمصلحية، وينظر إلى الجميع بنظرة المسلم السمحة، التي تحب الخير للجميع وتتودد للجميع {رحماء بينهم..}.

ولو أن المسلمين اليوم اتصفوا بهذه الصفة حقا، لاختفت العديد من الأدواء بيننا، لو أننا تجردنا في معاملاتنا ومشاعرنا وجعلناها خالصة لوجه الله، لما وجدت الزبونية والمحسوبية طريقها إلى إداراتنا، ولما نخرت الرشوة والأتاوة جيوب مواطنينا واقتصاد بلادنا.

< الخصلة الثالثة : أن يكره العودة في الكفر كما يكره أن يقذف في النار، وهذه الخصلة بدورها تؤكد أن الحديث كل لا يتجزء، وأنه يقدم بناءاً متكاملا لشخصية المسلم، ولما ينبغي أن تكون عليه عقيدته وإيمانه من صدق يقين وثبات عزيمة، فالمسلم حينما يسلم زمام أمره لله تعالى إنما يفعل ذلك عن يقين بأنه يتاجر مع الله تجارة وإن نال بعضا من ريعها في الدنيا فإنه ينتظر الربح الحقيقي في الآخرة. جنات الخلد التي لا يظمأ فيها ولا يشقى، وبالتالي تهون في وجهه كل العقبات وكل الصعاب، حتى وإن كانت تحريقا لجسده أو تمزيقا لأشلائه، وما صبر المسلمين في بداية الدعوة إلى الله على أذى المشركين وتنكيلهم بهم إلا ثمرة لهذه العقيدة الراسخة وهذا المفهوم المتجدر في نفسية وعقل الأمة، وما ورود قصة أصحاب الأخدود في القرآن الكريم إلا مثال يضرب لشحذ الهمم وتبيان أن سلعة الله غالية لا ينالها إلا الصادقون الصابرون المحتسبون.

ولو أن الأمة استمرت على يقينها وحبها لدينهابالشكل الذي يصوره الحديث النبوي الشريف لما أعطت الدنية في دينها ولما تداعى عليها الأمم كما يتداعى الأكلة إلى قصعتها، ولذاقت من نصر الله وحلاوة الإيمان ما أخضع لها الأمم، وفتح في وجهها البلدان، ولكن نست الله فنسيها إلى أن تؤوب إليه خاشعة خانعة مؤمنة مطمئنة.

مستفادات وملاحظات عامة

أول هذه الملاحظات أن ما أشار إليه الحديث في بدايته من حلاوة الإيمان هي حلاوة ليست مجازية ولا تشبيهية، بل حلاوة حقيقية تخالج النفس وتغمر البدن، تشتد وتقوى كلما قوي الإيمان واستحكم، وتضعف وتتلاشى كلما ضعف وتقهقر، ومن هنا فكل واحد منا يمكن أن يقيس شدة قربه من الله ومن رسوله وشدة تمسكه بدينه بنفسه؛ من خلال البحث عن مقدار حضور أو غياب هذه الحلاوة داخل النفس، فلكما وجدها وأحس بها فليحمد الله ويثني عليه وليستمر على ماهو عليه من طاعات ومعروف وإن افتقدها فليلم نفسه واليبحث عن موطن الداء وليحرص على رياضتها وتهذيبها حتى تعود إلى جادة الطريق، فينعم بالحلاوة التي ما بعدها حلاوة.

ثم إن من مستفادات هذا الحديث وخلاصاته، أنه حديث على صغره وقلة جمله، وإن كان يدرج في باب الفضائل ومكارم الأخلاق، فإنه يعتبر أصلا من أصول التوحيد، ولبنة من لبنات البناء الإسلامي للشخصية الإسلامية المتوازنة المنشودة، حيث أنه حديث لو فقهت مضامينه وعمل بها لسادت المعاملات داخل المجتمع الإسلامي أخلاق من السمو والرفعة بحيث يصير الأمن والاطمئنان سائدين في كل مناحي المجتمع، في البيوت والمدارس في المعامل والمتاجر، في الإدارات والمستشفيات، كما أن الأمة ستكون أمة بكل ما تحمله الكلمة من تراص البناء وتماسكه ولاستطاعت أن تقف في وجه أعدائها ومخططاتهم العسكرية والسياسية والاقصتادية وقفة الند للند، بل ولأعطت البديل الحضاري الذي يستطيع أن يفرض نفسه بصلاحه وصفائه وانسجامه مع الفطرة السوية والتعاليم الربانية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>