إن المتأمل في الأمور الغيبيّة الإيمانية يجدر به أن ينظر إليها من منظارين :
الأول: الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تتسم بالثبات والبقاء، ما دامت السموات والأرض.
الثاني: مدارك الإنسان العقلية، وعمق تصوره، وسعته المتّسمة بالتغير والاختلاف والتباين من فرد إلى فرد ومن جيل إلى جيل.
ولا جرم أن التصديق بالأمور الغيبية لا يتم أو لا تتكامل عناصره بالاكتفاء بعرض نصوص الأول وحده، أو بالاعتماد على الثاني وحده؛ إذ إن مهمة بعث الإيمان -ولا سيما في هذا العصر- لا يكفيه عرض الآيات الكريمة وسردها آية آية، وإيراد الأحاديث الشريفة حديثاً حديثاً من غير تنوير عقلي وإدراك إنساني متناسب مع قدراته، كما أن مدارك الإنسان وقدراته العقلية وسعة أفقه لا تكفي أساساً لبناء إيماني متين، من غير تبصير قلبي وانبعاث روحي، واستلهام وجداني من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
ومما سبق نرى مصداق قول الرسول في عناية الله الشاملة على البشرية في بعثه من يجدد أمر دينها كل مائة سنة من الزمان.
وربما يرد سؤال: ما الحكمة في تجديد الدين؟ وما الحكمة في تسلسل المجددين وتواترهم؟ أليس الإسلام قد اكتمل؟
لقد كان المجددون ممثلي عصرهم، مرشدي إنسان عصرهم إلى مناهل الإيمان وإلى ارتشاف نسغ الحياة من روح الآيات الكريمة ورحيق الأحاديث الشريفة، ليجدوا لذة الإيمان أنّى كانوا وكيفما كانوا. وعلى ذلك استحقوا تسمية: …ورثة الأنبياء.
فالمجدد لأمر الدين يهبه الله سبحانه رؤية واضحة شاملة، وبصيرة نفاذة، وقدرة على سبر غور الآيات والأحاديث، لينهض في أداء الرسالة والتبليغ بها، حتى كأنه مندوب لهذه الأمة منذ نشأته وحتى مماته. فإذا بحياته سجل حافل ينقل صورة عصره وتصويبه لزلات معاصريه، ويفتح أمامهم سبل الاستهداء والاسترشاد.
وبديع الزمان سعيد النورسي رجلٌ قد أفاض الله على قلبه من نور القرآن الكريم ما جعله يدخل عالم الإيمان والغيبيات بثبات وإقدام، في عصر طغت فيه قوى المادية، فأسدلت غشاوة على الأبصار والبصائر، فلم تعد ترى العقبى، وبدت الغيبيات شاحبة باهتة خافتة تنتظر من يجلوها ببريق الإيمان، فما فتئ النورسي يجول ويصول في هذه الساحة متزوداً بنور الهداية الربانية، وما حباه الله من قدرات فائقة في استيعاب ما وصل إليه عصره وما وصلت إلى عصره من علوم، وما تفتحت أمامه من آفاق الحاجة الإنسانية في عصره، حتى وجدناه في رسائله -رسائل النور- وفي تربيته لطلابه مثالاً للمجدد المُقتدي بالرسول الكريم ، والمُقتفي خطوات الهداية في نور القرآن المبين.
ولعل العناية الإلهية شاءت أن تغرس في النورسي بصيرة نفاذة، وقدرة عجيبة في دمج العلوم العقلية الحديثة والعلوم النقلية الشرعية، فكأنه ينهل من جذور المعرفة لا من فروعها؛ إذ يقدم حلولاً وإرشادات في أعقد الأمور الحياتية والإيمانية والغيبية في بلاغة رائقة وأسلوب رشيق، تأنس به العقول وتطمئن به القلوب، فتجد فيه ضالتها، ومنفذ خلاصها من دون أن يكدّر شيئاً على صفو الأفهام أو يغرقها في الفروع دون الأصول.
ولكي يكون أسلوبه جامعاً لجماح العقول وشرود القلوب، فقد أودع الله فيه قدرة على الاستشهاد بـالأمثلة المقنعة القريبة من العقل والقلب معاً، ومنحه قوة المنطق الفطري والبرهان العقلي والأدلة المقنعة وإقامة الحجج القوية في معالجته الأمور الغيبية الإيمانية، لذا يجد قارئ الرسائل متعة جديدة كلما أعاد قراءتها، بما ينكشف أمامه من آفاق إيمانية احتجبت عنه في مطالعته الأولى.
والله نسأل أن يرزقنا الانتفاع بعلوم الإيمان، ويهب لنا من رحمته الإخلاص في القول والعمل.