مع كتاب الله عز وجل: تفسيـر سـورة التغابـن : {يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لكُمْ فاحْذَرُوهُم وإنْ تَعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا فإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.


تربية السليمة أهَمُّ وقاية من إشتعال العداوة بين أفراد الأسرة

هذا خطاب جديد للمؤمنين وهذا توجيه عظيم للأسرة الإسلامية كي تتماسك وتتعاضد ولا ينشأ بين أعضائها تخاصُمٌ وتطاحن، ونبدأ بإلقاء الضوء على بعض كلمات الآية العظيمة.

1) يا أَيُّها الذِين آمَنُوا : عبارة يا أيها الذين آمنوا تعُمُّ الرجال والنساء، مثل : {أَقِيمُوا الصَّلاة} فالخطاب للرجال والنساء، والأصْلُ في الخطاب القرآني هو : {يا أيُّها الذين آمَنُوا} وليس في القرآن يا أيتها اللاّتِي آمَنَّ، ولا يحيدُ القرآن عن هذا الأصل إلا إذا كان هناك دَاعٍ يقتضي ذكر النساء، أو يقتضي ذكر حكم خاص بالنساء، وإلا فالأمْرُ دائما على الأصل {يا أيُّها الذِين آمَنُوا} ويدخل في الخطاب الرجال والنساء.

2) إن من أزواجكم : منْ هنا لا تكون إلا للتبعيض، لأن مِنْ قد تكون تَبْعِيضِيّة وقد تكون بيَانِيَّةً، أي تفيدُ البيانَ وليس التجْزيء مثل {فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ منَ الأَوْثَانِ..} هنا من بيانية، أي : اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، كُلُّ الأوثان رجسٌ كما تقول مثلا اشتريتُ خاتماً من فضَّة، أي اشتريت خاتما هو فضة من هنا ليسْتْ تبعيضية، ولكنها بيانية.

وتكون تبعيضية أحيانا أي تجزيئيّة مثل جاءني بعضٌ من الرجال، منْ هُنا فيها بعْضُ التَّجْزيئ والتّبْعيض وكذلك الأمر في قول الله عز وجل {إنَّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لكُمْ..} أي ليس كُلُّهم عدُوّاً، ولكن منهم من هو عدوّ {… فاحْذَرُوهم}.

3) أزواجكم : الزوج هنا ليس هو المرأة فقط، ولكن الزوج يطلق على الرجل والمرأة معا، فيقال في المرأة : زَوْجُ فلان، ويقال في الرجل : زوج فلانة، أما الكلمة الخاصة بالرجل فقط فهي >بَعْل< وليس من الضروري أن يقول الإنسان : فلانة زَوْجَتِي. وإن كان يجوز، إلاّ أن زوج بدون تاء أحسن في اللغة الفصيحة، خصوصاً والله تعالى يقول : {وَأصْلَحْنَا لَهُ زَوجَهُ}.

على كل حال إن الأزواج قديكون بعضهم عدوّاً للآخر، فربّ امرأة هي عَدُوّ للرجل، وربّ رجل هو عدوٌّ للمرأة، حتى لا تبقى الآية خاصة بالمرأة، فقد يكون الرجل سبب ادخال المرأة النار، وقد تكون المرأة سبب إدخال الرجل النار.

4) وأولادكُم : نحن في العادة عندما نسمع “الأولاد” ينصرف ذهْنُنَا إلى الذكور، مع أن الوَلَد في القرآن يطلق على “المولود” ذكراً كان أو أنثى، يقول تعالى : {يُوصِيكُم اللَّهُ في أولاَدِكُمْ للذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن}.

5) فاحْذَرُوهم : احْتَاطُوا في تربيتكم ومعاملتكم لأزواجكم وأولادكم، حتى لا تكون التربية السيئة أو الإهمال سبباً في تنشئة العداوة داخل البيوت والأسر.

سبب نزول الآية : قال المفسرون : إن هذه الآية نزلت في أناس من المؤمنين كانوا أسلموا في مكة وكانوا يريدون اللحاق برسول الله  إلى المدينة ولم يفعلوا لأن أبناءهم كانوا دائما يثبطونهم ويقولون لهم؛ إذا ذهبتهم فسنكون نحن بمضيعة وسوف يقع لنا كذا. وكذا.. فكان الأبناء يمنعون الآباء من الهجرة، حتى شاء الله تعالى بعد ذلك أن تشرع الهجرة وأن تكون النقلة كبيرة. ويذهب هؤلاء إلى المدينة حيث لاحظوا أن الذين هاجروا قد تفقهوا في الدين وحفظوا القرآن وعلموا أشياء وأشياء من أمر هذه الشريعة، وأن أولئك الذين ظلوا بمكة لم يكن لهم من علم بهذا الدين، فقاسوا أنفسهم بأولئك السابقين وعلموا أن أبناءهم كانوا هم سبب هذا التثبيط وهذا التأخر، وحين أراد بعضهم معاقبة أبنائهم لأنهم كانوا هم السبب في تثبيطه وفي إعاقته وفي منعه من أن يصل إلى ما وصل إليه الآخرون.

وقال مفسرون أيضا، إن هذه الآية نزلت في رجل بالخصوص هو عوف بن مالك الأشجعي الذي كان صحابيا يهم بالمشاركة في الغزوات مع رسول الله ، لكنه كلما أراد أن يتجهز لغزوة تحلق حوله أبناؤه وأخذوا يقولون : يا أبانا لمن تتركنا من بعدك… سنضيع بعدك… فيرق لهم وتأخذه رقة فيدع سلاحه ويتوقف ولا يغزو مع رسول الله ، فشكا ذلك إلى رسول الله ، فنزلت هذه الآية بياناً لمَوْقِفِ الآباء من الأبناء وموقف الأبناء من الآباء وأحَّلَتْ هذه الآية هذا الأَصْلَ الذي هو أن بعضَ الأبناء وبعض الأزواج هم أعداءٌ لآبائهم إن كانوا أبناء، وهم أعداءٌ لأزواجهم إن كانوا أزواجاً سواء كانوا رجالا أو نساءاً.

لا شك أن مظهر الآية، إذا ربطناها بسبب النزول نرى أن الخطاب موجه هنا للمؤمنين الذكور، وأن الأعداء قد يكونون الأولاد وقد يكونون الزوجات ولكن الآية فيها عمومٌ عجيب جداً. فالآية تخاطب جميع المؤمنين.

القرآن الكريم لا يدعو للتعادي ولكن يحذر من الوصول إلى مرحلة التعادي

فالقرآن الكريم يحذر الإنسان المؤمن من هذه العداوة، والهدف من هذه الآية هو تنبيهك أيها المؤمن، وأن تكون على وعي كامل بهذه القضية، وأن لا تستنيم وأن لا تسْتَرْخِي، ولكن القرآن الكريم لا يجعل مقابل العداوة عداوة، الأصل أنه إذا قلت لك يا فلان إن فلاناً عدو لك، طبيعي أن تقول : وأنا أيضا سأكون عدواً له، هو عدو لي فإذاً أنا عدو له، القرآن لم يقل هذا {إنَّ من أزْواجِكُمْ وأوْلاَدِكُم عدواً لكُم} ولم يقل عادوهم أو حاربوهم ولكنه قال {فاحذروهم} إذن الذي يفيدكم هو أن تكونوا حذرين وأكثر من هذا {… أنْ تَعْفُواوتَصْفَحُوا وتَغْفِروا} {تعْفوا..} والعفو هو عدم المؤاخذة وعدم العقوبة مع القدرة عليها، والعفو هنا مطلوب مؤكد لأن العفو مطلوب دائما بعد الجريمة، إذا أجرم شخص في حقك فالمطلوب شرعا هو أن تعفو رغم أن الجرم قد ارتكب في حقك، أما هنا بالنسبة للأولاد فأنت تتوهم وتتصور أنهم أعداء، إذن فمجرد تصورك لا يجعلهم مجرمين حقيقة، إذن فالعفو هنا واجب لأن العداوة لم تَبْدُ لك بعد، إذن أُعْف، واصفح أي أن تضرب صفحا عن هذا الأمر ولا تنتبه إليه.

ثم الأمر الآخر هو أن تغفر لولدك، معنى أن تغفر له، أن تستُر هذا الأمر، ألاَّ تجْعَلَهُ حديثاً مُشَاعاً ألا تجعله حديثاً متداولا، لأن الأمر عندما يذيع ويفضَحُ الرجلُ ابنَه وزوجَه أمام الناس، والزوجةُ كذلك، فإن العلاج يصبح متعذِّراً وغَيْرَ ممكن.

يمكن أن يصدر من الابن شيء!! نعَمْ، ولكن الله تعالى قال : {فاعْفُواواصْفَحُوا واغْفِرُوا}، لماذا تغْفِرُون لتطْوِيق الأمر، فالشيء مادام لم يُصْبِحْ حديث الشارع يمكن تطويقه، لكن عندما يذيع الأمر فلا سبيل لعلاجه، بل الجميع يكون خاسراً، الابن والأبُ والزوجة، الكل وبدون استثناء.

إذن القرآن الكريم ينبهنا إلى شيء دقيق جداً، انتبهوا أيها الإخوة، فكثيرمن الناس يفهمون هذه الآية فهما معْوجّاً تماما، فيتحولون إلى أعداء حقيقيين لأبنائهم، وحينئذ لا يمكنك تأسيس أسرة إسلامية إذا كنت تظن أن جميع أبنائك عدوُ لك. الأسرة التي تنبني على الشك والتوجس لا يمكن أن تكون أسرة إيجابية نافعة، إن الأسرة يجب أن تقوم على دعامة أساس وهي الثقةُ وتبادلُ المحبة وهذا الأمر يجب أن نتنبه إليه.

إذن الزوج أو الزوجة قد يكون واحد منهما سببا للإضرار بالآخر،وقد يكون عدواً، قال بعض المفسرين : إن معنى أن الزوج قد يكون عدواً، أو الزوجة تكون عدواً، معناه أن العداوة هي فعلا عداوة حقيقية أي هذا استعمال حقيقي، بمعنى أنه يمكن أن يكون للإنسان عدو حقيقي من أهله يمقته ويكرهه من أولاده أو من زوجته، وهذا الأمر ليس مستنكراً، فكم من النساء كن يضمرن العداوة الحقيقية للأزواج ويسعينسعيا حثيثاً في تدمير الأزواج، ويقع أيضا العكس أن الرجل يكون عدواً حقيقيا للمرأة فيُضِرُّ بها.

إذن فالعداوة يمكن أن تكون على سبيل الحقيقة، ويمكن كما قال بعض المفسرين أن نفهم العداوة هنا على أنها تمثيل، أي إن بعض الأزواج والأبناء قد يكونون ضارين كالأعداء ولكنهم ليسوا أعداء، فهذان فهمان مذكوران عند علماء التفسير.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>